(الأفوكاتو) النبيل … مناضلون في ساحات القضاء
“سنكلير” و”باوت” الإنجليزيان في فريق الدفاع المصري لاستعادة طابا. نبيل العربي : “سنكلير” مُنصف وعادل فيما يتعلّق بقضايا الشرق الأوسط. “برودلي” الإنجليزي يدافع عن أحمد عرابي وحقه في استقلال بلاده، وآل بلنت الإنجليز يتكفلون بالأتعاب. “فيرجيس” الفرنسي يتولى قضية “جميلة بوحيرد” والجزائريون يلقبونه ب “المنصور”
في مواقف تاريخية فارقة حدث أن عارض مفكرون وفلاسفة سياسات بلدانهم الاستعمارية أو الداعمة للاستعمار من أجل نصرة العدالة والانحياز إلى المبادىء الإنسانية؛ ومن بين هؤلاء محامون أدركوا أنّ الحقّ والعدل هو غاية القانون؛ فوافق المحامي الإنجليزي برودلي على الدفاع عن الزعيم أحمد عرابي في مواجهة إنجلترا المحتلة، وذلك بطلب من السير “بلانت” الإنجليزي الأرستقراطي الذي تكفّل بالأتعاب كاملةً ، فكان كلا من بلانت وبرودلي مؤمنين بقضية عرابي كوطني حرّ يدافع عن استقلال بلاده . وبالإصرار نفسه اتّخذ الفرنسي جاك فيرجيس قرارًا بمهاجمة سياسة فرنسا الإمبرياليّة والوحشيّة في مستعمراتها التي تَشهد عليها جماجم المُناضلين الجزائريين في متحف الإنسان بباريس ، فأضحى “فيرجيس” المحامي الخاص لأيقونة الثورة الجزائرية وإحدى جميلاتها “جميلة بوحيرد”.
وحين خاضت مصر حربها الوثائقية ضد إسرائيل لاستعادة طابا في ثمانينات القرن الماضي، شارك اثنان من أهم المحامين الإنجليز في هيئة الدفاع المصريّة،رغم أنّ موطنهما إنجلترا ظلت الراعي الرسمي للوجود الإسرائيلي منذ صدور وعد بلفور وزير الخارجية البريطاني 1917 وحتى احتلال فلسطين 1948، فكان “سنكلير” و”باوت “الإنجليزيان ممّن ساهما في استعادة مصر لطابا بموجب حكم محكمة العدل الصادر في يوم 29 من سبتمبر 1988 .
كان فريق الدفاع المصري عن طابا يضم كوكبةً من كبار المُتخصصين في القانون الدولي المصريين : الدكتور وحيد رأفت والدكتور مفيد شهاب والدكتور صلاح عامر والدكتور طلعت الغنيمي والدكتور صلاح عامر والأستاذ سميح صادق .إضافةً إلى الدكتور جورج أبي صعب أُستاذ القانون الدولي في معهد الدراسات الدولية بجنيف. ورغم الخبرة الواسعة لهؤلاء جميعا استعانت الحكومة المصرية بقانونيين أجانب لأنّ لديهم خبرة في قضايا المُنازعات على الحدود ؛ فتمّ اختيار “ديريك باوت” أُستاذ القانون الدولي في جامعة كامبريدج والذي عمل لبضعة سنوات كمستشار قانوني لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، وكذلك سير “إيان سنكلير” أحد أبناء الطبقة الأرستقراطية والذي له علاقات واسعة في المجتمع الإنجليزي، وكان عند اختياره قد تقاعد حديثًا من وظيفته كمستشار قانوني للخارجيّة البريطانية ، لكن علاقته القوية بها مكنتهُ من الاطلاع على الوثائق والخرائط المتوافرة بشأن طابا في الأرشيف البريطاني.
ويشير د. نبيل العربي في مذكراته إلى أنّه– بوصفه رئيس الوفد المصري في مفاوضات طابا – رأى الاستعانة ب “سنكلير” ؛ إذ أنهما تزاملا في اللجنة القانونية للأمم المتحدة 1966 وكثيرًا ما دارت بينهما نقاشات حول مشاكل الشرق الأوسط،والتي بيّن “العربي” من خلالها أن “سنكلير” شخص مُنصف ومُتزِن ، وهو ما ثبت مجددًا حين رحّب بالانضمام إلى فريق الدفاع عن مصر. كما رحب “باوت” الذي اختاره نبيل العربي بوصفه أبرع من ترافعَ أمام محكمة العدل الدولية .
