فيلم Dog Day Afternoon: تحفة آل باتشينو المنسية
بعض الأفلام تحكي قصة وتحرك فيك شعورًا معينًأ والتي تسرد قصةً ما، البعض يروي قصة ويحرك مشاعرك ويتركك بفكرة أو برأي، البعض يروي قصة ويترك لك شعورًا ويعطيك فكرة ويكشف شيئًا عن نفسك والآخرين لم تكن تدركه. فيحكي فيلم Dog Day Afternoon قصة رجل ضاق ذرعًا بالعالم وقرر التصرف، ويتركك بمشاعر مختلطة من التعاطف والغضب والحزن، ومن المؤكد أنه يذكرك بما يربطنا بمن نراهم غريبي الأطوار، ونعاملهم كالمسخ، وأنهم ليسوا المخلوقات الغريبة التي نتصورها لهم، بل نشترك معهم في بعض أكثر السلوكيات فظاعة مما قد نعترف به على الإطلاق، شاهد واحكم بنفسك، فيقوم البعض بالسطو على البنوك طمعًا في الأموال، أو لموقف سياسي معين، أو مجرد عمل إجرامي، لكن هذه المرة لسبب آخر تمامًا…
صدر فيلم Dog Day Afternoon في 1975، من بطولة آل باتشينو وصديقه جون كازيل، ومن إخراج سيدني لوميت، مبدع فيلم 12 Angry Men، تمكن من حصد جائزة أفضل سيناريو، بعد ترشحه ل6 جوائز مختلفة، في عام سيطر فيه الفيلم الأسطوري One Flew Over the Cuckoo’s Nest و حصد أغلب جوائز الأوسكار.
يأتي اسم الفيلم دلالة على أيام الصيف المشمسة شديدة الحرارة، حينها تقوم الكلاب بالاستلقاء على الأرض للراحة في فترة الظهيرة، وأصل المصطلح من نجم Sirius في السماء، حيث كان الرومان قديمًا يسمونه الكلب الأكبر، وكانوا يضحون بكلب بني مع بداية سطوع النجم بمحاذاة الشمس، حيث كانوا يعتقدون أن هذا النجم هو سبب الحر والصيف، أما عن علاقة ذلك بالفيلم، فالعنوان يصف جوّ الأحداث المشحون بالقلق والتوتر، والرغبة الوحيدة لكل الشخصيات هي نسيان كل ما حدث والاستلقاء في هدوء، حتى يستفيقوا من هذا الكابوس، ما بين خاطفين وضحايا ورجال شرطة، خاصة في ظل احتداد الخلاف وخروج الأمور عن السيطرة.
عن رجل ضاق ذرعًا بالعالم:
يبدأ الفيلم بجولة سريعة خلال شوارع مدينة نيويورك، تصور فيها لمحات من الحياة العامة في يوم حار من أيام الصيف، ثم تظهر سيارة من وسط الشارع تضم ثلاثة شبان، يغادرون السيارة بهدوء بشكل منفرد، متوجهين إلى أحد البنوك في الشارع المقابل، ثم تنقلب الأمور رأسا على عقب عندما يحاول الثلاثة الهواة السطو على البنك، وتبدأ رحلة ملعونة يعاني فيها الجميع، وأولهم سوني مدبر العملية.
يصف كافكا حاله قائلًا: “كيف أصبحت الشخص الذي أنا هو؟ هل أنا نفسي فعلًا، أم بالأحرى صنع مني الآخرون الشخص الذي أنا عليه؟”
فما بين عالم لا يتقبله وحياة لا يمكنه عيشها بعد عودته من الحرب، إلى أم تقذفه بسهام من الانتقاد المستمر، وأب لا يهتم بوجوده، إلى زوجة لا تترك له فرصة للتحدث أو التعبير عن نفسه، وعن رفيق يعجز عن مجاراة احتياجاته العاطفية والنفسية، يجد سوني نفسه في مواجهة تفوق قدراته، لكنه يقرر أخذ الأمر على عاتقه والتصرف، فيخطط لعملية سطو على بنك من أجل تأمين الأموال لعملية تحول رفيقه، ويشاهد (سوني الحقيقي) The Godfather لمساعدته بالأفكار خلال السرقة، مستغلًا عمله السابق في أحد البنوك، ويختار الوقت المناسب لتنفيذ عمليته، لكنه ليس ما يبدو عليه في الحقيقة.
