فلسفة نيتشه
مقدمة عن نيتشه:
يقول نيتشه: إننى قادر على كل شيء، أما أن أفكر كألماني وأشعر كألماني، فذلك مما يتجاوز طاقتي(1).
يقول أيضًا المتهم بأنه عراب النازية:
الأمة الألمانية تتغذى من كل المتناقضات بشهية زائدة، تحسد عليها، وتزدرد كل شي، دون حساسية بأي شعور بعسر هضم: الإيمان والعلم، المحبة المسيحية وكره اليهود ومعاداة السامية، إرادة السيطرة وإنجيل المحبة؛ الألمان “مثاليون” ما في ذلك شك(2)، إنه لمن دواعِ فخرى أن تكون لي سمعة محتقر الألمان(3).
هل شم نيتشه في زمانه رائحة شياط الهلوكوست تقترب؟ هل رأى براعم أجيال ستبني أوشفيتز وتريبلانكا؟ (عبارة الحزب الإشتراكي النازي) عنوان يحوي فيه كل المتناقضات بامتياز، يضيف نيتشه:
هذا العصاب القومي الذي تعاني منه أوروبا، تخليد الدويلات الصغيرة، والسياسات الصغيرة، أولئك الذين حادوا بأوروبا عن عقلها ومسارها إلى مسار طريقٍ مسدود، من يعرف الخروج من هذا المأزق سواي؟ مهمة كبيرة بما فيه الكفاية للربط بين الشعوب(4)، ها هو يلتقط في ملعبه ببراعة، قلب القيم (يعلن قيصر ألمانيا أن “واجبه كمسيحي” أن يحرر العبيد في أفريقيا)(5)، ويعلق ساخرًا “ألماني ببساطة”.
لقد اشترك نيتشه في حرب بلاده ألمانيا مع فرنسا، وسمع بنفسه أصوت الحذاء العسكري تدب في قصر فرساي، وإعلان الرايخ من هناك عام 1871م، ولن تتوقعوا تعليقه في مقالاته الشابة (تأملات في غير أوانها) حيث قال معلقًا على الحرب ونتائجها:
يقول الجميع أن الثقافة الألمانية انتصرت في هذه الحرب، ما حدث هو تحول انتصارنا لهزيمة تامة، إبادة الفكر الألماني أمام الرايخ الألماني( 6)، انتصرنا بفضل تربيبة عسكرية صارمة، شجاعة طبيعية ومثابرة، تفوق في الإرادة، تماسك المأمورين وطاعتهم، وهي عناصر لا شأن لها بالثقافة(7).
اليوم في كل موضع لا تقدر المعرفة، بل تقدر القوة، هكذا هاجمت فاغنر، أو بطابع أدق: الطابع الهجين والمزيف “لثقافتنا”، التي تخلط بين الأغنياء ورفيعي الشأن(8).
هذا ما قاله غوتة: ربما انقضت عدة قرون قبل أن ينقضي في مواطننينا من الفكر والثقافة الرفيعة، ما يسمح لنا أن نقول: لقد مضى وقت طويل على العصر الذي كانوا فيه همجًا(9).
تعليقات غير متوقعة من شخص متهم بتمجيد القوة الغاشمة، واللا معقول والغريزة، فما الذي كان يقصده بالأقوياء؟ ومن هو السوبر مان الذي دعا إليه زرادشت؟
الأقوياء في فلسفة نيتشه:
يقول نيتشه في سيرته الذاتية:
إن عبارة الإنسان الأرقى تفهم فهمًا خاطئًا تمامًا، تفهم كنموذج مثالي يخلط بين نصف قديس ونصف عبقري، وقد بلغ بالبعض أن يتهمني بـ “الداروينية”، أو عبادة البطل على نحو ما فعل “كارلي”، تلك العبادة التي كنت قد رفضتها بشدة(10).
حسنًا، لقد قمنا بنفي ما هو “إنسان أعلى”، والآن سندخل في ما قصده بمثال بسيط:
تصريح قيصر ألمانيا الذي ذكرناه منذ قليل، هل حقًا كان تصريحه الهدف منه تحرير العبيد؟ أم أنه -كالعادة- تصريح دبلوماسي لإعلان احتلال جزء من الأرض؟ يكتب نيتشه:
لا تعترف أي حكومة حاليًا بأنها تبقي جيشها لكي ترضي شهوة العدوان لديها، إنما تتذرع بحجة الدفاع، وأنها تسترشد بالأخلاق التي تبرر للإنسان الدفاع عن النفس، غير أن معنى ذلك في الوقت نفسه هو أن يحتكر المرء لنفسه الأخلاقية، وينسب إلى جاره اللا أخلاقية، حيث ينظر إليه على أنه تواق إلى العدوان والغزو(11).
