إمرأة.. قصّة قصيرة

أخذَت تضم جسد الصغيرة إلى صدرها بضراوة وكأنها تحاول أن تعيدها إلى داخلها من جديد .. بينما أخذت الصغيرة تصرخ بتشنُّجٍ من عنف العناق ودموع أمها التي أغرقت صدرها..

العالم من حولهما كما هو.. لا شيء توقف من أجل تلك اللحظة المشحونة ولا شخص تحرّك ليُخفّف من حدة الموقف..

رأت من حولها الناس بوجوهٍ متعددِّة.. بعضهم اعتاد الموقف تمامًا فأخذ يتحرك بعمليّة تامّة.. يصافح الجميع بسرعة.. وينهي الإجراءات بسهولة كاشفًا عن خبرة لا بأس بها بتاريخ الغربة والاغتراب، والبعض الآخر متوتر يراجع خطواته ويسأل عن كل شيء أكثر من مرة.. يُصافح من معه بأصابع مرتجفة ويحبس دموعه خلف صورة مهتزّة من التَماس..

بينما هي تتمنّى لو يتوقف كل شيء.. أو أن ينتهي كل شيء.. تتمنّى لو يعود الزمن إلى الوراء لحظةً واحدة تتمكّن فيها من حسم قرارها من جديد…

أرضية المطار المصقولة لامعة كمرآه تعكس ما يدور داخلها من تأملات.. يراودها خاطر أبله يحثّها على التراجع والركض بطفلتها التي كفّت عن الصراخ وأخذت تنظر إلى ما يدور حولها بلا أي فهم.. لكن نظراتها تتلاقى بعيون والداها الجامدة التي تخبرها بلا صوت أن الوقت قد فات..

إعلان

من جديد تتحاشى النظر إلى الجميع مكتفيةً بضم جسد ابنتها الضئيل.. التقطت أنفاسًا طويلة مسموعة أشبه بالشهقات.. وناولت ابنتها لوالدتها محاوِلةً إنهاء الموقف.. صافحت الجميع بحرارة وتحسّست جسد وشعر ابنتها بلهفة للمرّة الأخيرة.. عدلت من وضع حقيبتها على كتفها، وألقت على الجميع نظرة أُخرى شاملة.. حرّكت يدها وفتحت شفتيها وكأنها تهم بأن تقول شيئًا ما.. لكنها لم تقل أي شيء!

أطرقت بعينيها لحظات أُخر.. قبل أن تشد قامتها وترسم على وجهها ابتسامة زائفة.. دفعت عربتها التي تحمل حقيبتها الوحيدة أمامها بثبات نسبي.. وقبل أن تتجاوز الحاجز.. التفتت إلى الجميع قائلة بخفوت:

_ لا إله إلا الله..

لم تسمع الإجابة المحفوظة.. ولم تدرِ كيف طفرت الدموع من عينيها.. بدت وجوههم جامدة شاحبة وكأن الجميع يحبس انفعالاته حتى نهاية الموقف، فقط ابنتها كانت تنظر إليها من غير فهم.. قبل أن تعود للعبث بعُقد جدتها بذلك الاهتمام الفطري للأطفال لكل ما يصدر صوت..

هُنا..

وهنا فقط.. اندفعت لتمُر عبر الحاجز الزجاجي.. لم تدرِ كيف أنهت وزن الحقيبة ولا كيف وضع أحدهم في يدها تلك البطاقة وطلب منها أن تملأها. تلفتت تبحث عن ركنٍ يصلح للكتابة، رغمًا عنها نظرت إلى ما خلف الحاجز، لكنها لم تر أي شيء.. لا تدري هل لأن عينيها غائمتان. .! ام لأنهم انصرفوا بمجرد دخولها.. !

بحثت بأصابع مرتجفة داخل حقيبتها عن قلم.. لم تكن تنظر داخلها.. فقط كانت تكتفي بتحسّس أصابعها للأشياء..فجأة اصطدمت أصابعها بجسمٍ معدني.. تحسسته في حيرة متسائلة عن كنهه.. عقدت حاجبيها وهي تُخرجه لتتأمله بين أصابعها الدقيقة .. عادت تلتفت إلى ما خلف الحاجز من جديد قبل أن تَشْرُد نظراتها تمامًا..!

