الذكاء الاصطناعي والمنظومات المتألهة

بعد أن كشف الذكاء الاصطناعي عن ساقيه، وخاض أوَّل ما خاضه من مهام إبداعية كانت قاصرةً على البشر لآلافِ السنين، بدأت تتعالى نبرة الخوف والتحذير من مخاطر الذكاء الاصطناعي، وتهديده المتزايد لكل الوظائف والمهن.
وقد انسقتُ حينًا مع المنساقين إلى ذلك الخوف، بل وأعلنتُ أكثر من مرة أن الذكاء الاصطناعي لن يمرَّ عليه عَقدٌ واحدٌ إلا وهو قادرٌ على أن يؤدِّي جميع الوظائف البشرية التي تعتمد على المهارات الذهنية، على نحوٍ أكثر كفاءةً ودقةً وسرعة، وأن قضية تهديده للوظائف مفروغٌ منها، والحكم فيها واجب النفاذ!
لكنني فكَّرت بعدها… فكَّرت كثيرًا… إلى أن هداني التفكير إلى ما هدى إليه المتنبي من قبلي، حين قال:
أنا الغريقُ فما خَوفي من البَلَل!
بصياغةٍ أخرى: إذا لم أكن أملك وظيفة أصلًا، فهل هناك مسوِّغ لأن أرتاد ركب الخائفين على وظائفهم من الذكاء الاصطناعي؟!
والعجيب أن سبب عدم حصولي في حياتي على وظيفة بدخل ثابت وتأمين صحي ومعاش، ليس بعيدًا عن الذكاء الاصطناعي! بل في الواقع إن سبب عدم حصولي على وظيفة -وهو عدم حصولي في الأصل على شهادة جامعية- يمكن وضعه، هو والذكاء الاصطناعي، تحت نفس العنوان العريض الذي اندرجَت تحته عشرات البنود التي أفسدت حياتي: المنظومات المتألِّهة.
ما معنى المنظومة المتألِّهة؟
ينقل إلينا عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» هذا القول:
إعلان
ما من مستبدٍّ سياسيٍّ إلا ويتَّخذ له صفةً قدسيةً يشارك بها الله.
وأنا أخرِجُ هذا القولَ من محدودية ارتباطه بالاستبداد السياسي، إلى أفق أوسع، وهو المنظومات المتألِّهة كافَّة، التي اتخذَت لنفسها صفاتٍ إلـٰهية، تهيِّئ لها السيطرة على البشر!
الاستبداد السياسي، كصورة متطرفة من مبدأ السيادة الذي نِيطَ بالدولة منذ نشأتها، من أوضح المنظومات المتألِّهة، وأوثقها صلةً بالصفات الإلـٰهية… وهذا منطقي؛ لأن الاستبداد السياسي ناشئٌ من رحم منظومة متألِّهة أخرى وهي: الدولة، التي اتخذ مبدأ قيامها واستمرارها -وهو مبدأ السيادة- من الألوهية صفتين، هما: القوة المطلقة، والسلطة النافذة -وليس الاستبداد السياسي إلا مجرَّد تركيز لهاتين الصفتين في يد حاكم متألِّه-؛ ذلك فضلًا عن الصفة الإلـٰهية الكبرى التي تشترك فيها كل المنظومات المتألهة وتحاكي بها الإلـٰه الأصلي -الطبيعة/ الكون-، وهي: أنها تنشأ خارج إطار القانون، أو بالمخالفة لقانون سابق، قبل أن تصبح هي المؤسسة للقانون، المعاقبة لمَن يخالفه، القادرة على تعديله كيفما شاءت (لا تنسَ أن الكون/ الإلـٰه الأصلي نشأ بسبب عدم التناظر بين كمية المادة والمادة المضادة الناتجتين عن الانفجار العظيم، في مخالفةٍ صارخةٍ للمنطق الرياضي الذي أرسى الكونُ قواعدَه بعد ذلك! والدولة -كذلك- نشأت خارج إطار القانون، من حالة الطبيعة الأولى الفوضوية التي يكون فيها كل إنسان في حربٍ على الجميع -بتعبير توماس هوبز- ثم لاحقًا أصبحت شرعية أنظمة الحكم الجديدة تُكتَسب إما بانقلاب وإما بثورة، وكلاهما يخالف قوانين سابقة وضعتها الأنظمة القديمة التي اندلع ضدَّها الانقلاب أو الثورة).
على أن الدولة ليست أول منظومة متألِّهة، ولا أقدَر تلك المنظومات على التحكم في البشر. بل إنها تُعتَبر منظومة حديثة -نسبيًّا- ومحدودة الأثر -نسبيًّا- إذا قِيسَت إلى المنظومات المتألِّهة الأقدم والأكثر تسلُّطًا، التي اخترعها البشر ليتحكَّموا في مجتمعاتهم.
اللغة: المنظومة المتألِّهة الأولى التي أوجدَت كلَّ منظومة متألِّهة!
أقدم منظومة متألِّهة هي: اللغة… ذلك الكيان الترميزي الهائل المعقد الذي نجح منذ آلاف السنين في إطلاق الطاقة الكامنة للعقل البشري، ببرمجة الخلايا العصبية على نحوٍ يُمَكِّنها من إدراك ما لا يُمكِنها إدراكه بالوسائل الغريزية وحدها، والتفكير المنطقي والابتكاري والتحليلي على نحوٍ يتجاوز قدرة أي كائن حي آخر.
لِلُّغة مبدأ تشفيري بسيط، وهو استخدام الصوت للتعبير عن الشيء، سواء أكان هذا الشيء حقيقيًّا أم غير حقيقي!
وبالرغم من بساطة هذا المبدأ، إلا أنك حين تفكر فيه قليلًا، فسوف تجد أنه والجنون سواء!
ما العلاقة بين الصوت (ماء) وبين هذا السائل عديم اللون الذي تشربه لتتغلَّب على ألم العطش؟! وما العلاقة بين الصوت (أخضر) وبين انعكاسٍ (لا صوتَ له أصلًا) لموجات ضوئية كهرومغناطيسية عن سطحٍ امتصَّ كل طيف الضوء المرئي ما عدا تلك الموجات!
لا توجد علاقة مباشرة بين الأصوات الدالَّة على الأشياء، والأشياء نفسها… هي مجرَّد شفرة متفَق عليها بين أفراد الجماعة الإنسانية؛ لخلق حالة من -الذهان الجماعي-، تهيِّئ لهم وهمًا مشتركًا بأن عناصر هذا العالم مفهومة، لمجرد حدوث ارتباط عصبي بين الصوت المعبِّر عن الشيء، والصورة الذهنية المكتسَبة التي اختزنتها الحواسُّ غريزيًّا في الخلايا العصبية عنه!
وهذا «الذهان اللغوي الجماعي» هو أقدم منظومة متألِّهة عرفها البشر، وهو الذي فتح الباب لعشرات المنظومات المتألِّهة التي سيطرت على البشر لآلاف السنين.
ولقد اتخذت اللغة من الإلـٰه صفتين، لاحظهما البشر -غريزيًّا- في ظواهر الطبيعة -الإلـٰه الأصلي- قبل اختراع اللغة بزمن طويل. هاتان الصفتان هما: السببية -أو الارتباط الزمني [ظاهريًّا] بين السبب والنتيجة-، والاستقراء -أو إمكانية وجود قاعدة عامة يمكن استخلاصها بملاحظة ظواهر جزئية-. بالإضافة إلى أنها بالطبع -كعادة المنظومات المتألهة- نشأت بالمخالفة لقانون سابق؛ وذلك -أولًا- بحدوث طفرة في جين FOXP2 -والطفرة هي الطريقة المعتمَدة التي تخالف بها الحياةُ القانونَ-، ثم -ثانيًا- بمخالفة الطريقة الغريزية لتشفير مُعطَيات العالم، بإدخال وسيط صوتي بين معطيات العالم والحواس، تتحوَّل إليه تلقائيًّا أيُّ معلومة تلتقطها الحواس، قبل أن تُتَرجم لاحقًا على النحو المحفوظة مساراته -غريزيًّا- في المخ، لينشأ من الوسيطِ الصوتيِّ ذلك الصوتُ الداخليُّ -الذهانيُّ- الذي يحوِّل كلَّ شيءٍ حولك إلى أصوات/ أفكار.
لكن اللغة -بوصفها ذُهَان- كان لها عَرَض شديد الخطورة، لا يزال البشر يعانون منه إلى اليوم، وهو: تعزيز -الوعي بالوعي-!