يضفي الفيلم جانبًا من السخرية على سوني، ويؤكد على الجانب الحقيقي من شخصيته، وأنه مجرد سارق هاو لا يمثل خطرًا فعليًا، ولا يمكنه إيذاء أحد، هو فقط مجرد حائر يحاول أن يجد طريقه. في بداية السطو يعجز عن إخراج البندقية من صندوق الزهور الذي أخفاها داخله، يعجز عن السيطرة على شركائه حيث يغادر أحدهم في البداية، ثم يحاول أن يشوش على كاميرات المراقبة، لكنه قصير لا يستطيع الوصول إليها عاليًا، ومع أول ضغط حقيقي يتعرض له، يسقط على الأرض ويمسك برأسه، في إشارة للاستسلام وقلة الحيلة، فيبدأ الكابوس الذي سيغير حياته للأبد، ويبقى حبيسًا طوال الفيلم لمقولة كافكا مرة أخرى: “لا أستطيع أن أجعلك تفهم، لا أستطيع أن أجعل أحداً يفهم ما يحدث بداخلي، لا أستطيع حتى أن أشرح لنفسي“.
آل باتشينو رغم الظروف:
بعد أن انتهى آل باتشينو من تصوير أصعب وأفضل دور قام به في The Godfather II، وما تبعه من نجاح كبير للممثل الشاب، وترشح للأوسكار كأفضل ممثل للعام الثالث على التوالي، كان يعاني من إرهاق وتعب بالغ، ودخل في حالة اكتئاب بسبب ارتباطه بالشخصيات بشكل كبير، طبقا لطريقة method acting، التي تجعل الممثل يندمج بشكل كبير مع الشخصية التي يقوم بها، ويعيش معها حتى خارج التصوير، فبعد أن قدم الشخصية المعقدة كرئيس عصابة عنيف، قام بعدها في Serpico (1973) بشخصية شرطي يتم خيانته من رجاله الفسدة، ويصبح طريد حتى يجبر على مغادرة البلاد للأبد، في فيلم كئيب وقوي استهلك آل باتشينو، ثم عاد مرة أخرى بدور مايكل كورليوني في العراب، فأراد أن يلتقط أنفاسه قليلا قبل الاستمرار في مزيد من الإرهاق الجسدي والنفسي، خاصة مع شخصيات صعبة ومجهدة.
لكن جائه الدور المثالي ، في مقال بعام 1972 عن عملية سطو بنك وخطف رهائن هزت الرأي العام، يصف الصحفيان الخاطف ومنفذ العملية أنه قصير، وداكن البشرة قليلًا، مع جسم نحيف صغير يشبه إلى حد كبير وجه آل باتشينو أو داستن هوفمان، فالبطع كان كلاهما المرشحين لعمل الدور، في البداية وافق آل باتشينو، لكن مع اقتراب موعد التصوير أخبر المخرج سيدني لوميت أنه غير قادر على الاستمرار، وقرر الانسحاب من الدور، حينها وصلته أخبار عرض الدور على الشاب الآخر داستن هوفمان منافسه في تلك الفترة، حينها تراجع باتشينو سريعًا، ووافق على القيام بالدور، الذي أهداه الترشيح الرابع في أربع سنوات متتالية في الأوسكار، وقدم واحد من أفضل التجسيدات على شاشة السينما.
لكنه دفع الثمن كذلك، أثناء تصوير الفيلم سقط آل باتشينو مغشيًا عليه من الإرهاق، واضطر لدخول المستشفى لفترة، قبل أن يعود للعمل، ولم يساعد أيضًا رغبته في تقمص الشخصية والخروج بأفضل شكل ممكن، فكان ينام ساعات قليلة يوميًا، ويأكل باقتصاد مبالغ فيه، وأحيانا يستحم بالماء البارد في طقس الشتاء الصعب، ليؤكد على ملامحه أعراض الإرهاق والتشتت، كما كان يعاني الخاطف الحقيقي، وانتهى به الامر أن قاطع السينما بعدها لعامين، قضاهما في المسرح.
الواقعية عند سيدني لوميت:
يشرح مخرج Dog Day Afternoon سيدني لوميت في كتابه Making Movies تفاصيل وكواليس الفيلم، فيقول:
“من المؤكد أن الطريقة التي تروي بها تلك القصة يجب أن ترتبط بطريقة ما بماهية تلك القصة”، وأول التزام فى ذلك الفيلم، كان إقناع الجمهور أنه حدث فعلًا”
فعند تصوير فيلم قائم على أحداث واقعية، يجب على الأقل أن يقنعك الفيلم بحقيقة هذه الأحداث، يجعلك قريبًا من الشخصيات، أراد لوميت أن يخرج أكبر واقعية ممكنة، وانعكس ذلك بالطبع على آلية إخراج الفيلم والتصوير والموسيقى، فكان الفيلم بلا أي موسيقى على الإطلاق، إلا أغنية واحدة في البداية كانت على مذياع سيارة سوني، وعلق لوميت: “كيف تقنع الجمهور بأن هذه أحداث حقيقية، إذا كانت الموسيقى تجرى طوال الوقت فى الخلفية؟”
ثم كان موقع التصوير، معظم الفيلم تم في البنك أو في الشارع أمامه أو تجمع الشرطة في أحد المتاجر، تقتضي العادة ببناء المواقع داخل الاستوديو مع تصوير مشاهد الشارع منفردة، ثم لصقها ببعضها، لكن سيدني لوميت رفض، وأراد أن يكون واقعيًا للنهاية فبحث عن مستودع يمكنه بناء بنك داخله، ولديه ناصية على الشارع ليستطيع الأبطال تصوير المشاهد بشكل طبيعي، فعندما يدخل ممثل أو يدخل البنك من الشارع، يفعل ذلك حقًا، ولا يمشي إلى باب مزيف يخرج منه فى استوديو على بعد مئات الأميال من الموقع الأصلي، ونجح بذلك فيما أراد، ومنع ضياع الوقت فى الانتقال من موقع تصوير لآخر.