· * *

وقفت أمام الباب محاولةً استجماع أنفاسها اللاهثة.. وضعت يدها الدقيقة على قلبها مهدئةً من خفقاته المتوثبة.. لم تكف ابدًا عن عادتها الطفولية في صعود السلم ركضًا على الرغم من أنها أصبحت الآن أم.. لم تحاول أن تغيّر أي عاداتها السابقة سِوى ذلك القناع الجامد الذى تضعه على وجهها بمجرد تخطيها لعتبة الباب.. !!

قد يعجبك أيضًا: مكتبة الكهل الأريب

أخذت نفَسًا عميقًا وهي تفتح حقيبتها وتبحث بأصابعها داخلها بحثًا عن المفتاح .. لم تنظر إلى داخل الحقيبة، فقط اكتفت بالعبث داخلها بينما ثبتت نظرها على الباب.. اصطدمت أصابعها به فأخرجته مسرعة.. وبنفس الاضطراب أولجته في ثقب الباب.. دفعت الباب واندفعت إلى الداخل.. ركضت إلى غرفته راسمةً على شفتيها ابتسامةً جامدةً.. منذ الحادث اعتادت أن تخفي عنه كل انفعالاتها.. كما اعتادت أن تترك الصغيرة عند أمها.. من الصعب على من لا يستطع الوقوف على قدميه مراعاة طفلة بالكاد تجاوزت عامها الأول.. خفق قلبها وغامت عيناها وهي تقف على باب الغرفة هادئة الإضاءة.. نظرت إليه طويلًا وهو غارق في قراءة كتابٍ بين يديه.. سألت نفسها للمرة الألف .. إذا كانت قد درَّبت نفسها طويلًا على إخفاء انفعالاتها.. فكيف يمكن أن تتعلم أن تخفي لمعة عينيها وارتجافة صوتها عندما تراه.. ؟

طرقت بابه في مرح زائف.. و رسمت على وجهها أجمل ما يمكن للزيف أن يصنعه من ابتسامة.. اقتربت منه قائلة في خفوت:

_ظننتك نائمًا..

التفت إليها.. رآها تقترب بثيابها المبعثرة من أثر الخروج .. لم يرهَا أبدًا إلا طفلة.. حتى وهي أم طفلة تحمل مسئوليتها ومسئوليته.. تأمّل أطرافها الدقيقة وملامحها الرقيقة.. تذكر في لحظة كيف تم زواجهما.. وكيف أصر هو على أن تُكمل دراستها، على الرغم من ضعف إمكانيته.. أراد أن يراها دومًا على أفضل حال..

_لم أنم أبدًا وأنتِ خارج البيت..

قالها بابتسامة صادقة احتفظ بها وهو يحاول قليلًا الاعتدال في جلسته.. جلست إلى جواره.. نظرت مليًّا إلى وجهه، لا تعلم من أين تبدأ.. ازداد نحولًا وازداد شعره الأسود الكثيف طولًا من طول بقائه في المنزل.. ملامحه كما هي حادة، ثاقبة.. فقط نظراته انكسر بها شيء ما.. تأملَته وسط أثاث الحجرة البسيط بدا لها كأسيرًا وقع في الأسر.. أو كملك فقد قصره ومملكته.. ترددت.. مسّت كفّه بيدها الباردة، همست:

_اشتقتُ إليك.

اعتمد بكفّيه على الفراش محاولًا الاعتدال أكثر.. رفع وجهها إليه .. نظر في عينيها.. قال بقلق:

_تُخفين أمرًا ما؟ ماذا حدث؟ 

خفضت عينيها.. تنهدت مرة أُخرى.. ترددت قبل أن تحسم أمرها لتُلقي كل ما لديها..

-إنها فرصة رائعة.. قد لا تأتي في العمر مرتين.. عقد عمل في الخارج براتب خيالي ومميزات لا تعوّض..

صمتت لحظة.. أشاحت بوجهها بعيدًا ثم أكملت:

-فرصة ربما تكون الأخيرة لنا جميعًا.. فرصة لإبنتنا ولي ولك.. ربما بعد عام واحد نتمكن من أن نعود إلى انفسنا.. نتمكن أن نخرج من هذه الدوامة.. ربما.. (ترددت أكثر وأشاحت بوجهها أكثر ). 