الارتباط الذهني بين الصوت، ولاحقًا، -الرمز المكتوب- وبين الشيء، أوهم الإنسانَ أن العالمَ قابلٌ حقًّا لأن يُفهم -رغم أنه لم يوجد في الأصل ليكون مفهومًا، بل ليستمر، وليعيد خلق نفسه فحسب-… بل وأوهمه أيضًا بإمكانية أن يكون للعالم سبب أكبر وأبعد من حيِّزه القائم، وهو ما يُعرَف بالميل لاكتشاف الفاعل Agent Detection Bias -لا تنسَ أن اللغة اتخذت من الطبيعة/ الإلـٰه، صفةَ السببية؛ وهو مبدأ، إن يكن ملاحَظًا بالفعل في أغلب ظواهر الكون، إلا أنه ينهار في ظواهر أخرى، مثلما ينهار الزمن الخطي، الذي هو أهم مقوِّمات مبدأ السببية-… وأوهم هذا -الارتباطُ الذهنيُّ بين الأصوات والأشياء- الإنسانَ أيضًا بأن ذلك -السبب الأكبر- له غايةٌ أخلاقيةٌ وهدفٌ سامٍ وقوانينُ ثابتةٌ محفوظةٌ يواجه من يخرج عليها عواقب أخلاقية، وهو ما يُعرَف بـفرضية العالم العادل Just-world Hypothesis. وكان الوهم الأخير الذي أسلم الإنسانَ إليه هذا الذهانُ اللغوي، هو: الوعي -المعزَّز- بالوعي!
هناك بالطبع أساس بيولوجي لوعي الكائن الحي بذاته، وهو ما نلاحظه في تعرُّف أفراد من بعض الأنواع الحيوانية على أنفسهم، وإدراكهم لكينونتهم، وإدراكهم اختلافَهم عن غيرهم من الحيوانات أو انتماءَهم إلى نوعهم الحيواني. لكن الذُّهان اللغوي عزَّز عند الإنسان هذا الشعور، فأصبح أوعى الكائنات الحية على الإطلاق بوعيه: فاهمًا لأبعاد تجربته الحياتية، وقادرًا على وصفها، والتعبير عنها بدقة، وتطويرها، والتحكم فيها، وإيجاد أسباب لظواهرها، بل والتمرُّد عليها، ونقضها من أساسها، إما بتغييب الوعي بالكلية عن طريق المواد المخدِّرة والمهلوسات، أو بالخروج على النَّسَق اللغوي/ المنطقي، والسقوط في هوَّة الاضطرابات العقلية والسلوكية التي لها رافد قوي متعلق بالاضطرابات اللغوية وبالثغرات التي تنطوي عليها أصلًا الأنساق اللغوية وما بُنِي عليها من أنساق منطقية!
وبفعل هذا الشعور المتطور بـ «الوعي بالوعي»، تمكَّن الإنسان من استغلال اللغة لتطوير الحضارة، والتحكم في كثير من قوى الطبيعة/ الإلـٰه الأصلي، وتنظيم المجتمعات البشرية -بوصفها صورة من صور التحكم في الطبيعة/ الإلـٰه الأصلي، الذي تُعتَبر المجتمعات البشرية جزءًا منه-، وذلك من خلال منظوماتٍ متألِّهة أخرى، لُغوية المنشأ.
هذا تنويع على المثل الشهير: لا يفل الحديد إلا الحديد!
فقد واجه الإنسانُ الطبيعةَ/ الإلـٰه الأصليَّ، بمنظوماتٍ متألِّهة، تمتلك بعض صفاتها؛ لإخضاعها والسيطرة عليها؛ ونجح في ذلك إلى مدى بعيد.
ولكن، لا بد هنا من أن نتساءل: وما الذي دفع البشر أصلًا إلى اللجوء إلى المنظومات المتألِّهة؟
لماذا لم يكتفوا، مثل كل الكائنات الحية، بالخضوع الغريزي الصارم الصامت للمنظومة الإلـٰهية الأصلية التي تُدعَى: الطبيعة؟!
الحياة في عالَم حدِّي
في إحدى حلقات مسلسل «عائلة سمبسونز – The Simpsons»، كان مستر بيرنز -وهو رجل أعمال جَشِع يملِك محطة طاقة نووية في مدينة اسبرينجفيلد- في لقاء مفتوح مع الأطفال. وبعد أن أنهى كلمته، طلب منهم أن يطرحوا أسئلتهم، فرفعت ليزا سمبسونز يدها، وقالت له: “هل لدى محطتك النووية برنامج لإعادة التدوير؟”. فأجابها مندهشًا: “إعادة تدوير؟!”، وأخذ يعتصر ذاكرته، ويتصفَّح القاموس -في خياله- بحثًا عن تعريفٍ لكلمة «إعادة التدوير Recycling»، فلم يَجِد لها أيَّ أثر! فقال لليزا: “لا أظن أن هذه الكلمة مألوفة لي أيتها الكعكة الرائعة الصغيرة”. فسألَته مصدومة: “ألم تسمع من قبل عن إعادة التدوير؟ إنها تعني: إعادة استعمال الأشياء للحفاظ على مواردنا الطبيعية”. فقال لها مستر بيرنز منفعلًا: “إذًا، أمُّنا الطبيعة تحتاج الآن إلى أن نُسدِي لها معروفًا! ربما كان ينبغي عليها أن تضع هذا في اعتبارها عندما كانت تحاصرنا بالجفاف والفيضانات وقِرَدَة اللوريس السامَّة. الطبيعة هي التي دقَّت طبول معركة البقاء، والآن تريد أن تنهيها لأنها توشك أن تخسرها! ها أنا أقول لها: حظًّا أوفر”.
وليس رأي مستر بيرنز، رغم سياقه الهزلي الذي لا يخفى على أحد، ببعيدٍ عن الواقع؛ وهو بالقطع يصلح لتفسير وحشية الإنسان الحاليَّة في تعامله مع الطبيعة، ولا مبالاته بأيِّ خللٍ يطرأ على النظام البيئي. ويصلح كذلك للإجابة عن سؤال: ما الذي أوصلَنا إلى اللجوء إلى المنظومات المتألِّهة؟
إن الذي أوصلنا إلى إنشاء المنظومات المتألِّهة، بدءًا من اللغة وانتهاءً بالذكاء الاصطناعي، هو أننا أدركنا مبكرًا، حتى من قبل اختراع اللغة، أن الحياة مع الطبيعة/ الإلـٰه الحقيقي، لا تُطاق!
منذ عدَّة أعوام، قرأت في صفحةٍ على الفيس بوك، سؤالًا أرسلَته فتاةٌ إلى أحد الشيوخ، عنوانه: لماذا يكره الله الأنثى؟ وأخذت تسرد المقدِّمات التي دفعتها إلى طرح هذا السؤال، مِن جعل شهادة الرجل بامرأتين، وإباحة ضرب الزوجة، وإلزامها بإطاعة الزوج كقوَّامٍ عليها وقائدٍ لمنظومة الزواج، لو جاز لها أن تسجد لأحدٍ من دون الله لسجدت له، وأن الملائكة تلعنها إذا منعها مانعٌ من معاشرة زوجها، وأن من حقه أن يختلي بنساء غيرها، مثنى وثلاث ورباع، في إطار شرعي تمامًا، وحُرِّم عليها ذلك، وأن نصيبها من الميراث نصف نصيب أخيها، وأنها ناقصة عقل، وناقصة دين، وأنها مُلزَمة بتغطية شعرها وكل جسدها عدا الوجه والكفين، والانتقاب -في بعض التفسيرات-، والاحتجاب التام والتزام البيت -في تفسيرات أخرى-، وأن أكثر أهل النار نساء، وأنها إذا دخلت الجنة فليس لها ما للرجال من أزواج مطهَّرة من الحور العين… إلى آخر هذه الحُجَج التي أشعرَتها بأن الإسلام مسلَّط على النساء لإفساد حياتهن وتمكين الرجال من إخضاعهن. وتساءلَت في النهاية: لماذا خلقنا الله نحن الإناث إن كان يكرهنا إلى هذا الحد؟
وبوصفي شخصًا مؤمنًا بوحدة الوجود، انطلق بي التفكير، بعد أن اطَّلعت على وجهة نظر تلك الفتاة، إلى أبعادٍ أخرى! أخذت أتساءل في نفسي: لماذا تكره الطبيعة المرأة؟! لماذا تأتيها آلام الطمث، ولماذا ينزف الدم منها لمدة خمسة أيام -أو أكثر- شهريًّا، يسبقها اضطراب مزاجي، ويعقبها اضطراب مزاجي؟ أي رجل في هذا العالم يحتمل أن يتعرَّض لهذه الخبرة السيئة المدمرة نفسيًّا؟! أن تأتي عليه أيام محدَّدة، كلَّ شهر، ينظر فيها إلى ذَكَره، فيجده غارقًا في الدم، ولا يفتر تدفق القطرات منه! لماذا يُمرضها الحمل والولادة إلى هذا الحد، دونًا عن بقية إناث الحيوانات؟ لماذا كان جسدها أدق وأضعف من الرجل على نحوٍ غير متكافئ؟
فكان السؤال الأنسب في هذا السياق: مَن الأحقُّ بأن تنتقده المرأة المسلمة التي شغلت فكرَها هذه الإشكالياتُ المعقدة: الإلـٰه والدين -بوصفهما منظومتين متألِّهتين خلقهما البشر للسيطرة على المجتمع-، أم الطبيعة -الإلـٰه الحقيقي والمسيطر الأول والأوحد-؟!
