القرآن.. كتاب للكبار فقط!

كتابٌ مُقدَّس لا يفهمُه أحد! من منكم قرأ القرآنَ كاملًا؟ كثيرون قرأوه؛ ولا أزالُ أذكر أستاذَنا في الصفِّ الثالث الإعدادي، الذي كان يجعلُنا نتسابقُ في (ختم) القرآن، بشهر رمضان. كنت أقفز من سطرٍ إلى سطرٍ في سبيلِ إنهاءِ أكبرِ عددٍ من الصفحاتِ يوميًّا… لكنني لم أكن قادرًا على فَهْم شيءٍ من القرآن (مثل كثيرٍ مِمَّن قرأوه)، إلا قليلًا من السطور المباشرة التي لا تحتملُ أكثرَ من تأويل.

ولازمَني عدمُ الفَهْمِ طويلًا، ولا يزال يلازمُني، رغم أن كِتاب (فهم القرآن الحكيم) للدكتور محمد عابد الجابري، أعانني إلى مدًى بعيدٍ على استجلاءِ كثيرٍ من غوامضِ القرآن، لأنه فَسَّر فيه القرآنَ بترتيب نزول الآيات، لا بترتيب السُّوَر داخل المصحف، فبدا سِياقُ القرآنِ أكثرَ منطقيةً، ولا سيَّما أن المؤلِّف قد صَدَرَ في عملِه العملاقِ عن قناعةٍ، بأن ثمَّة عَلاقةً حميميةً بين القرآنِ والرسول، لم يستطع عقلُه اكتناهَ حقيقتِها (وإن كان تخمينُ المقاصِدِ الخفيَّةِ التي ينطوي عليها هذا الرأيُ غيرَ عسيرٍ)! إلا أن هذه القناعة، على كلِّ حال، تُحَتِّم على مَن يتصدَّى لتفسير القرآن استنادًا إليها، أن يكونَ مُلِمًّا بالمكوِّن النفسي والثقافي والاجتماعي للرسول، والظرف التاريخي الذي ابتدأ فيه ثورتَه الساعيةَ إلى توحيد العرب (سياسيًّا ودينيًّا ولُغَويًّا واقتصاديًّا)، ومن ثم البشر جميعًا، تحتَ رايةٍ واحدةٍ، وحكومةٍ عالميةٍ؛ وهو ما اجتهد فيه د. الجابري في تفسيرِه للقرآنِ مرتَّبًا، لأولِ مرَّةٍ في التاريخ الإسلامي.

والسؤال هنا؟ هل ساعدني هذا الجهدُ العظيمُ لمحمد عابد الجابري في فَهْم القرآن على الوَجْه الأمثل؟!

لا، للأسف.

إعلان

وهذا ليس راجعًا إلى قصور محمد عابد الجابري، بل له سببان:

  • الأول: أن القرآنَ كتابٌ أدبيٌّ في الأساس، مكتوبٌ بأسلوبٍ عربيٍّ قديمٍ، يُفرِط كثيرًا في استخدام الصُّوَر الشعريَّة المُلغِزة، والألفاظ المهجورة (حاليًّا)، والموتيڤات الثقافية المتعلِّقة بالمجتمع الذي وُجِّه إليه.
  • الثاني: أن القرآنَ كتابٌ للكبار فقط! خرجت أولى آياته من لسانِ رجلٍ (كبير)، في الأربعين من عمره، عرك الحياة، لكي يخاطب بآياته رجالًا (كِبارًا) ناضجين، وليُملِيَه على كَتَبَة الوحي، الذين هم أيضًا رجالٌ (كِبارٌ)، رأوا ما لم أرَهُ أنا، وعاشوا الحياةَ بكلِّ تفاصيلها، وفي أقسَى صُورِها.

القرآنُ كتابٌ للكبار فقط، وأنا شابٌّ في الثامنة والعشرين من عمري (وكنت قبل ذلك أصغرَ سِنًّا بطبيعة الحال!)، فكيف سأفهمه إذًا؟!

بل هل فَهِمَهُ أصلًا، على وجهٍ سليمٍ، أولئك (الكبار) الذين خاطبهم الرسولُ بآيات القرآن، فاستطاعوا، بمَحْض القراءة أو السَّمَاع، أن يعايشوا جوهر التجربة الروحانية النبوية بحذافيرها، ليهتدوا – حقًّا – بهَدْي الرسول؟!