يمتلك نيتشه رهافة حس دقيقة تجاة التلاعب بالأخلاق والقيم، ما يطلبه في الإنسان القوي هو أن يقف فيما وراء الخير والشر، ويفهم دوافعه، ويعلن عنها بصراحة من ورشتها السرية، وكما يقول مونتيني أستاذه: أنا إنسان، وليس هناك أمر إنساني غريب على مسمعي.
مثال آخر: لنرَ ماذا قال عدو المرأة اللدود:
المرأة كلما كانت أكثر أنوثة كلما أذابت بيدها كل أشكال القوانين والحقوق، فاللواتي يُسمين ذوي طبيعة سمحة هم في وضع فسيولوجي غير سعيد يعانين منه، فالوضع الطبيعي هو وضع حرب دائمة بين الجنسين، حيث يمكنها الفوز بتفوق هائل(12).
انظروا إلى أقدم ملحمة بشرية (إلياذة هوميرس) على ماذا قامت؟
أليست بسبب خطف امرأة جميلة أكثر أنوثة؟ وكل ما تبقى هو قيم جانبية؟ أليست كل القوانين التي حددها الرجال على المرأة هي حرب سرية على أخطار كشف الأنوثة وما تسببه من كوارث؟ قال أيضًا:
المسيحية سقت السم لإيروس، ولكنه لم يمت به، بل تحول إلى فاسق(13).
لقد أكد نيتشه أن حضارتنا وقيمنا قائمة على أساس من الكبت والإخصاء المتعمد، عندما قامت المسيحية بتأسيس الزواج الأوحد الذي لا طلاق فيه، تحت شعار (العفة، الإخلاص، الوفاء، الرابطة المقدسة).
أصبحت التفاحة المحرمة لذيذة، أصبحت الخيانة والفسوق والعهر لذة ومتعة، طالما أنكرنا ما في الرابطة الزوجية من أشياء (طبيعية) كحب التملك، وعدم الوفاق، والملل، والخوف من الوحدة، كونها مؤسسة اقتصادية تكافلية قد لا تقوم على الحب، الخوف من الفقدان عن طريق منع الطلاق، منع فهم أصل وأصل الزواج وتفسير ما فيه من تعقيدات، التمركز في عادات وديانات واحدة، كل ذلك.
طبعًا سيقول أحدهم ما الجديد الذي اكتشفه نيتشه؟
إنه لا يأخذ الأمور بظاهرها، بل يتوغل في أعماقها ليعرف أصلها وفصلها وكيف نشأت، كيف تتحول الأشياء ومعانيها من الضعف إلى القوة، وهذا ما يوجهنا نحو مفهوم الضعيف عند نيتشه.
من هو الضعيف في فلسفة نيتشه؟
إن العبارة الدارجة التي نستعملها هذه الأيام -بعدما تعلمنا بالدم والنار- وكأنها عادية “إن وجود جنة في السماء، جعل هناك جحيمًا على الأرض” يرجع الفضل فيها لنيتشه، لأنه لم يكتف بزلزلة السماء فقط وهدم الأساس الماروائي والمثالي الأفلاطوني، والـ ما بعد هذا العالم، بل إنه تتبع كل قطرة ماء نزلت على الأرض وأنبتت شيئًا منها كي يجتثها من جذورها.
يقول آلآن دو بوتون:
عندما يُنبذ الإيمان بحياة أخرى بوصفه مخدرًا صبيانيًا، وأمر مستحيل عمليًا، فسوف يتحقق ضغط كبير في نفوس الناس من الإسراع للنجاح والإشباع والمنافسة، نظرًا لوعيهم بأنهم لا يملكون إلا فرصة واحدة 14)
إن الأمر ليس هكذا بالنسبة إلى نيتشه، إنه لا يحتقر الأديان أو يعتبرها مرحلة بالية انتهينا منها ودخلنا في عصور حديثة، إنه يتتبع الميكانيزم الذي عاشت به وتطورت، وما المساعدة التي قدمتها، وما الأضرار التي تغللت منها، ومن أين نشأت؛ حيث تعمق تمامًا في التاريخ، بالإضافة لتجربة مرضه فإنه يعرف لماذا يحتاج الإنسان إلى بما بع الورائي؟ حيث إن الأمر الواقع للتقسيم الطبقي، ووجود الدين ينتقم من المظالم الاجتماعية ويحقق العدالة بهذه البساطة، ميكانيزم لا يكتفي بفش الغل والحقد والضغينة.