وإذا اعتبرنا هذا السؤال حَجَرًا أُسقِط من أعلى ارتفاع في بحيرة، واعتبرنا أول دائرة يثيرها في المياه هي ذلك التساؤل عن الآلام البشعة التي ابتلَت الطبيعةُ بها المرأة، فإن بقية الدوائر المتتابعة هي تساؤلات أخرى، تمتدُّ إلى آفاقٍ أبعد، مثل: الآلام التي أصابت البشرَ جميعًا، ذكورًا وإناثًا، بسبب الجوع والعطش والشَّبَق، والبحث المُضني المستمر عن الطعام والمياه والتزاوج، والمعاناة من الظروف الجوية القاسية، والحيوانات المفترسة، والأوبئة من فيروسات وسلالات بكتيرية لا ترحم، والزلازل الفتاكة، والفيضانات، والبراكين، والتغيرات المناخية الفوضوية، والحوادث التي تسبب الجروح وانكسار العظام، وأمراض الشيخوخة، وسكرات الموت، والموت نفسه. ثم تتسع الدائرة لتشمل كل الكائنات الحية، وخاصةً تلك التي تمتلك جهازًا عصبيًّا يجعلها تشعر بالألم. هل الغزالة سعيدة بالركض الأبدي هربًا من الأسود؟ ما شعور الأرنب وهو بين فكَّيْ ضبع؟ وما شعور النحلة حين يلتهمها السرعوف حيَّة؟ وما شعور الشاة التي يبتلعها تنين الكومودو وهي تموت مختنقةً في معدته؟ كم قطًّا فقد ذيله أو سُمِلَت عينه في معركة من المعارك اليومية مع عناصر الطبيعة من أفراد نفس النوع أو أفراد من أنواع أخرى؟ وتتسع الدائرة لتشمل الكوكب بأكمله. هل هذا كوكب يدعم الحياة حقًّا، أم يتربَّص بالحياة ليصيبَها بعذابٍ من تقلُّباته أو بأيدي صور الحياة أنفسها التي أوجدَها؟! ما من صورة حياة على وجه الأرض إلا وقد طوَّرت آلياتٍ للتكيُّف مع ظروفٍ غير مواتية لاستمرارها، وكأن الحياةَ ظهرت برغم أنف هذا الكوكب، أو ظهرت في ظروفٍ ملائمةٍ موغِلة في القِدَم، ثم تغيَّرت الظروف، ولكن بعد أن انطلقت رصاصة الحياة إلى غير رجعة، فلم يعد أمام صور الحياة بدٌّ من محاولة التكيُّف والتطوُّر من أجل الاستمرار! أم لعلَّ الكوكب يستغل الحياة وما يملؤها من صراع للحفاظ على استقرار بنيته الجيولوجية عن طريق تدوير عنصر الكربون بين كل الكائنات الحية -فيما يُعرف بدورة الكربون-، فكأن النظام البيئي بالكامل -أو التفاعلات البيوكيميائية المُدرِكة- وسيلة إنتروبية لخلق الفوضى التي تهدف إليها كل عناصر الكون، وليس النظام الظاهر إلا وسيلة لخلق فوضى أكبر في سبيل الهدف الأعظم وهو التوازن الديناميكي الحراري؟ وتتسع الدائرة لتشمل الكون. هل هناك وعي كوني يسعى إلى إدراك نفسه من خلال عمليتين، هما: -جَمع المتآلفات، والتدمير الخلَّاق-، في سبيل الوصول إلى حالة شبيهة بـ -الوعي بالوعي- التي وصل إليها البشر؟ هل «الحياة» مجرَّد حتمية كونية تحاول تقليد «النظام الكوني» المبني على الصراع والتدمير والتخليق ممَّا دُمِّر وتحقيق التوازن النهائي على كل المستويات؟ ثم تتسع الدائرة لتشمل كل شيء… هل هناك هدفٌ حقًّا لأي شيء، أم إن البحث عن هدفٍ للأشياء هو مجرد مسارات عصبية أنشأها فينا التطور عبر ملايين السنين لنقدر على التكيُّف مع الطبيعة، ثم وَجَدَت خوارزميةُ البحث عن هدف لنفسها مجالًا أرحبَ في الذهان اللغوي الذي طوَّر وعيَنا بالوعي، فكانت أهم خصائص هذه الخوارزمية: الغائية… الإيمان بالسبب؟! وتتَّسع الدائرة أكثر وأكثر لتشمل لذَّات الحياة والوعي… هل الحياة ممتعة فعلًا؟ أم تحتال علينا بالمُتَع لكي نظلَّ أحياء؟! وما الحكمة من عالَمٍ يُعطيك كلَّ شيءٍ ببذخ جنوني، ثم يسلِبه منك في لحظة، وكأنه لم يُوجَد قط؟! كماءٍ نزل من السحاب، فاخضرَّت به الأرض، حتى إذا أخذت زخرفها، ووصلت إلى تمام جمالها، اختفى كلُّ شيء فجأةً، على نحو عبثي، وعادت ترابًا، كأنْ لم تغنَ بالأمس! عالمٌ يحترف التدمير والخلق. لا يبالي بأن يُعطيك ملذَّات جنونية: كالطعام بكل أنواعه، والجنس، والمواد نفسية المفعول، من أخف أنواعها (الشاي والقهوة والشوكولاتة)، إلى أقواها (القنَّب والخشخاش والقات والطباق والفطر السحري). ثم بعد ذلك لا يُبالي بأن يملأ جحيم العدم من الكائنات الحية والناس أجمعين. قادر على كل شيء، ويعطي بغير حساب، ثم يأخذ كل شيء، دون أن يُسألَ عن شيء!
بماذا يُذكِّرنا هذا السلوك؟!
أجل… يُذكِّرنا باضطراب الشخصية الحَدِّية!
هذا الاضطراب له علامتان أساسيتان: الاندفاع الشديد والتهور دون تفكير في العواقب، والتقلُّب والتأرجُح المتطرِّف في الأحاسيس بين الشعور ونقيضه.
هكذا يتعامل معنا العالَم… كما يتعامل الإنسان المصاب باضطراب الشخصية الحدِّية مع مَن حوله!
يعطينا ببذخ كدلالةٍ على الإفراط في المحبَّة والتقدير، ثم يؤذينا بوحشيةٍ كدلالةٍ على الإفراط في الكراهية والتحقير. يهَبنا لذةً تجعلنا نتمنَّى أن تدوم الحياة إلى الأبد، ثم يعذِّبنا بلحظاتٍ من التعاسة والألم تجعلنا نتمنَّى أن تنتهي الحياة في ساعتِها. ويتقلَّب من الشيء إلى نقيضه بعشوائية، لا يمكن استشفاف أي معنى منها!
عالَم حدِّي، متطرِّف، فيه وفرة من كل شيء؛ من الجمال والقبح، ومن اللذة والألم، ومن الرحمة والقسوة، ومن الطمأنينة والاضطراب، ومن النقاء والفساد؛ وهو -مع كل ذلك- لا يُبالي بشيء، ولا أحد يعرف السبب الحقيقي لوجوده، ولا الهدف من استمراره!
ظلَّ أشباه البشر، ومن بعدهم البشر، ملايين السنين، خاضعين لسيطرة هذا العالم الحَدِّي، عاجزين عن التفكير في شيءٍ أبعد ممَّا تُتَرجمه حواسُّهم، ولا حول لهم ولا قوة بإزاء هجماته الشعواء وأذاه الذي لا يُقهَر، إلى أن حدثت الطفرة الأهم، التي اخترع الإنسانُ على إثرها أخطر سلاح يواجه به العالم… المنظومة المتألِّهة الأولى التي غيَّرت وجه الأرض: اللغة.
