سيكولوجية الطغاة
إن المجتمعات الشرقية بيئة خصبة للطواغيت، فغالبًا ما تعتمد على هياكل اجتماعية تراتبية تعطي الأولوية للأكبر سنًا أو الأكثر قوة. والتركيز على الطاعة واحترام السلطة يجعل من السهل تقبُّل السلطة المطلقة، سواء في الأسرة أم في الدولة. والميل لتقديس الشخصيات القيادية في التاريخ أو الدين يجعل الناس أكثر استعدادًا لتقبُّل قادة مستبدين.
فالثقافة التي تمجد القادة “الأبطال” الذين يحلون مشكلات المجتمع بقوة أو بقرارات فردية تسهم في خلق بيئة مواتية للطغيان. وينشأ الفرد بواسطة أنظمة تعليمية تعتمد على الحفظ والطاعة بدلًا من التفكير النقدي والتشكيك في السلطة،فيخلق هذا أجيالًا غير معتادة على مواجهة السلطة أو المطالبة بحقوقها.
أوجه الطغيان
للطغيان أوجه كثيرة، فهو ليس بالضرورة مرتبطًا بالساسة فقط، فيمكن أن يظهر في مجالات مختلفة سواء في الأسرة أم في مكان العمل أم حتى في المؤسسات الدينية والاجتماعية، فبالعكس كي يصل الطغاة إلي مرامهم بالهيمنة السياسية لا بد أن ينشأ المجتمع معتادًا على إساءة استخدام السلطة أو القوة لتحقيق السيطرة واستغلال الآخرين.
فقد يظهر الطغيان من قِبَل أحد الوالدين الذي يفرض سيطرته المطلقة على الأبناء دون مراعاة مشاعرهم أو احتياجاتهم، أو عبر أحد الزوجين الذي يستخدم القهر النفسي أو الجسدي لفرض سلطته.
ويتجلى ذلك عن طريق مديرٍ مستبد يفرض سيطرته على الموظفين بالقوة والتهديد أو الانتقادات المستمرة، أو حتى معلم يفرض سيطرته على الطلاب بأسلوب قمعي دون توفير بيئة تعليمية صحية، وأخيرًا وليس آخرًا، الطغيان السياسي؛ إذ يسعى الطغاة السياسيون إلى فرض سيطرتهم على المؤسسات والشعوب، وغالبًا ما يتخذون قراراتهم بطريقة منفردة دون الرجوع لأي نوع من المشورة أو الديمقراطية.
كيف نُهيَّأ لقبول الطغيان؟
إن ماكس فيبر وميشيل فوكو من أبرز المفكرين الذين تناولوا مفهوم السلطة وتحليلها في المجتمعات الإنسانية، مع التركيز على كيفية تغلغلها في مختلف مستويات العلاقات البشرية، وكيف نُهيَّأ لقبول الطغيان تدريجيًّا، ووضحوا ذلك بنظرية السلطة. اتفق كل من فيبر وفوكو على أن السلطة ليست محصورة في الهياكل السياسية الرسمية، بل تتغلغل في جميع مستويات العلاقات الإنسانية، وإذا تأملنا عن قرب بعض الشراكات العاطفية، على سبيل المثال، سنجد أن نظرية فوكو وفيبر صحيحة للغاية، فالطغاة حتى على مستوى العلاقات يكون الهدف الرئيسي لديهم هو إخضاع الطرف الآخر لتبعية تامة، حتى يصبح عاجزًا عن اتخاذ قرارات مستقلة.
ولأجل ذلك يستخدمون كثيرًا من الإستراتيجيات؛ وأبرزها:
– إشعار الشريك بالذنب أو التقصير لإبقائه تحت السيطرة.
– استخدام العواطف؛ مثل الغضب أو الحزن المفتعل، لإجبار الشريك على الخضوع.
– التهديد بإنهاء العلاقة، أو إيذاء الشريك نفسيًّا أو جسديًّا.
– التهديد بحرمان الشريك من شيء يحتاج إليه؛ مثل المال أو الدعم العاطفي.
– التحكم في المال أو القرارات اليومية لجعل الشريك معتمدًا عليه كليًّا.
وغالبًا نجد أن الثقافات التي تُشجع على الطاعة والخضوع تخلق بيئة خصبة للتحكم السلوكي. والأفراد الذين ينشأون في بيئات أسرية سلطوية أكثر عرضة للوقوع ضحية للطواغيت، فالتحكم السلوكي هو نوع من الطغيان العاطفي الذي يمكن أن يُمارَس على مستوى العلاقات الشخصية ويمكن أيضًا أن يتشابه إلى حد كبير مع ديناميكيات الطغيان السياسي، خاصة فيما يتعلق باستخدام الخوف والتلاعب لإحكام السيطرة.