أما “سنكلير ” فقد تواصل مع ابنة “باركر باشا ” حاكم سيناء قبل الحرب العالمية الأولى والذي وضع كتابًا يضم صورًا للعلامة الأخيرة على شاطىء خليج العقبة “العلامة 91 ” وتلك الصور أكدت أن خط الحدود يمرّ بالمرتفعات الشرقية وفق وجهة النظر المصرية وليس في قاع الوادي كما تدّعي إسرائيل .وقدّم “سنكلير” كممثل للجانب المصري شرحا مفصلا للأصول التاريخية للنزاع ودحضَ مزاعم إسرائيلية بشأن خرائط بريطانية صدرت إبان الحرب العالمية الأولى .
وذكر نبيل العربي أن ( “باوت” هو الذي قام بالعبء الأول في استجواب الشهود الإسرائيليين وفي إعداد الشهود المصريين وبكل صراحة كان باوت هو المخطط الرئيسي لآلية المُرافعات وبذلك لعب دورًا رئيسيًا في نجاحنا في استرداد طابا).
برودلي محامي عرابي:
بقدرٍ أكبر من الشجاعة وقف المحامي الإنجليزي برودلي أمام سياسة بلاده إنجلترا في مصر، ووافق على الفور أن يكون أحد أعضاء هيئة الدفاع عن الزعيم أحمد باشا عرابي في مواجهة سلطات الإنجليز . كان عرابي قد استسلم وصحبه عقب هزيمتهم في التل الكبير للقوات البريطانية التي دخلت القاهرة فتم إيداعهم أحد الغرف السفلية في قصر عابدين.
جاء “برودلي “إلى القاهرة بمجرد أن استدعاه “ويلفريد بلنت” الإنجليزي الذي كان يعيش مع زوجته الليدي بلنت في القاهرة وكانا مولعان سويًا بالاستكشاف وبتربية الخيول ، وكان عرابي صديقا شخصيا لهما، وقد رأى فيه “بلنت” قائدًا أمينًا لشعبٍ مظلومٍ يناضلُ من أجل الحرية ولأنّه أراد له محاكمة عادلة اتصل ب “برودلي” معلنًا له تكفّله بالأتعاب كاملة .
آمن برودلي بقضية الشمال الأفريقي ضدّ الاحتلال ؛ففي تونس وقف مُدافعًا عن محمد الصادق باي تونس وألّف كتابًا عن الغزو الفرنسي لتونس . وفورَ أن استدعاه “بلنت”قرر المجيء إلى مصر وقد مرّ قبلها بباريس حيث التقى الخديوي إسماعيل والذي لم يكن رأيه بشأن عرابي إيجابيًا فقد وصفَه ب”المخادع” الذي يتحدّث ولا يفعل إلا القليل في حين أن أشجع رجال حزبه هما “علي فهمي “و”عبد العال” فهما جنديان بحقّ .أمّا عرابي- في يقين إسماعيل – فلا يعرف الوطنية والشعور الوطني . وأكد “برودلي” أنّه فهم كثيرًا عن الأحداث في مصر من خلال لقائه بإسماعيل . ومن باريس انتقل برودلي إلى تونس التّي- كما ذكر في مذكراته- وصلتها شهرة عرابي فكان أهل تونس يتضرعون في المساجد والأضرحة كي ينصر الله عرابي.
تكوّن فريق الدفاع عن عرابي وصحبه من :برودلي ، مارك نابير النبيل البريطاني واسع الاتصالات الضليع في القانون ، مستر “إيف” الذي لم يبقَ طويلًا.
يتحدّث برادلي عن لقائه الأوّل ب”عرابي” فيقول :”كانت عيناه تشُعّان ذكاءً حادًا وابتسامتُه جذابة، بشرته أفتح من بشرة ابنه ولكن أنفه مفلطح جدّا وشفتيه غليظتان فلا تسمح له أن يصف نفسه بأنه رجل وسيم …وعلى طريقة الفلاحين كان حول رسغه وشمٌ على شكل شريط ولم يكن يتخلّى عن الإمساك بمسبحة سوداء صغيرة”
وبعد فترة من مجيئه إلى مصر، نقل برودلي نشاطه من فندق شبرد إلى “بيت المُفتي” بحي الجماليّة وأقام قِسمًا للترجمة أسند رِئاسته للمستشرق “ادوارد بولدين” ، وعمل تحت رِئاسته جوزيف قنواتي ونجيب ابكاريوس . ومن روما جلب مستر “سانتلانا” .كانت مسز “بلنت”تتعاون هي الأخرى وتمدّ برودلي بكل ما ينشر في صحف إنجلترا حول القضية.