إنه يؤكد أن الإنسان الذي في موقف ضعف تسممه هذه المشاعر، ويغدو العالم الذي يهرب إليه (الجميل، المثالي، الذي يتكفل بترتيب العالم الواقعي من جديد) لا يكتفي فقط بكونه تعويضًا، بل إنه يصرف فيه ضغائنه وحقده وغرائز الانتقام بداخله، وعند لحظة معينة يتحول إلى أمر واقع ويقلب التاريخ، ويتحول الله الجميل إلى منتقم ومشرف على مذابح، جوديًا ضد روما، والمسيح ضد قيصر، كتاب (أصل الأخلاق وفصلها) هو مساجلة هادئة وبطيئة جدًا، أشبه بطب الأعصاب، لفهم جزءًا جزءًا من تلك التحولات الدرامية.
إن ما يطلبه نيتشه من الإنسان الضعيف المحاصر عزيز المنال أن يتقبل الأمر الواقع ولا يبحث عن تعزيات، لمجرد أنها نجحت معه شخصيًا، هذه الطريقة تفلح، ولما كان هو نفسه ليس مصلحًا اجتماعيًا فلم يهتم ببناء يوتيوبيا أو أيدولوجيا أو خطة اجتماعية، بل اهتم بالفرد أولاً.
ولا يمكننا أن نقول أن نيتشه تجاهل تلك الثغرة، إنه يقر بالقدرات، إنه فقط يستاء من الشفقة لأن الجانب الآخر للعزائات مؤذٍ جدًا، كما طبقت عليه حياة دينية ما ورائية أدت لتدهوره واندحاره، هي في الأصل من منبع الشفقة على ضعفه الوجودي كإنسان، فلا أحد يلقن ابنه دينًا بغرض شيطاني، بل بغرض تقديم صيدلية روحية لآلآمه، أيًا كان فالنقطة التالية في مسألة القدرات، هي التي جعلت نيتشه يسأل: من الذي يصيغ القيم؟
من الذي يصيغ القيم؟
لو كنت في يوم من الأيام في رحلة سياحية لمعالم شلالات وأنهار أفريقيا، ومعك مجموعة من السائحين التقيتم لأول مرة على متن الطائرة، وكل ما بينك وبينهم هو أحاديث ودية بسيطة ومجموع ابتسامات تعارف ودودة، وبينما أنتم تسيرون تعرضت المجموعة لهجوم من التماسيح حين عبروا النهر، لقد فر المرشد والأفراد المسلحون، بالتأكيد في موقف الخطر كل شخص تعمل غريزة بقاءه على المستوى الأول، فينفذ بجلده، بينما سقطت امرأة عجوز في النهر الموحل، وتقدمت أنت بشجاعة متجاوزًا أنانيتك الطبيعية وأنقذتها دون أن يكون لك سابق معرفة بها أو حتى تستلطفها، ساعتئذٍ سيصفق لك مجموع الأنانيين ويمنحوك وسام الشجاعة.
إذًا أنت فعلت القيمة، ومنحك الأضعف منك تمييز أنها خير، الأقوياء يصنعون ويصيغون القيم، والأقل قدرة يمنحونها الاسم، ليس الذين فروا، ولا الذين يستنجدون، ولا المرأة التي تغرق في النهر هي الطيبة، بل الذي قفز لينقذها هو الطيب، ليس معنى أنها متورطة وقليلة الحيلة وعاجزة أن هذا مرادف لكونها الطيبة أبدًا!
ويحذرنا ألا نعتبر كل تضحية أخلاقًا إنْ لم تكن مبنية على تفكير سليم، وفائض من القوة ممنوحٌ طوعًا، دون أن يكون هذا الدافع يشعر بنفسه في منافسةٍ مع آخرين، مراقبة وأمام ناظرهم(15).
ويؤكد: لو كانت الصداقات لا تُمنح إلا بدافع الشفقة، لمات كل المتسولين جوعًا(16) يجب ألا نهمل الفائض والأنانية والعظمة الشخصية في الدوافع التي تسمى أخلاقًا.
