نظرة على رواية بريد الليل

بعد حصولها على جائزة البوكر العربية لهذا العام، عدتُ إلى رواية بريد الليل التي كنت قد قرأتها منذ فترة لأتذكر معكم أغلب ما جذبني إلى الرواية عندما قرأتها للمرة الأولى.

العتبة الروائية

العنوان هو ما يجذب أغلبنا لأي عمل أدبي، وفي روايتنا (بريد الليل) نجد أنفسنا محاطين بعنصرين من أكثر العناصر الأدبية رمزيةً.

البريد: الرسائل نمط أدبي سائد، استخدمه الكثير من الكُتاب في القصص والروايات والمسرحيات، وحتى في الشعر، والرواية بالتأكيد ليست العمل الأول الذي يعتمد على فكرة الرسائل في بنائه، هناك أعمال متعددة قائمة على نفس الفكرة، بعضها قد يكون رسالة اعتراف، البعض الآخر قد يكون رسائل متبادلة بين عدة أشخاص، وبعض الأعمال تقوم فكرتها على رسالة مجهولة المصدر تثير أحداث العمل بعد ذلك، أما ما يميز الرواية أن الرسائل غير متبادلة والقارئ يعرف يقينًا أنها لن تصل إلى أصحابها.

أما الليل: فيرمز لكل ما هو غامض وخفي وسري وغير مكتمل، في الليل تبدأ الكثير من القصص وتنتهي دون أن يسمع عنها أحد، في الليل يسهر العشاق ويفكر المهمومون ويتأمل المفكرون، في الموروث الشعبي العربي اتُفق على أن خطايا الليل وأسراره تنتهي بمجرد بزوغ الشمس!

في بريد الليل أرادت الكاتبة استغلال تيمة الرسائل بكل ما تثيره في النفس من شجن والربط بينها وبين الليل بكل ما يحمله من ظلام وظلم، ربما لتعبر عن مشاكل أبطالها وعدم قدرتهم على مواجهة الواقع، من خلال رسائل لن تصل إلى وجهتها أبدًا.

إعلان

ربما لهذا السبب اختارت الكاتبة هدى بركات أن يكون الليل أحد أبطال القصة الخالية أصلًا من الأبطال، في الرواية القصص كلها غير مكتملة، وأيضًا الشخصيات جميعهم يعانون من نقصٍ ما.

من خلال الرواية نقرأ خمسة رسائل لخمسة أشخاص مختلفة، كل رسالة كتبها صاحبها في جزء من الليل تحمل معها جانبًا من نفسه، في لحظاتٍ خاصة جدًا من البوح المؤلم لكل أو لبعض ما مر به خلال حياته، عبر كل رسالة نتسلل في سلاسة تُحسب للكاتبة إلى حياة صاحب الرسالة، ونصل معه إلى درجة قصوى من التعاطف مع ما عاشه من مآس، فنقف على حافة الشك ونعجز عن إطلاق الأحكام؛ ففي الرواية جميع الشخصيات مدانة ومظلومة في نفس اللحظة، لا يوجد أبيض وأسود بل هو ثوبٌ كبير من اللون الرمادي، حيث الجميع يحمل بذور الخير والشر معًا، وهي بالفعل الصورة الحقيقية للنفس البشرية التي تحاول دومًا أن تتجمل ولا تظهر جميع جوانبها إلا من خلال رسائل بوح خاصة من هذا النوع.

اللغة والسرد في رواية بريد الليل

تتميز الرواية بلغة مختصرة مكثفة شديدة الاختزال، وهو ما أدى إلى قصر الرواية الشديد، لكن الكاتبة نجحت تمامًا من خلال لغتها السردية المباشرة من جعل القارئ يتوحد تمامًا مع شخوص الرواية المجهّلة حتى من أسمائهم! وكأن الغرض كان أن يرى كل قارئ جانبًا من نفسه في أي جزء من الرسائل.

نتعرض في الرسائل إلى الكثير من الحالات الإنسانية، فمثلًا في الرسالة الأولى نجد أنفسنا أمام قصة حب ملتبسة الجوانب بين رجل وامرأة، نتعرف على القصة من خلال الرسالة الأولى والأخيرة في حياة الرجل التي يكتبها دون أن يعرف السبب، ليحكي فيها عن أمه التي تخلت عنه وعن فقره وضعفه وفشله.

الرسالة الثانية تكتبها حبيبة إلى حبيبها عاشقان باعدت بينهما السنون، في كل رسالة نجد الكثير من الشخصيات الفرعية التي تختبئ بين التفاصيل.

تتميز الرسائل بتنوع العلاقات أيضًا، فنجد الرسالة الثالثة يرسلها ابنٌ إلى أمه يحكي فيها عن التغيرات التي اكتسحت حياته بعد تعرضه للاعتقال، وكيف تحول بالفعل من إنسان بريء إلى مجرم يعترف بجرائمه.

الرسالة الرابعة تنعكس فيها العلاقة لنجدها موجهة من ابنٍ عاقٍ إلى والده، وكأن الكاتبة تثير نوعًا جديدًا من عقدة (أوديب). الرسائل بالفعل تغطي جميع العلاقات الإنسانية بكل ما يمكن أن يحيط ويرتبط بها من مشاعر وآثام ومشاكل متشابكة، كل هذا صاغته الكاتبة بأسلوبٍ مكثف لتنتهي الرواية في 128 صفحة فقط.

وفي كل رسالة تختلف لغة الكاتبة نفسها لتتوافق مع طبيعة صاحب الرسالة وجنسه، حتى ليصعب على القارئ أن يصدّق أن شخصًا واحدًا نجح بالفعل في كتابة الرسائل الخمس!

أقسام الرواية

الرواية مقسمة إلى ثلاثة أقسام هم:

(خلف النافذة): حيث تأتي نصوص الرسائل بشكل مباشر نتعرف من خلالها على جوانب الشخصيات وحياتهم

القسم الثاني (في المطار): فيه نتعرف على جوانب مختلفة لشخصيات أصحاب الرسائل، حتى نصل إلى القسم الأخير (موت بوسطجي): الذي يترك مصائر هذه الرسائل مجهولًا تمامًا، مثل مصائر أصحابها وجميع المقهورين المظلومين في هذا العالم.

الرواية عملٌ ساحر بالفعل يترك في النفس أثرًا عميقًا مع شعورٍ غريب بالصدمة والعجز عن إلقاء الأحكام؛ ففيها سنتعاطف مع المجرم، ونشفق على الظالم، ونربت على من استسلم لمتاعب الحياة وتخلى عن مبادئه.

اقرأ أيضًا سلمان رشدي، توقعّت روايتي فوز ترامب، وروايتي الأخيرة أغرب ما قدمت حتى الآن 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ياسمين أحمد مصطفى

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

الصورة: مريم

اترك تعليقا