رُبما.. أقول ربما يكون هذا سببًا في أن تعود إلينا من جديد.. أنا..

عجزت عن التماسك.. طفرت الدموع من عينيها.. رفعت أصابعها المرتجفة محاولةً أن تمسحها.. واصلت دون أن تنظر إليه..

-أنا لا أريد الابتعاد .. أصلًا لا أقوى عليه.. لا أطيق الفراق عنك.. لا أتصور حياتي بدون الفتاة وبدونك.. لكن… لكن..

أدار وجهها إليه .. شعرت بلمسته الدافئة كالنار على كيانها.. نار صديقة تدفئ ولا تحرق.. مسح دموعها بأطراف أصابعه.. وهو يكمل عبارته بخفوت:

– لكن حياتنا أضيق من أن تتحمل اختيارات متعددة.. دائمًا هناك اختيار واحد يحدد كل شيء.. لا مجال للحيرة.. وهذا من حُسن الحظ.. فلا ينقصنا إلا هي لتكتمل المأساة..

نظرت إليه في عدم فهم .. لكنه هرب من عينيها وأطرق بعينيه.. تحسّس قدمه التي لا يشعر بها.. مسكت يده بقوة.. فتحت شفتيها عاجزةً عن نطق كلمات احتبست على طرف لسانها كبركانٍ يتهيأ للانفجار..

ظلّت على حالها.. حتى قال:

قد يعجبك أيضًا

– أوافق .. ليس من أجل أنها فرصةً لنا جميعًا كما قلتَِ.. ولكنّي لم أكن لأقف أبدًا في طريق خطوة تخطينها للأمام.. ولم أفعل هذا من قبل أبدًا، أليس كذلك؟

أومأت عاجزة عن الرد .. بذلت جهدًا هائلًا لتنطق كلمةً واحدة.. خرجت على الرغم منها مهتزة مرتجفة:

-وأنت؟

حاول أن يبتسم.. حاول أن يمنحها الشعور بالارتياح الذي يفتقده هو.. سكت، كيف يمكن أن يكون الرد.. ألقى نظرة شاملة على كل ما يحيط به..قبل أن يكتفي بالنظر إليها.. وجد نفسه يقول بلا وعي:

ما للعبيدِ منَ الذي

يقضي بهِ اللهُ امتناعُ

ذُدْتُ الأسُودَ عَنِ الفَرَا

ئسِ، ثمَّ تفرسني الضباعُ

ابتسمت على الرغم منها وهي تنظر إليه.. سألته:

-لازلت تعشق الشعر..

احتواها بعينيه مجيبًا:

-لأنه يشبهك..

بدت ضحكتها بصفاء الشروق وبهاء الشفق وعظمة الغروب.. أمسكت كفيه وهي مستمرة في ضحكتها التي أنارت المكان..

وجد نفسه يضحك أيضًا.. ربما لأوّل مرة منذ فتره بهذا الانطلاق.. سألها:

-ماذا؟ وجدته غير مناسب للموقف؟

احتضنته.. همست في أُذنه:

-ربما نصفه فقط..

ضمّها إليه قائلًا في وَجْد:

-لا بأس فلست أبا فراس..

ومن جديد تعالت ضحكتهما في المكان.

***

أفاقت من شرودها.. أدهشها أنها وجدت نفسها تبتسم من جديد.. شعرت بالدموع.. رفعت أصابعها المرتجفة تمسحها فوجدت أنها لاتزال تمسك المفتاح .. وضعته في حقيبتها بحرصٍ شديد.. التقطت نفسًا عميقًا، آخر وهي تحاول أن تملأ البطاقة بلا تركيز.. فتحت جواز سفرها ونظرت فيه بعينين لا ترى.. هل تسرّع هو بالموافقة لأنه لم يعد يملك ما يفعله؟ أم أن الحياة أضيق بالفعل من أن تحمل اختيارًا آخر؟ لم تفكر بالأمر كخطوة للأمام كما قال هو.. فكرت فقط فيما يمكن أن تفعله هذه الخطوة لابنتها وله ولها.. منذ بدأت في الإجراءات وهي تتصرّف بلا روح.. تشعر كما لو أنها ضاعت بالكامل.. أين هي وسط كل هذا..؟!