هذا ما يسميه نيتشه أصل الأخلاق وفصلها، إنها حالة استثناء وليست حالة عامة، تعتمد على القدرات ولا يمكن اكتسابها، هذا الأصل في التميز بين الناس وصنع الفوارق الدقيقة، ويتتبع نيتشه مسارها إلى نهاياته، والانحرافات التي حدثت للمفهوم، إلى أن يصل إلى النقطة التي انحدر فيها، وأصبح خاليًا من المعنى.
مفهوم الإله عند نيتشه:
نيتشه عار عائلة القساوسة البروتستانت، والابن الضال المفضوح الذي يسمي نفسه عدو المسيح، والذي مرمغ اسم عائلته مع فضلات زرائب الخنازير، وسمعته المشينة في شارعه قد عرفها كل الناس -قد يصدر هذا القول من إحدى عماته وقعت عينها على إحدى كتبه، أو جار مسيحي طيب يفخر بابنه الذي يعمل طبيبًا، أو عامل بدين في مصنع البيبس كولا ومتزوج ومستقر، أمام هذا الزنديق الملحد- لم يعجبه في الإنجيل كله الذي طالما ترنم به على نغمات الأرغن وهو طفل صغير سوى العبارة التي قالها بيلاطس النبطي، حين جاء إليه المسيح يقول له أنا ملك اليهود، وهذا هو الحق، فرد ساخرًا: وما هي الحقيقة؟
من خلال تجربة نيتشه مع المرض الطويل، وزيارات الأطباء ودفاتر الورق المعلقة على السرائر، والصرخات، ورائحة الكحول، ومسح الممرضات الأرضية من الدم بالمساحات، وعدد المرات التي نقل فيها على محفة واستلقى على سرير، ونوبات الصداع، وبرودة السماعات الطبية على لحمه الساخن، وفك الأزرار والإبر التي تنغرس فيه، عرف كيف نطق المسيح بالحقيقة، في الجملة الوحيدة الصادقة التي قالها كإنسان في الواقع بعيدًا عن أحلام البشر، حين عُلق على الصليب:
إلهي إلهي، لماذا تخليت عني؟
وجد أنه مع كل صرخة ألم يطالبونه بإيمان أكبر من إيمان المسيح نفسه الذي لم يتحمل دق ثلاثة مسامير في لحمه، رأى بعينه غالبية المرضى حين لا يتآمر عليهم الألم الجسدي وحده، وإنما معنى حياتهم والغاية من آلامهم التي فقدت مصداقيتها، كما فقد المسيح نفسه مصداقيته، رأى التعذيب المستمر بوسائل التعزية بدلاً من جعلهم يصرخون عما بداخلهم من تناقضات وصراعات، وعندما فقد إيمانه وتداوى كتب نيتشه في مقدمة كتابه “إنساني مفرط في إنسانيته”:
على المرء ألا يتكلم إلا لو كان الصمت جريمة، وألا يتكلم إلا عن الأشياء التي يكون قد تغلب عليها، وكل ما عدا ذلك سيكون ثرثرة وأدبًا وقلة انضباط، كان يلزمني من الوقت والمعافاة والانفصال والمسافة كي تستيقظ بداخلي الرغبة في أن أكشف وأعرض شيئًا قد عشته وتجاوزته قدرًا شخصيًا، وأن أستغله لصالح المعرفة(17).
حينما وجد أن الخيرية التي تشرف على العالم، تتناقض تمامًا ومستحيلة مع الشرور الواقعية التي فيه، بحث عن أصل وفصل الاعتقاد في الآلهة.
سيتعجب القارئ الحديث من مدح نيتشه للحضارات الإغريقية الوثنية، وقد لا يتعجب من إعجابه بحضارة المسلمين في الأندلس طبعًا، ويسخر منه ويضحك، لكنه اكتشف أن العبادات الوثنية كانت طب نفسي مدروس بطريقة مذهلة!