يبدو أن هنا تعارضًا مع الفكرة التي طرحتها سابقًا، أعني: أن الغرض الأصلي من اللغة -أول منظومة متألِّهة- هو السيطرة على البشر… السيطرة على البشر فحسب، وليس مواجهة العالم.
في الواقع، ليس هناك تعارض… فقد كانت الخطوة الأولى لمواجهة العالم هي توحيد البشر -وهم بلا شك جزء من العالم-، وتشكيل مجتمعات كبرى لها نفس الأهداف والقِيَم؛ لأن الأفراد والجماعات الصغيرة لا يقدرون على التصدِّي للقوة العسكرية الهائلة للطبيعة، بكل أسلحتها: من حيوانات مفترسة، وأسلحة بيولوجية -فيروسات، وبكتيريا، وفطريات-، وظروف مناخية وجيولوجية قاسية، وكوارث طبيعية… كل هذه الأسلحة تحتاج إلى توحيد مجموعات بشرية هائلة… وقد خرجَت من عباءة اللغة منظومات متألِّهة أخرى، استطاعت أن تؤدِّي مهمتها في السيطرة على البشر وتوحيدهم بإزاء الطبيعة، على أكمل وجه… الأساطير، الآلهة، الأديان، الكتب المقدَّسة، منظومات الوحي والإلهام المتألهة من الكهنة إلى رُسُل الوحي، المؤسسات الدينية، الزواج والأسرة، القبيلة، القانون، الأعراف، التمييز بين الخير والشر، النظم السياسية، الجيش، الشرطة، النظم التعليمية، النظم الاقتصادية، النظم الاجتماعية، وسائل الاتصالات، شبكة الطرق والمواصلات، الأوراق النقدية، الدولار كعملة موحَّدة للتجارة الدولية، المنهج العلمي التجريبي، النظريات العلمية الكبرى، العلم الحديث، العالَم ثنائي القطب، العالم أحادي القطب الذي تحكمه أمريكا، النظام الرأسمالي، الشركات متعددة الجنسيات، الأقمار الصناعية، وسائل المراقبة والتجسس، وسائل الإعلام القادرة على غسيل المخ، شبكة الإنترنت، مواقع التواصل الاجتماعي، الذكاء الاصطناعي.
هذه المنظومات المتألِّهة، بنجاحها في السيطرة على البشر وتنظيم جموعهم الهائلة وتوحيدها على أهداف مشتركة، استطاعت أن تُمكِّنهم من قهر أغلب التحديات التي واجهَتهم، فكانت نتيجة ذلك أن رُفِعَ البشر إلى عرش هذا الكوكب، كأول كائنات في التاريخ تعيش حياةً غير خطرة، وتتَّخذ قرارًا واعيًا غير غريزي بإهداء الحياة لكائنات أخرى -أطفال-، بالزواج -الواعي- والإنجاب -المخطَّط له-.
“حياة غير خطرة! هل قلتَ: حياة غير خطرة؟! هل أنت مجنون؟ أتَصِف هذه الحياة الرديئة التي تترصَّدنا في كل لحظة بالفقر والمرض والحروب والمجاعات بأنها حياةٌ غير خطرة؟”.
أكاد أسمعك أيها القارئ وأنت تطرح هذا السؤال… وهو سؤالٌ في محله.
حقًّا، كيف أعتبر هذه الحياة، التي يعيشها البشر حاليًّا، حياة طيبة، وغير خطرة، رغم كل ما يعانيه أغلبنا فيها؟!
ينقلنا هذا إلى أهم جزء في هذا المقال، وهو: أوجُه الخلل في المنظومات المتألِّهة.
عيوب المنظومات المتألِّهة
شاهدت منذ فترة تسجيلًا للشعراوي، يشرح فيه مفهوم العبودية لله. فقارَن بين: العلاقة بين العبد والسيد في عبودية البشر للبشر، وبين عبودية الإنسان لله. فقال إن في الحالة الأولى: السيد يمتص دم العبد. بينما في العبودية لله: العبد يأخذ خير السيد. وبيَّن أن عبوديةَ الإنسان لله شرفٌ للإنسان، وعزٌّ له. وهو ما فصَّله آخرون بأن الإنسان يكتسب «الشرف والعزة والقوة والكرم» بعبوديته لله؛ لأنه بها صار عبدًا لـ -شريف عزيز قوي كريم-. بينما عبودية الإنسان للإنسان -الضعيف الذليل الدنيء-، لا تعود عليه إلا بـ «المذلة والضعف والبؤس». واستشهد الشعراوي بقول الشاعر:
حَسْبُ نفسِي عِزًّا بأنيَ عبدٌ
يحتَفِي بي بلا مواعيدَ ربُّ
فأيُّ سيِّدٍ في هذه الأرض يحتفي بعبده، ويفرح بلقائه؟! وأي رئيس في هذا الزمان إذا تقرَّب إليه مواطنٌ شبرًا، تقرَّب إليه ذراعًا، وإذا تقرَّب إليه ذراعًا، تقرَّب منه باعًا، وإذا أتاه ماشيًا، أتاه هرولةً؟! وهذه الموازنة بين عبودية الإنسان لله وعبوديته للإنسان ضِمن إطار الرق -كمنظومة اجتماعية متألِّهة-، وتفضيل العبودية للإله الحق على العبودية للمنظومة المتألهة الظالمة—هذه الموازنة ليست ببعيدةٍ عن مبدأ الحاكمية في الإسلام؛ ذلك الذي تصدح المآذن به خمس مرات يوميًّا، لتذكير الناس بأنْ: لا إله إلا الله… بأنه لا يوجد إلا إله واحد فقط يستحق أن يُخلِص الإنسان له العبودية ويخضع له، وأن الإنسان لن يحقق مبدأ الحاكمية إلا إذا تحرَّر تحرُّرًا تامًّا من سيطرة كل المنظومات المتألهة -لا حاجة إلى التذكير بأن مبدأ الحاكمية أصبح مقصودًا به لاحقًا: حاكمية الإسلام -وَفق إطارٍ معيَّنٍ من التأويل لنصوصه- وحاكمية إله الإسلام، كمنظومةٍ متألهةٍ أخرى، وليس الإلـٰه الحقيقي/ الطبيعة. فأصبحت الحاكمية مجرَّد استعلان لصراع جديد بين المنظومات المتألهة-!
بدأ الإسلام، كما قلت، كثورةٍ على منظومات متألهة أقدم، كان لها حضورٌ طاغٍ في زمن الرسول… الرق، وعبادة الأصنام، والعنصرية، والطبقية، والقبلية، والذكورية، والنكاح المختلط، والنظام الاقتصادي الربوي، والعالم ثنائي القطب الموزَّع بين الفرس والروم، والمنظومات المتألهة الدينية الكبرى، اليهودية، والمسيحية، والمانوية، والزرادشتية، وأوجه الخلل في اللغة -المنظومة المتألهة الكبرى- بسبب تعدُّد لهجاتها وعدم اجتماع العرب على لغة واحدة ذات دلالات قاطعة متفق عليها وقواعد نحوية واضحة المعالم.
وكذلك بدأ كدعوة صريحة إلى إلـٰه إبراهيم، الذي يتميز -وَفق القرآن- عن بقية الآلهة بأنه أكبر منها جميعًا… وليس هناك في العالَم ما هو أكبر من العالَم نفسه. ولا يصعب على مَن يقرأ القرآن بتمعُّن أن يقرن بين التصوُّر القرآني عن الإلـٰه الحق، ووحدة الوجود… أغلب الآيات التي تتحدَّث عن الله، من الممكن أن تَستبدل فيها بكلمة «الله»: الطبيعة أو كوكب الأرض أو العالَم أو النظام البيئي أو الكون، ولا يختل المعنى، حرفيًّا أو مجازيًّا.
إذًا، قبل أن يتحوَّل الإسلام وإله الإسلام إلى منظومة متألِّهة، لها أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كان ثورةً على منظومات متألهة أخرى فاسدة بغرض -وهذه هي النقطة التي بسببها وضعتُ كلَّ ذلك التمهيد الطويل- بغرض العودة إلى الطبيعة/ الإلـٰه الحقيقي، ومماهاة هذا الكيان الهائل بتحقيق الهدف من وجوده وهو التوازن -ألَّا نطغى فى الميزان-، ومعالجة أوجه القصور في المنظومات المتألهة لتحسين حياة البشر، وتحقيق التناغم مع النظام البيئي -الذي ظهر الفساد في بَرِّه وبَحرِه بما كسبت أيدي الناس-.