بيّن برودلي أن مراجعة سجلات الحكومة وحسابات السّكة الحديد والتلغراف وغيرها من الخدمات المماثلة ، أثبتت أن عرابي وإخوانه لم يمسوها وأنّهم ذهبوا للمنفى لا يحملون إلا ملابسهم التي كانوا يرتدونها والرّاتب الزهيد الذي صرفته لهم الحكومة المصرية. ومع هذا صدر حكم المحكمة العسكرية الخديويّة المصرية برئاسة رؤوف باشا في 3 ديسمبر 1882 بنفي عرابي من الأقطار المصرية .
ولم يُخفِ برودلي إحباطه من هذا الحكم وأنّه كان يتمنى عودة الوطنية المصرية لمباشرة نشاطها والعفو عن الزعماء، ولكن للأسف لم تتحقق تلك الأمنيات .
لكن هذا الحكم الجائر لم يمنع عرابي من الامتنان ل”برودلي” بل وكذلك أميرات الأسرة العلوية اللواتي انتصرْنَ لعرابي وموقفه وأرسلْنَ إلى برودلي يشكرْنَه على موقفه من قضية زعيمهم الوطني . وبعدما وصل عرابي إلى منفاه في جزيرة سيلان بعث برسالة إلى برودلي في من 24 يناير 1883 ” بعد إهداء مزيد سلامي على حضرتكم نخبركم أننا جميعًا وصلنا إلى كلمبو بجزيرة سيلان بغاية الصحة في 10 يناير 1883 بعد أن قطعنا 14 يوما في سفر البحر وحصل لنا من حكومة الجزيرة غاية الإكرام وحضروا لنا البيوت اللازمة وأكرمونا بالمآكل الفاخرة التي تكفي لمنازلنا فنحن جميعًا نثني على رجال الحكومة الانكليزية بكل لسان على ما صنعته معنا من حسن الاعتناء كما كنا نأمل فيها وأننا سندخل أولادنا بمدارس البلد ونحن نتعلم أيضا اللغة الإنجليزية”
وبعد عام من صدور حكم النفي ، شرع ” برودلي ” في كتابة مذكرات مفصّلة عن تجربته في الدفاع عن عرابي وصحبه، لتكون مرجعًا تاريخيًا لا عن القضية فحسب ولكن عن تلك الفترة التاريخية وشخوصها وملابساتها بوجه عام .
كانت فرنسا الشريك الأهمّ لإنجلترا في الإمبريالية الوحشية في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين . لكن التاريخ يشهد أيضا أنّ ضمير فرنسا الحرّ الذي جسدته مبادئ الثورة الفرنسية 1789 التي ألهمت أوروبا أجمع ، قد تجلّى في موقف مفكرين ومثقفين فرنسيين دفعهم ضميرهم اليقظ إلى الدفاع عن الثورة الجزائرية والمطالبة بإنهاء الاحتلال الفرنسي .
ضمير فرنسا الحرّ :
ويبقى الموقف الأبرز متجسّدًا في ذلك البيان الشهير الصادر عام 1960، ووقّعه 121 مثقفًا فرنسيًا منهم : جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار والممثلة الشهيرة سيمون سينيوريه، ومارجريت دوراس وكلود سيمون التي حازت فيما بعد على جائزة نوبل للآداب، والناقد المَرموق “موريس بلانشو”. وكان لهذا البيان صدى قوي عبّر عنه الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بيلا: ” لقد دوى بيان الـ 121 كما لو أنّه صاعقة، بالنسبة لنا نحن قادة الثورة الجزائرية، كما بالنسبة لأعداد وافرة من الجزائريين. إن هذا البيان جنّبنا الحقد والكراهية، و جاء ليذكّرنا بأن الشعب الفرنسي لا يمكن اختصاره في الحرب التي كانت تضربنا بشدة.”
وقد لاحقت الحكومة الفرنسية أصحاب البيان وتم القبض على “فرنسيس جينسن” صاحب فكرة البيان وبعض رفاقه و تقديمهم للمحاكمة. وفصل أساتذة الجامعة الذين وقّعوا عليه وتم تعطيل الصحف التي نشرته. لكن تلك التصرفات التعسفية من الحكومة الفرنسية، لم تمنع الطلاب الفرنسيين من مساندة البيان وأيضا المحامين الفرنسيين الذين انبروا للدفاع عن المعتقلين الجزائريين ، والجزائريات تحديدًا لتعرضهن إلى أبشع درجات التعذيب ، ومن بينهم المحامية “جيزيل حليمي” وهي تونسيّة يهودية فرنسية دافعت عن عدّة ثوّار جزائريين ومنهم المناضلة “جميلة بوباشا” ، وفي أبريل 1962 أصدر فى باريس كتابا عن قضيتها ورسم غلاف هذا الكتاب الفنّان العالمي ” بيكاسو “. وبسبب هذا الموقف النبيل من “جيزيل” فحين توفيت 2020 ، رفضت عدد من زوجات وبنات “الحركي” الجزائريات “وهم من حاربوا في صفوف القوات الفرنسية” نقل رفاتها إلى مقبرة العظماء “البانتيون” في باريس ” باعتبار أن جيزيل لم تُخفِ يومًا كراهيتها وازدراءها ل”الحركي” بوصفهم خونة تعاونوا مع الاستعمار ضد أبناء وطنهم.