لقد وضعت الحضارات الشرقية القديمة التي ورثتها الإغريقية والرومانية الرغبات الشريرة (السخط، الغيظ، الفسق، الغضب، الكراهية، الدعارة، المجون) في مكانها الصحيح، عن طريق التضحية بالأكباش والأعياد والمناسبات وتكسير الأوثان، وبطريقة أرقى عند اليونانيين، بالمسرحيات التي تطهر المشاعر، والشعراء الذين خلقوا الأرباب في أناشيدهم، لم يخلقوهم كائناتٍ علوية تتمتع بالخير المطلق، بل كائنات تمثل الغرائز السريرية (الفرويدية) في داخل عمق الإنسان، وعن طريق تمثيلها وعرضها لا يقولون للناس حاكوها أو قلدوها، بل تخلصوا منها، لذلك كان يكره أفلاطون الذي اخترع العالم المثالي، الماورائي، الذي فيه الآلهة الأزلية، قال نيتشه بوضوح:
من أين للإغريق بهذا الحس الواقعي وتلك الحرية؟
إنهم لا ينكرون الشر نفسه: يكفيهم ألا ينشر الموت في كل مكان، ولا يسمم الروح، الشعراء السابقين لمؤسسي دولهم، من أين لهم هذه البصيرة؟
إنهم يقيمون حفلات تشبه الأعياد بكل أهوائهم، بكل ميولهم الطبيعية الشريرة، إنهم قد وضعوا الاحتفالات لجوانبهم الإنسانية، هذا هو الشيء الوثني فيهم، وهو الذي لم تغفره المسيحية أبدًا، وقد حاربته بضراوة وقسوة.
كانوا يعتبرون هذا الجانب شيء لا مفر منه، كانوا بدلاً من إذلال تلك الجوانب يمنحونها حقوقًا من الدرجة الثانية، يعطونها طقوسًا وعبادة، بل يعتبرونها شيئًا سماويًا، إنهم لا يجحدون الغريزة الطبيعة في أن تعبر عن نفسها، بل يضعونها في مكانها(18).
وهنا يأتي السؤال: هل نجحت المسيحية في نزع تلك الجوانب؟
إن أي قارئ لتاريخ أوروبا المسيحي في العصور الوسطى سيرى كم عدد الحركات الهرطوقية والصوفية والمانوية والاجتماعات السرية التي كانت تقوم فيها طقوس تفريغ تلك الجوانب، بشكل تسلل لكل المدن، كي يعرف أن ما حدث هو أنها أصبحت أكثر جاذبية.
يعود الفضل لـ نيتشه وحده في تصحيح الوعي الأوروبي؛ فأندية القتال والمواخير والأعياد كـ الهالوين وأفلام الفانتازيا والرعب والسحر، كل هذا يصرف كبت الناس ونوازعهم اللا معقولة، وترضي حاجاتهم التي لا زالت مرفوضة.
والآن ونحن نختم المقال نسأل: هل كان نيتشه مفكرًا أكاديميًا لا يقدم مساعدة في حياتنا اليومية؟ أم أنني يمكن أن أستفيد منه في حياتي العملية؟
كيف يساعدني نيتشه في حياتي اليومية:
“كان هناك مزارع فقير جاءه صديق الطفولة القديم في زيارة، وبعدما أحسن ضيافته، عزموا للخروج لزيارة أقرباء وأصدقاء لهم، ولكن صديقه لم يكن لديه ملابس لائقة!
قام الفلاح بدافع “أخلاقي” بفتح دولابه وأعطاه أثمن ما عنده من ملابس، من قبعه رأسه إلى حذاءه، بعدما ارتدى ملابسه أنطلقوا في طريقهم، وصديقه بجواره يبدو متألقًا، وهو في ملابس متواضعة، كانت الناس تنظر إلى صديقه وتلاحقه أعين السيدات والأطفال، في كل شارع وكل زاوية!
ظل الفلاح يتظاهر بسموه الأخلاقي حتى وصلوا إلى باب الأقرباء، فقدمه إليهم قائلاً:
هذا صديقي، صديق الطفولة، إنه وسيم.
ثم أفلتت منه عبارة:
أما الملابس فهي لي!”
كم مرة رأيت شابًا يتمتع بالصحة، أو ممثلاً يتمتع بالوسامة، أو أحد قرنائك تحديدًا يتمتع بعضلات بارزة أو ملابس لائقة، ولم تنتَبك رغبة في مصارعته وطرحه أرضًا؟ رغبة في إثبات ذاتك أو حتى حسده، ثم كبتَّها كالفلاح؟
كم مرة رأيت صديقة لك تمشي بجوارك وقد أخذت تعليقات على جمالها من الذكور واحتكرت لنفسها الجمال، بينما أنتِ تعلنين لكل الناس أنها رفيقتك، ولا أغلى منك سواها، وتقبلينها وتلتقطين معها الصور، ثم فجأة تكسرين الكوب فوق رأسها في موقف لا يستحق؟
إن الفلاح، وأنت وأنا وهي، اعتدنا على ضرب ردات فعلنا الأولية، وتسممت وتراكمت في اللاوعي، تسممت بسبب الكبت الأخلاقي، وأصبحت الأخلاق التي مهمتها فائدتك؛ مضرة في هذه الأحوال؟
لم يطلب منا نيتشه أن نكون وقحين، ولا همج، ولا عديمي الذوق أبدًا، بل طلب منا ترك مساحة لردود الفعل التي هي إنسانية جدًا، وتسليط الضوء عليها كي نهذبها ونضعها في مكانها الصحيح، هذا أصلاً ما يقوم عليه علم النفس كله:
بمَ تقاس الحكمة؟ تقاس بدقة خلال تراجع الضغينة(19).