وهناك أيضًا النظرية الشهيرة في علم النفس؛ نظرية “ثالوث الظلام” التي حددها العلماء في هذه الصفات: النرجسية، والسايكوباثية، والماكيافيلية. وطبقًا لهذا، فإن الأشخاص الذين يُظهِرون هذه السمات يتميزون بالرغبة في السيطرة، والتلاعب، واستغلال الآخرين. وتجتمع هذه السمات المشتركة بين الطغاة السياسيين والطغاة في العلاقات الشخصية؛ إذ يعتمد الطغيان على الاستغلال وقمع المشاعر عامةً.
السمات النفسية للطواغيت
أجمعت الدراسات أن هناك سمات عامة تجمع بين سيكولوجية الطواغيت، وغالبًا ما ترتبط بسمات شخصية نرجسية أو سايكوباثية، فغالبيتهم لديه شعور مفرط بالأهمية، ويسعون إلى الإعجاب المفرط ويعتقدون أنهم يستحقون معاملة خاصة، كما أنهم يتحسسون من النقد أو المعارضة، وقد يظهرون عدوانية شديدة تجاه من يشكك في قدراتهم. لديهم نقص في التعاطف مع الآخرين ولا يشعرون بالذنب تجاه الأفعال غير الأخلاقية، ويستخدمون الكذب والخداع لتحقيق أهدافعهم، وأيضًا لا يحترمون الأعراف الاجتماعية وقد يظهرون هدوءًا غير طبيعي في المواقف المليئة بالضغوط، كما أنهم قد يشعرون بالمتعة في إلحاق الأذى بالآخرين أو إذلالهم. فتبرز النرجسية في حب الظهور والإحساس بالاستحقاق، وتبرز السيكوباثية في القدرة على التصرف بلا رحمة واستغلال الآخرين لتحقيق أهدافهم دون أي شعور بالذنب. واجتماع هذه السمات يجعلهم خطرين على المستوى الفردي والجماعي؛ إذ يستطيعون التلاعب بالناس والسيطرة عليهم عن طريق الخداع أو الإكراه.
هل نسهم في صناعة الطغاة؟
ليس بالضبط، فهناك خلل عقلي في الأصل عند تلك الشخصيات، لكن جعل الطغيان مقبولًا وطبيعيًّا في المجتمع يمكن أن يحدث عن طريق عدد من السلوكيات والآليات التي يسهم فيها الأفراد، سواء بوعي أم دون وعي؛ فسلوك مثل الصمت على الانتهاكات أو عدم الاحتجاج أو التحدث علنًا ضد الظلم، سيؤدي إلى جعل هذه السلوكيات الاستبدادية أمرًا عاديًّا. أيضًا أن تُوجِد المبررات أو تلتمس الأعذار للطغاة تحت ذرائع مثل الأمن، أو الاستقرار، أو مصلحة المجتمع، وأيضًا الامتناع عن مقاومة الطغيان بسبب الخوف من العواقب، فقبول الطغيان عادةً ما يكون نتيجة مزيج من التكيف النفسي، والضغوط الاجتماعية.
وعلى الصعيد الاجتماعي يمكن أن يُعزِّز الأفراد قبول الطغاة عن طريق مجموعة من السلوكيات والأنماط الاجتماعية التي تُرسخ الطغيان وتجعله جزءًا من النسيج المجتمعي بكثير من السلوكيات؛ مثل تنشئة الأطفال على طاعة الكبار دون نقاش، مما يُعدهم نفسيًّا لقبول الطغيان في المجتمع الأكبر، وممارسة الضغط العاطفي لتقييد حرية التعبير عن الحب أو الحزن، مما يعزز فكرة أن المشاعر يجب أن تكون مُقيَّدة بموافقة السلطة، وتشجيع الاعتماد العاطفي على أشخاص أقوى بدلًا من تطوير استقلالية عاطفية، وقبول القواعد التي تحد من حرية الأفراد في اختيار شركائهم أو أساليب حياتهم.
يبقى الطغاة، سواء على المستوى السياسي أم في الحياة العامة، نتاجًا لعوامل نفسية واجتماعية مترابطة. إن السمات المشتركة بينهم؛ مثل النرجسية، والسعي المحموم للسيطرة، والافتقار إلى التعاطف، تجعلهم وجهًا متكررًا عبر التاريخ والظروف المختلفة. ومع ذلك، فإن قبول الطغاة وتمكينهم لا يحدث بمعزل عن السياق الاجتماعي؛ إذ يعزز الأفراد والمؤسسات ذلك القبول عن طريق التبعية، أو الخوف، أو حتى التواطؤ غير الواعي.
إن فهم السمات النفسية للطغاة ليس فقط أداة للكشف عن جذور سلوكهم، بل أيضًا وسيلة لتمكين المجتمعات من مواجهة الهيمنة والاستبداد بطريقة واعية. وفي الحياة اليومية، تذكِّرنا هذه السمات بأهمية الحفاظ على العلاقات المتوازنة التي تتجنب النمطيات السامة في السيطرة والتبعية. بذلك، يمكننا أن نسعى إلى بناء بيئات أكثر عدالة وحرية؛ إذ تكون السلطة وسيلة لتحقيق الخير المشترك، وليست أداة لإشباع الغرائز الفردية للطغاة.