نموذج سايكولوجي لحياة ذات معنى

فكَّر البشر في معنى الحياة منذ تطوّر نظام إدراك معرفي ذو مرتبة عليا من خلال الوعي المجرد. ففسر الأفراد وجودهم من خلال الميتافيزيقيا مثل: الدين والفلسفة والعقلانية العلمية. وكلّ محاولة من هذه المحاولات تشكل وسيلة لفهم وشرح كيفية اختيار الناس لدورهم في العالم. ولكن ماذا عن علم النّفس؟ كيف يحدّد علم النفس الدافع البشري لتحقيق معنًى؟ هناك العديد من النظريات لفهم هذا الدّافع البشري، وعليه قام مفكرون عظماء مثل سيجموند فرويد وكارل جونج وإبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل وغيرهم من المفكرين باقتراح نظريَّاتٍ لفهم الأسباب التَّي تحفّز البشر وتُشعِلُ فيهم الدّافع.

ونحن نقترح نموذجًا نفسيًا لتفسير الدَّافع البشريّ لتحقيق المعنى، حيث يطرح هذا النّموذج العديد من الفرضيات للحصول على رؤيةٍ موحَّدةٍ لعلم النفس لفهم هذه الظاهرة، فنفترض التَّالي : لكي يجد الأفراد القناعة في حياتهم يتعيَّن عليهم أن يعملوا على إيجاد الهدف المثالي الذي يزوّدهم بالمغزى والغرض من الصُّمود في وجه المصاعب العديدة التي يواجهها الفرد.

الهدف المثالي، تحقيق الذات والفعل:

يجب على الأفراد أن يلاحقوا المعنى في حياتهم بوصفه هدفهم المثالي الذي يسعون لتحقيقه، وذلك لكي يكونوا أفرادًا منتجين إيجابيين مع أنفسهم ومع من حولهم. وقد يكون هذا الهدف أي شيء يتمناه الفرد، وهو ما ينعكس في تصرّفاته. يمكن وصف تحقيق الذات بأنه يقينك بأنك على المسار الصحيح، وكل شيء يسير باتجاه الهدف المنشود، حيث تصبح محاولات تحقيقه اعتياديَّة في نهاية المطاف. إن الهدف المثالي الذي يحمله الأفراد في الأساس هو الذي يمنحهم معنى للحياة والغرض من العمل.

الملاحظات الذاتية والخارجية: يتجلى سعي الأفراد نحو تحقيق الهدف المثالي من خلال الأفعال؛ ويتم تقييم هذه السلوكيات باستمرار من خلال الملاحظات الذاتية ومن خلال ملاحظات الآخرين.

كيف يعرف الناس ما إذا كانت رؤيتهم لأنفسهم وتصرفاتهم تتماشى مع هدفهم؟ أولًا: الملاحظات الذاتية،  فهي مهمة لأنه يجب التأكد من توافق أفعالك مع أقوالك. ثانيًا: ينبغي على الآخرين أن يشعروا بأن أفعالك تعكس أقوالك، على سبيل المثال: أقول لنفسي إنني أستطيع أن أقذف كرة قدم مسافة مائة ياردة، أقوم بالتأكد من ذلك بالتطبيق، ثم أقول لمنافسي أنني أستطيع رمي الكرة مسافة مائة ياردة و أُرِيه ذلك على أرض الواقع، هذه الملاحظات هي إثبات لمعرفة أنني أحقق أفضل ما لدي وحتى الشخص الذي يتحداني سوف يوافق على أنني صادق.