قيود كثيرة وضعت للإنسان كي يتخلص من الحيوانية؛ بالفعل أصبح ألين وأذكى، أكثر مرحًا ورصانة، ولكنني سأظل أكرر، هذه الأخطاء الفادحة للتصورات الأخلاقية والدينية الميتافيزيقية لها أيضًا ضريبة، عندما يتخلص منه، ساعتها سيكون خطا خطوته الأولى: انفاصاله عن الحيوانات(20).
اقرأوا الآن نيتشه بأمان، ولا تنسوا وصيته:
وحيدًا أمضي يا تلاميذي، وأنتم تمضون وحيدون، هكذا أردت لكم.
انصرفوا عني، احترسوا من زرادشت، لا ينبغي عليكم حب أعدائكم فحسب، بل أن تكونوا قادرين عمن كره أصدقاءكم، إنها لمكافأة رديئة للمعلم أن يظل المرء على الدوام مجرد تلميذًا(21).
أخيراً أحب أن أقول كلمة في حق نيتشه، لم يكن نيتشه مصارع ثيران أو ملاكم، أو رجل عصابات يرتدي جاكيت جلد أسود على اللحم وفي خصره طبنجة مُعمرة، أو شاب قميصه مفتوح ليبرز صدره العاري ويخلل أسنانه بعود خله طويل، إنه مجرد أستاذ جامعي متهالك الصحة يقول عن نفسه بكل وضوح:
لم أكن أبدًا أجيد فن استثارة الناس ضدي، وأدين في ذلك للطبع الذي ورثته عن أبي، ولا أذكر مرة واحدة استأت من نفسي، بالرغم مما يبدو عليه الأمر من عدم تلاؤم مع السلوك المسيحي، وليقلب المرء حياتي كيفما شاء، فلن يجد فيها -عدى مرة واحدة- أثرًا لنوايا عدوانية لأحدٍ ما تجاهي، بل على العكس سيجد كثيرًا من النوايا الطيبة(20).
إننى أروض كل دب، وأجعل من الحمقى أناس مؤدبين، وخلال السنوات السبع التي قضيتها في تدريس الإغريقية بمعهد بازل لم أضطر مرة واحدة لإعطاء عقوبة ما، بل إن كل الكسولين كانوا عندي مجتهدين(21).
عندما أعلن الحرب على المسيحية فإنني أفعل ذلك من موقع المستحق، لكوني لم أتعرض من هذه الناحية لأي مضايقة أو عرقلة، لقد كان المسيحيون الجديون يحظون دائمًا بتقديري، وإنني كعدو للمسيحية السائدة أبعد ما يكون عن أحاسب الأفراد على أشياء سببها عمل الآلآف من السنين(22).
قائمة المصادر والمراجع: 1- هذا هو الإنسان، نيتشه، ترجمة علي مصباح، ص142. 2- المصدر السابق، ص146. 3- المصدر السابق، ص147. 4- صفحات خالدة من الأدب الألماني، ترجمة مصطفى ماهر، ص403. 5- نفس المرجع، ص405. 6- هذا هو الإنسان ص32. 7- صفحات خالدة، ص407. 8- هذا هو الإنسان ص68. 9- صفحات خالدة، ص407. 10- هذا هو الإنسان، ص68. 11- فؤاد زكريا، نيتشه، دار المعارف، ص182. 12- هذا هو الإنسان، ص76. 13- الفلاسفة والحب، مارى لومونية، ص22. 14- آلآن دو بوتون، قلق السعي للمكانة، ص58. 15- إنساني مفرط في إنسانيته، نيتشه، ترجمة علي مصباح، ص378. 16- نفس المصدر، ص378. 17- نفس المصدر، المقدمة. 18- نفس المصدر، ص72. 19- هذا هو الإنسان، المقدمة. 20- نفس المصدر، ص25. 21- - نفس المصدر، ص25. 22- هذا هو الإنسان، نيتشه، ص33.