غريب أن حياتها فعلًا خالية من الاختيارات ..منذ فترة لم تختر أي شيء.. هل نملك فعلًا حق الاختيار؟ أم أن الدنيا ماهي لا ماتريكس آخر.. تنهدت.. فتساقطت دموعها أكثر.. أمسكت بالقلم بأصابعها المرتجفة.. لكن بدا لها أنها ترى كل شيء على ضوء شموع تداعبها الرياح.. لا تكاد تميّز السطور من الكلام.. !! ابتلّت البطاقة تحت يديها بالكامل.. حتى بدت كتقويم أتلفه المطر.. تقويم تداخلت أيامه بشهوره ففقد معناها.. لم يتبقى منها إلا بقع من الحبر وبقايا حروف وأرقام.. لكنها واصلت الكتابة.. بدا الأمر مشوّهًا تمامًا.. تمزقت البطاقة تحت سن القلم في أكثر من موضع.. مسحت دموعها مرةً أُخرى.. بدى مظهرها مبعثرًا جدًا.. خُيّل إليها أنها تسمع ضحكة ابنتها.. وتراه جالسًا على مقعده أمام النافذة.. كيف يرى الشمس بدونها.. ومن ينتظر الآن ليخبره بكل أمنياته التي لم تتحقق.. نهضت بتماسك نسبي.. ثبتّت حقيبة يدها التي أهداها إياها  منذ فترة طويلة على كتفها.. ذهبت إلى الموظف المسئول .. قدّمت له البطاقة التالفة وجواز السفر.. نظر إلى البطاقة في عدم اهتمام .. قال في لهجةٍ روتينية..

-معذرةً.. لا تصلح هذه الآن.. لا شيء واضح بها على الإطلاق.. هل يُمكنك أن تملئي واحدةً أُخرى؟

و ناولها بطاقةً جديدة .. أخذتها منه في شرود .. تحركت بلا وعي في اتجاه الحاجز الزجاجي .. وقفت على مسافة منه تحاول أن ترى والداها والطفلة.. لكنها لم ترَ أي شيء .. اقتربت اكثر وأكثر حتى التصقت بالحاجز.. ركزت بصرها جيدًا.. خُيّل لها أنها تلمحهم عند البوابة.. أنهم يتأهبون للخروج.. لا تعرف هل الموقف طبيعي إلى هذه الدرجة.. ؟ هل من العاديّ أن تنام وحدها في بلدٍ آخر دون ابنتها ودونه؟ لماذا تصرْف الجميع وكأن ما يحدث هو طبيعة الوجود..؟

شعرت أنها تريد أن تضم ابنتها وتلمسها لمرةٍ أخرى بعد.. مرةً اخيرة تنسى بعدها أنها إمرأة.. شعرت أن كل ما فيها يهفو إلى هذه الرغبة وهذا العناق.. ربما هذا هو اختيارها الوحيد الآن.. !!

لا تعرف كيف أخذت تركض في اتجاههم متجاوزةً الحاجز ونداء مسئول الأمن.. لا تعرف كيف تحركت بهذه الحرية.. لحظةً واحدة تحررت فيها من كل شيء، إلا رغبةً واحدة تملّكت كيانها كله.. صرخت تنادي والدها وأمها وكأنها طفلة صغيرة.. التفتا إليها مع ابنتها التي تهلّل وجهها فرحًا.. تجمّد الموقف كلّه.. عجز الجميع عن النطق أو الحركة.. اختطفت ابنتها وضمتها إليها وكأنها غابت عنها دهرًا.. أخذت تقبلها بفرحٍ جنونيّ.. استردت جزء من نفسها مع أنفاسها المتقطعة.. وجدت نفسها تقول لاهثةً:

-هيا .. لنَعُد إلى بيتي.. لقد وجدت المفتاح معي.. هيا يا أمي.. هيا يا أبي.. لنعُد إليه..

تحركت بينهما حاملةً طفلتها الصغيرة بثبات افتقدته طويلًا.. بثبات إمرأة منحها إياه رجل.. !!

قد يعجبك أيضًا: البيت المسكون لـ فرجينيا وولف

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ياسمين أحمد مصطفى

تدقيق لغوي: نَدى ناصِر

اترك تعليقا