إعلان

ولكن ماذا يحدث عند اختلال التوازن؟

يمكن القول: إن الفرد الذي يمتلك نظام انحياز معرفي ذاتي لديه تحقيق ذات كاذب. يَعتَقِدُ هذا النوع من الأفراد أنّهم يجسدون هدفهم على الرغم من أن كلماتهم وأفعالهم غير متناسقة مثل: النرجسيون والمعتلون نفسيًا (السايكوباث)، بينما يصنف الفرد الذي يستمع فقط إلى ملاحظات المجتمع بأنه مُضَحٍ بالنفس، كما يتجاهل هذا النوع من الأفراد صوتهم الذاتي ويجسدون معتقدات المجموعة معتقدين أن هدفهم يتمّ تحديده فقط من خلال المجتمع ،مثل: الأشخاص المسيرين أيديولوجيًا كالنازيين.

بنية الدعم

يحتاج الأفراد إلى شبكة دعم متعددة الأوجه لتصور وتحقيق أهدافهم .
ممَّ تتكون بنية الدعم؟ يمكن أن تشمل الأسرة والأصدقاء والأخلاق والقيم والمعتقدات والتعليم والقراءة والبودكاست وما إلى ذلك. إذ أن هيكل الدعم للفرد يساعده في الحصول على أساس للتُّقدم بناءً على هدفه وأفعاله. يساعد الدعم الأفراد في التغلب على المحن، ولكن في غياب بنية الدعم تتدهور قدرة الفرد على العمل، وإذا تم تعطيلها قد يؤدي ذلك بالفرد إلى الصراع حول إنشاء بنية دعم عكسي. بشكل عامٍ، تمكّن البنية الداعمة الأشخاص من وضع تصوراتهم حول هدفهم وتنفيذ الإجراءات اللازمة لتحقيقه.

الصراع

عندما يفقد الفرد تصوره لهدفه يقع في صراع داخلي يبعده عنه، وفي هذه اللحظة يجب على الفرد تقبل وتجاوز هذه العوائق ليعود لمتابعة هدفه. يواجه الأفراد معضلة عندما يتناقض شيء ما مع تصورهم لأفعالهم تجاه هدفهم، وعندما يحدث هذا التناقض، يجب على الناس مواجهة هذه العيوب وإلا سيسقطون في الفوضى، وإذا كان الشخص لا يستطيع إعادة هيكلة تصوراته، فسيقع في نزاع أكبر بعيدًا عن هدفه المثالي.

يثير هذا الصراع المشاعر السلبية والقلق والألم الداخلي والخوف والغضب وما إلى ذلك، وقد يصبح أكثر سوءًا عندما لا يستطيع الأفراد استخدام قدرتهم على تحقيق المثل الأعلى. وللتَّغلب على هذه الفوضى، يجب على الأفراد إما أن يبحثوا عن نوع من التدخل العلاجي، أو السعي لملذات قصيرة الأمد لتجنب المشاعر السلبية. وفي هذا السياق، إما أن يتغلّب الأفراد على عدم توافق تطلعاتهم مع هدفهم أو سيغرقهم فشلهم المستمر في إيجاد المعنى، وبناء على هذا، يمكن اعتبار الأشخاص الذين يعانون من الإدمان كمثال على الأفراد الغارقين في الفوضى. وبالنسبة للصراع الداخلي هو عملية طبيعية تحدث لدى الأفراد لإعادة توجيه هياكلهم السلوكية، و إن لم يتغلبوا على هذا التوتر، فسوف يستسلمون لفوضى اللا معنى.

حتى الآن تفشل الكثير من الجهود لمعالجة قضايا مثل الاكتئاب أو الإدمان بسبب حاجة الأفراد لإيجاد معنى في حياتهم، كما يمكن أن يساعد نموذجنا النظري في معالجة هذه القضايا وتوحيد جهود الصحة النفسية في إطار واحد لتحسين المجتمع، قال فيكتور فرانكل ذات مرة: “ما يهم ليس معنى الحياة بشكل عام بل معنى الحياة لشخص معين في لحظة معينة”.

نرشح لك: الحياة في كتاب الإنسان يبحث عن المعنى

المصدر

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

تدقيق علمي: آلاء الطيراوي

ترجمة: طريف المدرس

اترك تعليقا