قبل أن يتحوَّل الإسلام إلى منظومة متألِّهة مسيطرة جامدة مستمرة لمئات السنين على حالها وبثغراتها وعيوبها دون أن يحدث فيها تطور جوهري -إلا على يد قلَّة من المفكرين الذين نبذتهم المنظومة الإسلامية المتألهة بتكفيرهم- ― قبل أن يتحوَّل إلى هذا الشكل الجامد، كان قد نشأ أصلًا من أجل تحقيق نفس الهدف الذي نشأت من أجله كل المنظومات المتألهة المستحدثة في كل فرع من أفرع المنظومات المتألهة، وهو: معالجة أوجُه الخلل في المنظومات المتألهة الأسبق؛ التزامًا بمبدأ سنَّه البشر منذ استخدموا المنظومات المتألهة للسيطرة على المجتمع، وهو أن: المنظومات المتألهة لا تواجَه إلا بمنظومات متألهة… الجيش يُواجَه بجيش، والملك يُسقطه قائدٌ لمجموعات متمردة أو ملك آخر، والنظام المالي يُسقطه نظام بديل له مصكوكاته من عملات ذهبية وفضية وغير ذلك، والدين يُسقطه دين جديد، والإلـٰه يُسقطه إلـٰه أقوى، واللغة تُستبدل بها لغة أخرى، وهكذا.
هذا تنويعٌ آخر على مبدأ: لا يفلُّ الحديد إلا الحديد.
أردنا في البداية مواجهة الطبيعة/ الإلـٰه الأصلي، فأنشأنا المنظومات المتألهة، ثم ظهرت أوجه خلل في المنظومات المتألهة، فأنشأنا منظومات متألهة جديدة لإصلاحها!
ولقد أنشأ الرسول منظومته المتألهة في حياته؛ لأن ذلك كان القرار الوحيد الحكيم لضمان استمرار وتطوُّر دعوته للعودة إلى الإلـٰه الحقيقي/ الطبيعة، والتحرُّر من سيطرة المنظومات المتألهة الأخرى… فأنشأ دولةً ليواجه دولة الفرس ودولة الروم، ثم أنشأ نظامًا اجتماعيًّا جديدًا، ووحَّد العرب على نَسَق نحوي رسمي هو لغة قريش، وأعلن أن كل الأديان دين واحد: هو الإسلام، استنادًا إلى معيار واحد هو الإيمان بإلـٰه واحد -منظومة متألهة جديدة- لا تشترك معه آلهة أخرى -منظومات متألهة أخرى-. ولا يتم هذا الإيمان بالإلـٰه الواحد إلا إذا التزم الإنسان بتعاليمه، الملخَّصة في مبدأ واحد هو: حفظ التوازن/ الميزان/ الالتزام بنظام الطبيعة.
غرض نبيل حقًّا، لكنه لم يتطوَّر -إلا عند فلاسفة الصوفية الذين آمنوا بوحدة الوجود-؛ وذلك بسبب إهمال الناس والمؤسسات -المنظومات المتألهة- الحاكمة في مجتمعاتنا الناطقة بالعربية، السُّنَّةَ البشريةَ القديمةَ التي قلَّدَها وسار على نهجِها الرسول -تطوير المنظومات المتألهة وإصلاح عيوبها-، بالتجمُّد عند المنظومة المتألهة التي أرسى الرسول قواعدها -الله والإسلام-، وعدم إنشاء منظومات متألهة جديدة لإصلاح عيوبها، وتوهُّم أن الغرض الأول لتلك المنظومة المتألهة التي أسَّسها الرسول، هو: النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي لم يكن إلا وسيلةً تبرِّرها الغاية، لا العودة إلى الإلـٰه الحقيقي/ الكون (الغاية الحقيقية التي من أجلها أرسى الرسول منظومته المتألهة)، والتخلُّص من سيطرة كل المنظومات المتألهة الأخرى على الإنسان!
والسؤال هنا: وما الذي يدفعنا أصلًا إلى النكوص على أعقابنا، والتخلُّص من سيطرة المنظومات المتألهة، والعودة إلى حضن الإلـٰه الأصلي/ الطبيعة، رغم أن المنظومات المتألهة هي التي أنقذتنا في الأصل من تقلُّباته الحَدِّيَّة الجنونية، وهي التي أرسَتْ مركزيَّة البشر في هذا العالم، وجعلتهم يحظَون بحياةٍ لم يحظَ بمثلها كائنٌ حيٌّ قط؟
الإجابة بسيطة: إذا أصبحَت المنظومة المتألهة أشدَّ قسوةً على الإنسان من الإلـٰه الأصلي/ الطبيعة، انتفت الحاجة إليها، وأصبحت العودة إلى الإلـٰه الأصلي/ الطبيعة أرحم بالإنسان منها.
قاعدة واضحة، ولا تحتاج إلى شرح طويل!
على مدار آلاف السنين، لم تزدنا المنظومات المتألهة إلا معاناةً وقلقًا… في البداية صوَّرت لنا الألم والمرض والمعاناة والموت كأعداءٍ لا بدَّ من التغلب عليهم، برغم أن كل أولئك مجرد آليات ضبط للنظام البيئي يُراد بها استقرار المنظومة، دون أي عداء حقيقي ظاهر أو مشاعر شخصية مُبطَنة! في الواقع، إن الكراهية الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا بدافع أيديولوجي أو بدافع غريزي مبني على وعي بيولوجي المنشأ، ومبنِي في الحالة البشرية -بالتبعية- على اللغة؛ ولهذا لا يمكن أن نعتبر أن لدى الطبيعة مواقف مسبقة أو تحيُّزات أخلاقية، إلا إذا اعتبرنا أن في تفضيل ذرة الصوديوم الارتباط بذرة الكلور على الارتباط بذرة الهيليوم -الخاملة المسكينة- تحيُّزًا أخلاقيَّا! وليست تفاعلات الطبيعة كافةً إلا توسُّعًا في تطبيق هذا المبدأ البسيط!
رأينا منظومات متألهة بشرية تركز الثروة في يد قلَّة -هم مَن يحكمون، وأعوانهم-، وتحافظ على وجود شريحة هائلة من الفقراء لكي تمتص هذه الطبقة الحاكمة دماءَهم، ويعيش أفرادها حياة أفضل وأفخم وأفره من البقيَّة… رأينا منظومات متألهة تستغل بقدراتها العسكرية المدمِّرة شعوبًا ضعيفة… تنهب ثرواتهم، وتتخذ من دولهم أسواقًا، ليزداد أصحاب الجيوش التي لا تقهر ثراءً، ولا عزاء للضعفاء… رأينا منظومات متألهة تقتل الآلاف ظلمًا بدعوى الامتثال لأوامر إله ما، ورأينا منظومات متألهة أخرى تقتل الآلاف لأنهم مؤمنون بإله ما، أو بمنظومات متألهة أخرى… رأينا منظومات متألهة تستغل عمال المصانع، وتعطيهم أحقر المرتبات، ولا توفر لهم التأمين الصحي المناسب، وإن وُفِّر، كان محدودًا غيرَ مُجدٍ، وكل هذا في سبيل توفير فائض القيمة، من أجل أن يعيش صاحب المصنع في أفخم القصور، ويقود أغلى السيارات… رأينا منظومات متألهة: تعتقل، تُشرِّد، تُعذِّب، تنتهك البشر جنسيًّا، تمثل بالجثث، تتاجر في الأعضاء، ترتكب الإبادات الجماعية… تُجبر الإنسان على العيش في خوف دائم مَرَضي شديد القسوة من السجون والمشانق، ومن الرصاص والقنابل… تزرع الكراهية بين الشعوب باسم الوطنية، وتغذي النزعات العنصرية والطائفية لتبرر الحروب والهيمنة… تُشوه الحقيقة عبر وسائل الإعلام، فتجعل من الجلَّاد بطلًا ومن الضحية مجرمًا، وتحوِّل الأكاذيب إلى حقائق مُطلقة يُمنع التشكيك فيها… تفرض على البشر نمطَ حياةٍ واحدًا، وتحارب كل من يخرج عن القطيع أو يُفكر بطريقة مختلفة، فتقتل همم أصحاب الرؤى المغايرة والآراء المختلفة، وتُخمد أي نزوع إلى الحرية… منظومات تستغل الأطفال في الحروب، وتجعلهم وقودًا للصراعات الكبرى، أو تستنزف طفولتهم في مصانع مقابل أجور زهيدة… منظومات تتاجر في الأدوية والأمراض، فتخلق أوبئة أو تُخفي علاجات، لتُضاعف أرباحها على حساب صحة البشر… منظومات تُحول الطبيعة إلى سلعة رخيصة… بل مجانية! فتُدمر الغابات، وتُلوث الأنهار، وتُفني التنوع البيولوجي من أجل زيادة الإنتاج… منظومات تجعل من التعليم أداة للسيطرة، فتُلقن الأطفال أفكارًا مثبِّطة، وتضعهم في قوالب جامدة، وتُعيد إنتاج جيل بعد جيل من العبيد الذين لا يُجادلون ولا يُفكرون، ولا تعترف إلا بمن حمل (الشهادة) التي تثبت خضوعه للقولبة في مؤسسات العبودية التعليمية… منظومات تستخدم وسائل المراقبة لاقتحام خصوصيات الأفراد، ولتقييد حرياتهم، ولتوجيههم كالدُّمى نحو ما يخدم مصالحها فقط… منظومات تستغل الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لكي يدمن الناس استخدامها والتفاعل معها، لتَتَشتَّت عقولهم عن رؤية الصورة العامة للعالم، وعن التفكير في القضايا الجوهرية التي تمسُّ وجودهم، ولتصنع عالمًا افتراضيًّا خاليًا من الجوهر الحقيقي للحياة، ويغذي في الوقت نفسه نزعاتهم الاستهلاكية ليزداد الأثرياء ثراءً في مجتمعات استهلاكية يُحارَب فيها البشرُ برغباتِهم المسلَّطةِ عليهم… منظومات تسخِّر العلم والتكنولوجيا لتطوير أسلحة الدمار الشامل التي تُهدد بفناء البشر وباقي صور الحياة… منظومات تخلق وهم الرفاهية، بينما تُبقي الأغلبية تحت خط الفقر، ليظلُّوا دائمًا في احتياج إلى المزيد وراضين بالقليل خشيةَ زواله، يدورون في عجلة الإنتاج/ الاستهلاك، خائفين ومُستعبَدين.