فقط الأضواء الطبيعية، يقول لوميت: “كان الالتزام الأول هو السماح للجمهور بمعرفة ذلك حدث بالفعل. لذلك، كان القرار الأول الذي تم اتخاذه هو عدم استخدام الضوء الاصطناعي”، فكان الاعتماد على أضواء الفلوريسنت داخل البنك، وفي الخارج ليلًا، كان كل الضوء يأتي من سيارات الطوارىء التابعة للشرطة أمام البنك، ثم انعكس هذا الضوء المرتد عن الواجهة الزجاجية للبنك، وكان كافيًا لإلقاء الضوء على وجوه الشخصيات المواجهة للبنك، أما بالنسبة للجمهور في الشارع، تم وضع مصباح فوق عامود إنارة حقيقي؛ لأن الكاميرا لن تكون قادرة على التقاط الصورة بوضوح مع ضوء العامود فقط، وهذا أعطى الحشد إضاءة خلفية طبيعية. أما داخل البنك عندما انقطعت الكهرباء، تم تشغيل أضواء الطوارىء تلقائيًا وتم فقط تقويتها بدون وضع أي أضواء جديدة، وبالنسبة للمشاهد المرتجلة في الشارع وفي البنك، يقول: “استخدمت اثنين وفي بعض الأحيان ثلاث كاميرات يدويات لتعزيز الشعور الوثائقي الواقعي”.
ولإضفاء إحساس الصدفة وغياب التخطيط، لم يتم تعديل الألوان أو استخدام ألوان معينة في نسخة الفيلم الأخيرة، ولم يكن هناك تنسيق بين مصممي أزياء الفيلم والمخرج الفني أو art director المشرف على عمل الفيلم، ليظهر كل شيء كأنه وليد اللحظة كما كان فى الحقيقة.
أفضل مشهد ارتجالي؟
يخرج آل باتشينو من باب البنك، بوجه شاحب من القلق، وجسد غارق في العرق من التوتر، يحاول التفاوض مع محقق الشرطة، بينما يخرج أحد الرهائن المريض، يشعر أن الشرطة تحاول خداعه، فيصرخ في واحد من أشهر المشاهد في تاريخ السينما: “Attica.. Attica… Attica“، فيشاركه جمهور المتفرجين من العامة بحماس، ويصفقون له بتحية.
بالطبع تم التمرن على المشهد واتقان كتابته في السيناريو، وإلا كيف يمكن أن يخرج بهذه الحرفية والموهبة، لكن في الحقيقة كان هذا المشاهد مرتجلًا، كان من المفترض أن يستمر آل باتشينو بالصراخ في وجه الشرطة، لكن قبل تصوير المشهد، ذكر مساعد المخرج ‘برت هاريس’ حادثة سجن اتيكا لباتشينو.
وهي حادثة تمرد في سجن آتيكا بمدينة نيويورك في 1971، قام خلالها مئات السجناء بالاستيلاء على السجن واحتجاز الضباط في الداخل، وتفاوضوا على مطالب تخص تحسين أوضاعهم داخل السجن، لكن المفاوضات مع الحكومة فشلت، واستعادت الشرطة السجن بالقوة، بعد أن اطلقت النيران بشكل مستمر عشوائيًا على السجن، متسببة بمقتل ما يزيد عن 30 سجينا و10 ضباط من الرهائن، في واقعة صنفت الأفظع في تاريخ السجون بتلك الفترة.
أعجبت الفكرة آل باتشينو وقرر استخدامها فعلًا، حتى أن ردة فعل المحقق في الفيلم كانت تلقائية تمامًا، حيث لم يكن يعلم ماذا من المفترض أن يقول، فظل في مفاجأته صامتًا حتى انتهى باتشينو، في الفيلم الوحيد فى مسيرته الذى سمح فيه المخرج سيدني لوميت بالارتجال.