وإذا كانت الجذور العربية قد تفسر سر تعاطف “جيزيل” مع القضية الجزائرية ، فإن جاك فيرجيس لم يدفعه لذلك سوى ضميره الحرّ الذي جعله يؤازر أيضًا القضية الفلسطينيّة،ولعل هذا التعاطف أيضا توّلد بسبب معرفته بما يحدث في الشرق الأوسط عقب انضمامه إلى القوات الفرنسية الحرّة ومشاركته في حروبها ضدّ ألمانيا النازية في بريطانيا وفرنسا والجزائر والمغرب برتبة ضابط صف .
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انضم “فيرجيس” إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وواصل دراسته بالحقوق بباريس ، وترقّى في الحزب إلى أن أصبح الأمين العام للاتحاد الدولي للطلبة فسافر للعديد من الدول وصادق عددًا كبيرًا من الشخصيات.
أنهى دراسة الحقوق 1955 وتبنّى الفكر المناهض للاستعمار فانبرى للدفاع عن الشابة الجزائرية “جميلة بوحيرد”بعدما أُلقي عليها القبض في 9 أبريل 1957 وتعذيبها للحصول منها على معلومات تخصّ “جماعة واضعي القنابل ” التي كانت إحدى عضواتها .
قضت جميلة في السجن 6 سنوات منها ثلاث سنوات في الجزائر ، ومنها ثلاث سنوات في فرنسا .ذاقت خلالها كلّ صنوف التّعذيب من الصعق بالكهرباء . وحين فشلوا في انتزاع اعترافات منها ، قدّموها لمحاكمة صورية وصدر ضدها حكما بالإعدام عام 1957 ..هاجت الدنيا وماجت بعد أن أضحت قضية “جميلة بوحيرد” قضية رأى عالمي خصوصًا في ظلّ جهود ذلك المحامي المُناضل جاك فيرجيس الذي تولّى الدّفاع عن جميلة واعتبر براءتها قضية حياته ، وقد كانت بالفعل فقد أصبحت جميلة زوجته فيما بعد .وتأجّل تنفيذ حكم الإعدام في جميلة ، ثم عُدّل إلى السجن مدى الحياة، وبعد تحرير الجزائر عام 1962، خرجت “جميلة بوحيرد” من السجن كالعذراء التي أنصفتها السماء، خرجت لتجوب العواصم العربية التي حرصت على الاحتفاء بها.
لفت فيرجيس انتباه العالم أجمع إلى القضية الجزائرية فأطلقت عليه جبهة التحرير الوطني الجزائري لقب “المنصور” . استقرّ فيرجيس في الجزائر بعد استقلالها وحصل على الجنسية الجزائرية وعمل بوزارة الخارجية . في عام 1965 تزوّج جميلة وأنجب منها مريم 1967 وإلياس 1969
لكن الرئيس الجزائري “بن بيلا ” أعفى فيرجيس من مهامه 1963 بسبب لقاء فيرجيس مع زعيم الثورة الشيعية الصينية ماوتسي تونغ، فعاد فيرجيس إلى باريس وأسس مجلة “الثورة” ولم يعد للجزائر إلا بعد الإطاحة بحكم بن بيلا 1965 ليعمل محاميا بالجزائر حتى 1970.
وبعد أن اختفى لمدة 7 سنوات دون أن يكشف عن سر هذا الاختفاء طلبت منه جميلة الطلاق وقيل إنه كان وقت اختفائه في كمبوديا رفقة بول بوت زعيم “الخمير الحمر” وقيل إنه كان برفقة وديع حداد القيادي بالحركة الشعبية لتحرير فلسطين .أيا كان السبب فقد عاد عام 1978 إلى باريس ليزاول مهنته كمحامٍ فدافع عن الفينزويلي “كارلوس” المتهم بالإرهاب وزميله السويسري “برونوبريغيت” والألمانية “ماغدالينا” كوب المعروفين بمساندتهم للقضية الفلسطينية واللبناني جورج إبراهيم المعتقل بفرنسا 1984 بتهمة اغتيال دبلوماسي أميركي وآخر إسرائيلي ،وترافع فيرجيس عن صدام حسين ووزير خارجيته طارق عزيز . ولدفاعه عن كل تلك الشخصيات لقب ب”محامي الرّعب” .