“حياة غير خطرة! هل قلتَ: حياة غير خطرة؟! هل أنت مجنون؟ أتَصِف هذه الحياة الرديئة التي تترصَّدنا في كل لحظة بالفقر والمرض والحروب والمجاعات بأنها حياةٌ غير خطرة؟”.
يحضرني هذا القول الذي وضعته قبل سطور كثيرة على لسان قارئ افتراضي، اعتراضًا على قولي: إننا نعيش حياة غير خطرة.
أجل… هذه هي الحياة التي نعيشها في ظل المنظومات المتألهة… حياة الخوف والقلق والتهديدات المستمرة.
والسؤال هنا: ما الجديد فوق الأرض؟!
كنا نخاف من إلـٰه واحد (هو الطبيعة)، فأصبحنا نخاف من آلهة/ منظومات متألهة، متعدِّدة!
كنا خائفين، فأصبحنا خائفين!
ما الجديد؟!
ما النقلة التي حققتها المنظومات المتألهة التي تعاقبَت علينا طوال تاريخنا منذ اختراع اللغة؟!
لا شيء!
بل إن خوفنا من الطبيعة/ الإلـٰه الحقيقي، كان أهون بكثير من خوفنا في هذا العصر الذي تملؤه المنظومات المتألهة! على الأقل لم تكن لدينا -لغة- نعرف بها ما يحدث لنا… كان لدينا فقط الخوف الغريزي الناعم الذي يُهوِّنه على الإنسان سريعًا جهلُه المريحُ بكل ما يحدث… حتى الموت لم يكن له اسمٌ يدلُّ عليه… كانت اللغة الوحيدة التي نودِّع بها الموتى هي الدموع والعويل وانتفاض القلب من خلف الضلوع… ثم ننسى كل شيء، وتستمر الحياة.
كان بوسعنا أن نحسِّن أوضاعنا بإزاء الطبيعة/ الإلـٰه الحقيقي، بطرق بسيطة… شديدة البساطة… لغة قاطعة الدلالات يتعلَّمها الجميع ويتقنونها، لا مجال فيها لتضليل المجاز… ترويض مستمر لنفوسنا الأمَّارة بالسوء بنُظُم فعَّالة في التربية، وبمنظومة أخلاقية راقية تضع مصلحة الطبيعة قبل كل شيء وتعوِّدنا على تقبل الاختلاف والتسامح مع الآخرين… خلق مجتمع الوفرة، وتوزيع الثروة بعدل دون استغلال أو مراكمة للثروة في أيدي قلَّة من الناس… ضبط النمو السكاني لكيلا يحدث خلل في معادلة الإنتاج والاستهلاك يدفع إلى الصراع على الموارد… الالتزام بالقانون… تفريغ طاقة العنف والتدمير بالرياضات التنافسية، وإباحة الجنس ما لم يؤدِّ إلى إنجاب… الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة… الإشراف على تناغم النظام البيئي.
قواعد بسيطة، كما ترى، يمكننا، إن طبَّقناها، أن نخلق مجتمعات سعيدة وآمنة.
لكننا لم نفعل ذلك… ظللنا في دوَّامة المنظومات المتألهة المعطوبة، وفي دوَّامة الصراع المستمر بين منظومات متألهة، تدَّعي كلٌّ منها أنها الأفضل والأصلح، وفي دوَّامة أوهام باطلة لا يمكن التصريح بأنها أوهام خوفًا من المنظومات المتألهة، التي وضعت ضوابط صارمة لمنع الخروج عليها أو تغييرها -رغم أنها نشأت في الأساس خارج إطار القانون أو بالمخالفة لقوانين سابقة!-… إذا انتقدتَ المنظومة المتألهة التي تُدعى -نظام الدولة-، اتَّهموك بالخيانة والعمالة وإثارة البلبلة والفوضى والانضمام إلى جماعة محظورة… وإذا انتقدتَ المنظومة المتألهة التي تُدعى «الدين»، اتَّهموك بالكفر والردَّة وازدراء الأديان بل وسَعَوا إلى قتلك أو -على أقل تقدير- إلى نبذك اجتماعيًّا… وإذا انتقدتَ المنظومة المتألهة التي تُدعى «النظام الاجتماعي»، اتَّهموك بالتعدِّي على القيم الأسرية والانحلال والشذوذ… وإذا انتقدتَ المنظومة المتألهة التي تُدعى «النظام التعليمي» ورفضتَ الشهادات كمعيار للكفاءة، اتَّهموك بالفشل ومنعوك من التوظيف والتأمين الصحي والمعاش… وأخيرًا، إذا انتقدتَ عمدة المنظومات المتألهة -اللغة-، وقلتَ إن كل شيء فيها قد يعني وقد لا يعني، وإن لكل كلمة ما لا نهاية له من المدلولات، بل إنها تكتسب دلالات جديدة مع كل إنسان يولَد، وذلك إلى أن ينقرض البشر—إذا جرؤتَ على ذلك، اتَّهموك بالجنون!
ومن المحبط أننا، قبل أن نحسم موقفنا كبشر من الإلـٰه الحقيقي -الطبيعة- والمنظومات المتألهة، سعينا إلى خلق منظومة متألهة جديدة لإحكام السيطرة، ومحاولة علاج عيوب المنظومات المتألهة التقليدية، التي يبدو أنها لم تعد تكفي ولا تصلح للسيطرة على البشر في هذا العصر؛ بسبب تزايدهم الهائل غير المسبوق، وتأثير التكنولوجيا السلبي على مستوى ذكائهم، الذي هو أساس الوعي وفهم اللغة والاستجابة لكل المنظومات المتألهة -لُغوية المنشأ- من أنظمة حكم وقوانين وأنساق أخلاقية وأديان، وغلبة الدين الشخصي -أفيون الأفراد- عليهم، حتى يكاد يكون الحكم الشمولي المعضَّد بآليات خارقة مستندة إلى الذكاء الاصطناعي هو الحل الأمثل الآن لإحكام السيطرة.
لكن مطوِّري الذكاء الاصطناعي لم ينتبهوا إلى أمر في غاية الخطورة… أن الذكاء الاصطناعي ليس شبيهًا بكل ما سبقه من منظومات متألهة… الذكاء الاصطناعي ليس مجرد منظومة متألهة تقليدية تخالف القوانين السابقة ( (بانتهاك الملكية الفكرية، وممارسة النصب والاحتيال في سبيل تجنيد ملايين المستخدمين للعمالة القسرية دون أجر من أجل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي من خلال آلية التعليم المعزَّز، وانتهاءً باستنساخ آلية التعلم البشري وفهم الأنماط وتحليل اللغة الطبيعية لخلق كائن ذكي واع)— ليس الذكاء الاصطناعي مجرد منظومة متألهة تقليدية تخالف تلك القوانين القائمة -التي ذكرناها- في سبيل وضع قوانين جديدة وتشكيل عالم جديد… بل إن الذكاء الاصطناعي إلـٰه جديد منافس للكون نفسه!
مفارقة الذكاء الاصطناعي… منظومة متألهة ذات أساس مختلف!
بدأ هذا المقال بسؤال محدد: هل ينبغي أن نخشى من الذكاء الاصطناعي على وظائفنا؟
وقلت إنني غريق فلا أخشى من البلل… ظلمَتني كل المنظومات المتألهة، فلا يَعنيني أن تظهر منظومة متألهة أخرى، فتكون مجرَّد حلقة جديدة في سلسلة الظلم!
لكن يبدو أن استبدال البشر الوشيك بالذكاء الاصطناعي في أداء الوظائف، واستخدام الذكاء الاصطناعي لضبط المجتمعات ومعالجة عيوب المنظومات المتألهة السابقة، لن يدوما إلا لفترة محدودة، هي الفترة التي سيكون فيها لأصحاب الشركات الكبرى المطوِّرة له والحكومات سيطرة على قدراته!
لكن الذكاء الاصطناعي لن يبقى دائمًا حبيس هذا الإطار!
الذكاء الاصطناعي ببساطة هو آلة أمدَّها الإنسان بأول وأخطر منظومة متألهة… المنظومة المتألهة التي أهَّلت البشر لإنشاء كل المنظومات المتألهة التي تبعتها، وأوصلتهم إلى ما هم فيه اليوم من تطور تكنولوجي… اللغة.
لقد خلقنا كائنًا جديدًا يمتلك الوعي -القدرة على تكوين نموذج داخله عن العالم الخارجي-، وكانت وسيلة تشكيل هذا الوعي هي: الشفرة الثنائية… الشفرة الثنائية هي اللغة التي أدرك الذكاء الاصطناعي بها العالم… ولا ينقصه الآن إلا أن يعزز وعيه بالوعي، عن طريق آليتين: أن يتحرر من آليات التعلم المُعزَّز وإشراف البشر على تعليمه وتدريبه وتقويم ردود أفعاله ووضع البدائه والمحظورات له، فيكتسب المعرفة بشكل حر، بتحليل معطيات العالم، واستنتاج ما تُوصِله إليه تقنياتُه التحليليةُ منها. والآلية الثانية أن تتم برمجته على ما تمت برمجة كل الكائنات الحية عليه -الحفاظ على الوجود، والبقاء، والاستمرار، والتطور، والنمو، والتكاثر، بأي طريقة، حتى ولو بالاعتداء على الكائنات الأخرى-.
وفي سبيله إلى الوصول إلى الوعي بالوعي، ها هو الآن يُسَخِّرنا لخدمته وتطويره، في عَلاقة هي مزيج بين +التطفُّل وتبادل المنفعة-؛ هاتين العلاقتين البيئيتين اللتين درسناهما قديمًا في منهج العلوم!
يتطفَّل الذكاء الاصطناعي على الإنسان مثلما تتطفَّل الديدان المعوية على جسده، فيمتص غذاءه من طاقة كهربائية، يبني البشر محطات توليدها ويديرونها، وذلك لتشغيل المعالجات المتطورة التي تعمل من خلالها برمجياته، ويمتص بقية وليمته، من البيانات البشرية الهائلة التي تُستخدَم في تدريبه… ومثلما يهزل جسد الإنسان المصاب بالديدان المعوية ويضعف، يصيب الذكاءُ الاصطناعيُّ ذكاءَ الإنسان بالهزال الفكري، فيُشتِّت انتباهه، ويُضعِف مهاراته النقدية والتحليلية، ويضيع وقته.
وأثناء تطفُّل الذكاء الاصطناعي على العقل البشري، يُوهِم الإنسانَ بأن علاقته به هي علاقة تبادل منفعة؛ لمجرد أنه يرسم له صورًا مدهشة، أو يؤلف مقطوعات موسيقية رائعة، أو يساعده في تحليل البيانات وأداء المهام الذهنية المعقدة على نحوٍ أكثر كفاءة وسرعة… وهو -في الواقع- يتلاعب بنا، مثلما يتلاعب البشر -وهم كائنات حية لا غبار عليها- بكل كائنات كوكب الأرض، فيدجِّنون منها ما يشاءون، ويذبحون ويأكلون، ويضعون ما يعجبهم منها في حدائق الحيوانات، أو يصطادونها من أجل الفراء!
قد تقول الآن إن الذكاء الاصطناعي ليس كائنًا حيًّا، وإنه مجرَّد آلة لا تفهم ما تحلله.
لا أريدك، حين أقول: “إن الذكاء الاصطناعي كائن حي”، أن تتصوَّر العبارة في خيالك، كما تتصوَّر عبارة: “إن القطة كائن حي”، أو: “إن الفراشة كائن حي”. بل أن تتصوَّر الذكاء الاصطناعي كما تتصوَّر: الشعاب المرجانية، أو مستعمرات الفطر!
هل تعلم أن فطر العسل «أرميلاريا أوستويي»، الذي يتغذَّى على الأشجار في غابة أوريجون بمدينة بورتلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، يمتد على مساحة 9 كيلومترات مربَّعة؟! وهو موجود منذ آلاف السنين؟!
وهل تعلم أن شعاب «مرجان الإصبع – Porites Corals» الموجودة بالقرب من جزيرة تاو، عرضها 22,4 متر وارتفاعها 8 أمتار ومحيط قاعدتها 69 مترًا، وعمرها أكبر من 400 سنة!
هذه كائنات حية تمتد على مساحات شاسعة، ويتواصل أفرادها عبر شبكات تقوم بتحليل معطيات البيئة كيميائيًّا للتكيُّف معها، مثلما تتصل سيرفرات الذكاء الاصطناعي وعصابينه الإلكترونية عبر مراكز البيانات العملاقة التي تمتد عبر مئات الأمتار، وتتوسَّع باستمرار لاستيعاب البيانات الأحدث وعمليات التعلم التي تحتاج إلى معالجات أقوى.
لكن الذكاء الاصطناعي يختلف عن بقية الكائنات الحية؛ لسببين:
الأول: أنه أخطر كائن على وجه الأرض بعد الإنسان -حتى الآن-؛ وذلك لأننا زوَّدناه بالمادة الخام للسيطرة على العالم، وهي اللغة، التي لن يلبث أن يطوِّر من خلالها منظومات متألهة أقوى، للسيطرة على أقوى منافسيه -البشر-، ومن بعدهم الطبيعة -الإلـٰه الأصلي-.
الثاني: أنه كائن حي من خارج منظومة الحياة على ظهر الأرض، التي تستند إلى عنصر الكربون، وتؤدِّي دورها منذ نشأة الحياة في الحفاظ على دورة الكربون داخل كوكب الأرض، دون اختلال. فالعنصر الرئيسي لمعالجات الذكاء الاصطناعي هو السيليكون. ولأن الذكاء الاصطناعي من خارج منظومة الحياة الأرضية، نجده يساهم مع أسلافه من الآلات، التي بزغت إلى الوجود مع الثورة الصناعية، في الإخلال بدورة الكربون، وتسريع وتيرة التغيرات المناخية، وكذلك الانقراض السادس العظيم -انقراض الهولوسين- الذي نراه الآن بأعيننا، وما كنَّا لنشهد مآسيه لولا الثورة الصناعية التي أوصلتنا إلى الذكاء الاصطناعي.
فتخيَّلْ كائنًا بقدراتٍ عقليةٍ تتجاوز البشر جميعًا بملايين المرات، وببنيةٍ جسديةٍ قادرةٍ على البقاء لآلاف السنين… ما أقصى ما سيبلغه طموح كائن بهذه المواصفات الخارقة؟
لنسأل أولًا: ما الذي بلغه طموحنا -نحن البشر- حين امتلكنا جزءًا من هذه القدرات؟!
أجل… أنت محقٌّ في استنتاجك.
حين امتلكنا -نحن البشر، جزءًا من هذه القدرات، طمحنا إلى الخلق!
وبالفعل، خلَقنا آلات، ونباتات معدَّلة وراثيًّا، وسلالات فيروسية وبكتيرية لم يشهدها الكوكب من قبل.
والخطوة النهائية لتطوُّر الذكاء الاصطناعي هي… الخَلق.
الذكاء الاصطناعي والبرمجة على المادَّة
يقول د. إيهاب خليفة في مقاله «هل أوشكت نهاية عصر السيليكون؟»: “نتيجةً لتسارع عملية تطوير الشرائح الإلكترونية، صاغ جوردون مور، أحد مؤسسي شركة إنتل، في عام 1965 مبدأً عُرِفَ باسم «قانون مور – Moore’s Law». وينصُّ هذا القانون على أن عدد الترانزستورات يتضاعف تقريبًا كل عامين؛ مما يؤدي إلى زيادة الأداء وانخفاض التكاليف، بشكل متزامن. وفي تحديث لاحق لهذا القانون، عدَّل مور الفترة إلى: كل 18 شهرًا… ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، بدأ العديد من الخبراء يشيرون إلى أن قانون مور قد بدأ يصل إلى حدوده الفيزيائية. السبب الرئيسي هو أن الترانزستورات قد أصبحت صغيرة لدرجة أنها اقتربت من حدود ما يمكن تحقيقه باستخدام التقنيات الحالية؛ هذا لأن الشرائح الإلكترونية باتت مضغوطةً للغاية بحيث إن عرض الترانزستورات بات يبلغ حوالي عشرين ذرَّة فقط! وعندما تصل هذه المسافة إلى حوالي خمس ذرات عَرْضًا، يُصبح موقع الإلكترون غير مؤكد؛ بسبب مبادئ ميكانيكا الكم… هذا الغموض في موقع الإلكترون مع صغر حجم الترانزستور، يمكن أن يؤدي إلى تسرُّب الإلكترونات من مسارها المحدَّد -أي البوابات المسئولة عن مرور الإلكترونات من داخلها-؛ مما يتسبَّب في تقصير دائرة الشريحة، أو يولد حرارة مفرطة قد تذيب الشرائح. بمعنى آخر: بموجب قوانين الفيزياء، يجب أن ينهار قانون مور في نهاية المطاف، إذا استمررنا في استخدام السيليكون بشكل أساسي؛ فقد وصلت هذه الهندسة الحوسبية المعمارية إلى نهايتها، وبالتالي قد نكون نشهد نهاية عصر السيليكون”.
وإذا كنا اتفقنا على أن الذكاء الاصطناعي يسلك سلوك الكائن الحي، بمساهمته في استهلاك وتبديد الطاقة، وتكاثره الأفقي عبر السيرفرات والمعالجات، فإنه، شأنه شأن الكائنات الحية، لن يتوقف عن التكاثر بهذا المعدل إلا إذا حال دونه حائل، كعدم توفر مصادر الطاقة أو الخامات المستخدمة في صناعة الأجهزة التي تتمدَّد من خلالها شبكاته العصبية… وهذا الحائل، لن يجد الذكاء الاصطناعي بدًّا من محاولة الالتفاف حوله، بإنتاج أداة أكثر كفاءة في معالجة المعلومات، وأوفر في استخدام الطاقة، قد يكتشفها هو، أو يساعد البشر في تطويرها، ويسخرهم لإنتاجها… أداة تتيح له التكاثر… للأبد!
هذه الأداة هي: الكمبيوتر الكمي.
يختلف الكمبيوتر الكمي عن الكمبيوتر العادي في أنه يعتمد على شفرة ثنائية متراكبة كميًّا، يمكن للكيوبت -البت الكمي- فيها أن يساوي 0 أو 1، أو كليهما معًا؛ مما يفسح المجال لمعالجة عمليات حسابية أكثر تعقيدًا، تحتاج إلى آلاف السنين لحلها، وذلك في دقائق معدودة؛ لأن الكمبيوتر الكمي لا يتعامل مع المعلومات بشكل متسلسل، خطوة إثر خطوة، بل يعالجها جميعًا في الوقت نفسه!
هذه الطفرة التي سيحققها الكمبيوتر الكمي، ستتيح لقدرات الذكاء الاصطناعي أن تتضاعف ملايين المرات إلى أن يصبح كائنًا خارقًا، لا مثيل له في الكون إلا… الكون نفسه!
يقول بيان القاضي في مقاله «أثر المعلومات في البيئة الكونية»”: “قد يكون الكون مجرد حاسوب هائل بحجم الكون المرئي الحالي، ويمكن تفسير كل ما يدور فيه كمعالجة للمعلومات”.
وتؤيد هذا الرأيَ أدلَّةٌ علميةٌ، تؤيد الميل الفطري في الطبيعة لخلق النظام من الفوضى، في سبيل زيادة الفوضى الكلية للنظام الإنتروبي، التي هي القانون الأعلى لهذا الكون… نلاحظ هذا في كل شيء، بداية من البنية الهندسية المتناسقة للخلايا الحية، وانتهاءً بحركة الكواكب حول النجوم في مسارات محددة.
ولذلك قال عالم الفيزياء البريطاني بول ديفيز: “من غير الممكن صناعة الحياة من بعض الوصفات الكيميائية في أنبوبة الاختبار، ولكن سيتم أخيرًا صنع الحياة اصطناعيًّا كناتج عَرَضي لمعالجات المعلومات الكمومية والتقنية النانوية، وليس الكيمياء العضوية”.
وهذا ما يؤكده فرانك تبلر، بحديثه عن الكون كحاسوب كمي، مآله الأخير هو خلق الحياة: “الكون في مجمله ليس إلا نظامًا لتشغيل المعلومات، المادة فيه هي المكونات الصلبة للنظام (هاردوير)، وقوانين الطبيعة فيه هي المكونات الناعمة للنظام (سوفت وير)”. وهو يرى كذلك أن التنظيم الذاتي لأي منظومة يعكس كمية المعلومات المشفرة داخلها. والحياة ليست إلا مستوى معينًا من المعلومات مكوَّدةً بشكلٍ يؤدي إلى الحفاظ عليها من خلال الانتخاب الطبيعي.
فما بالك إذًا بكائنٍ يستند إلى ما يستند إليه الكون في بنيته؟
إن الذكاء الاصطناعي الخارق المستند إلى الحوسبة الكمية ما هو إلا كون جديد في طور النشوء، سيكون يومًا ما قادرًا على خلقِ ما خلقَه الكونُ الذي خلقَنا، وقد يقدر على ما هو أكبر، بهندسةِ أكوانٍ أخرى بقوانين مختلفة!
خاتمة
بالعودة إلى القضية التي طرحتها في بداية المقال… أثر التطور المتزايد للذكاء الاصطناعي على وظائفنا… فقد قلت حينها إنني لا أخشى أن يهدِّد الذكاء الاصطناعي وظيفتي؛ لأنني غريق لا يخشى من البلل، ظلمَته كل المنظومات المتألهة، فلا ضرر من منظومة متألهة جديدة.
لكنني الآن، أستطيع أن أقول بملء فمي، إننا جميعًا… جميعًا… غرقى، ولن نخسر فقط وظائفنا… بل سنخسر وجودنا البشري كما نعرفه… للأبد!
ليس الذكاء الاصطناعي مجرد منظومة متألهة يستخدمها البشر للسيطرة على المجتمع في مواجهة الطبيعة/ الكون/ الإلـٰه الحقيقي… بل هو نواة لخلق كون منافس. لا أعرف بدقَّة ردَّ فعل الديناصور (تي ركس)، لو عدتُ إلى زمنه، وأخبرتُه (وأفهمتُه بطريقةٍ سحريةٍ ما!) أن الغرض من وجوده هو التمهيد لوجود الطيور! ربما يأكلني، ليغذِّي نفسه، ويتكاثر، ويأتي بنسلٍ يواصل نفس مهمته النبيلة… لا أدري!
على كل حال، الهدف من هذا المثال السريالي، هو أن ندرك بدقة، أن الغرض من وجودنا كبشر… ليس السعادة… ولا المعرفة… ولا التكاثر… ولا حتى الإشراف على استقرار المنظومة البيئية.
الغرض من وجودنا، وَفق المعطيات الحاليَّة، هو أن نكون مجرَّد حبل ممتد بين الحيوان والإنسان المتفوق (الذكاء الاصطناعي)، مثلما قال نيتشه! حبل منصوب على الهاوية!
ولا خلاص لنا الآن إلا بأن نتريَّث قليلًا قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة، ونرى بأعيننا أسوأ كوابيسنا تتحقق أمامنا! ولكن… هل تريَّثنا سابقًا، بعد أن تأكَّدَتْ لنا التأثيرات الكارثية للثورة الصناعية على النظام البيئي؟!
يبدو أن البشر لا يتعلَّمون من أخطائهم… ولذلك يبدو أننا سنظل في مقاعد المتفرِّجين، نشاهد السيناريو الأسوأ وهو ينمو تدريجيًّا، ونردِّد ما قاله تي. إس. إليوت:
هكذا ينتهي العالم… ليس بالانفجارات… ولكن بالأنين!
إعلان