الواقع يقول إن الرسول كاد يكون هو المسلم الوحيد الملتزم بتعاليم الدين (بمفهومه الشامل كإسلام/تمكين للسَّلام) وجوهر القرآن، حتى وفاته… كان قرآنًا يمشي على الأرض (بتعبير عائشة)؛ وذلك لأنه كان حقًّا رجلًا (كبيرًا)، بما يتضمَّنه الوصفُ من مكتسبات الخائض في سنِّ الكهولة من خبرات حياتية، إضافةً إلى الحكمة التي تحرَّى الرسولُ أسبابَها منذ الشباب، وجعلَتْ سبيلَ (مكارم الأخلاق) له مذلَّلًا.

المهبل، والقرآن الذي خدش حيائي!

لم أرَ في حياتي هذا العضوَ المثيرَ للجدل المُسَمَّى بـ (المهبل)، الذي منه وإليه نعود، ولا أعرف كيف ملمسُه؟! هل هو خشن أم ناعم أم لزج؟ لا أدري. وكذلك كنت في الثانية عشرة من عمري، حين خدش القرآنُ حيائي الطفوليَّ لأولِ مرة!

أجل، ليس هناك خطأ في العبارة السابقة. لقد خدش القرآنُ حيائي!

برغم أنني كنتُ من أوائل الأطفالِ الذين اهتدَوْا إلى سرِّ تخلُّق البَشَرِ في الأرحام، عن طريقِ كتابٍ كنتُ قرأته في السابعة من عمري، إلا أنني كنتُ جاهلًا بكيفية وصول الحيوان المنوي إلى البويضة! كنت أحسبُه يطيرُ في الهواء، أو يتعلَّقُ بالملابس، أو يزحَفُ على الأرض، حتى يجِدَ إلى الرَّحِم سبيلًا، ربما عن طريق الجلد، أو الجهاز التنفسي مثل فيروس الإنفلونزا، أو الجهاز الهضمي مثل ديدان الإسكارس! اعتقادٌ طفوليٌّ شديدُ السذاجةِ (والتفاهةِ) كما رأيتَ! وظلِلْتُ كذلك حتى سن الثانية عشرة، التي حدث فيها التحوُّلُ الأكبرُ، حين استَحْيَتْ مدرِّسةُ الدِّين من شرحِ دَرْسٍ يتعرَّض للجَنابة والحَيْض والنِّفاس، واعتذرَتْ عن تفصيل معنى الجَنابة بقولها: (إنتم عارفين بَقَى… مش محتاجين شرح). لكنني لم أكن أعرف شيئًا، واغتظتُ من هذا الموقف… أن أصِلَ إلى الصندوق الذي يحوي سرَّ الكون، فيقول لي القائمُ عليه: أنتَ لا تحتاج أن تفتحَه؛ فمن المفترَضِ أن تكون عليمًا بِمَا فيه! ازددت ضيقًا، فتطوَّع صديقٌ لي بأن يُعَلِّمني ما لم أكن أعلم، وأراد أن يؤكِّد وجهة نظره بالاستشهاد بالقرآن. قال: كيف يقول الله في سورة مريم “أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ”، إن لم يكن مَسُّ البَشَرِ للبَشَرِ هو مسبِّبَ الحَمْل؟!

خدش ذلك الاكتشافُ حيائي، ولا سيَّما حين تأكدت من أن ما يصِفُه المجتمعُ بأنه (قِلّة أدب)، وأن الحديثَ عنه غيرُ لائق، هو نفسه سببُ مجيئنا إلى هذا العالم! فكيف تكونُ الحياةُ مبنيَّةً على عارٍ؟! وكيف يختزن الفعلُ الواحدُ دلالاتٍ سلبيةً وإيجابيةً؟! أيُعقل أن يكون تناولُ ساندوتش الجبن في المنزلِ حلالًا، وتناولُه في مطعمٍ أو غرفةِ فندقٍ حرامًا، رغم أن المَعِدَةَ راضيةٌ في الحالتين؟!

لم أستطِع استيعابَ الجَمْعِ بين المتناقضات في سياقٍ واحدٍ إلا حين (كبرت)، وازددت خبرةً، وعلمتُ أن الحياة أقرب إلى رمز (التاجيتو) الذي يُجسِّد مبدأ تداخل اليين (الأنوثة – الظلام – الفقر – السلبية… إلخ) واليانج (الذكورة – النور – الغنى – الإيجابية… إلخ)؛ فكلُّ بنيةٍ مستقرَّةٍ تقتضِي أن تتضمَّنَ نقيضَها ليستمرَّ التوازن.

لكنني لم أرَ بعدُ مهبلًا! لم أعاشِر امرأةً قط. لم أجرِّبْ شعورَ الانغماس في كائنٍ آخرَ. لم يُولَدْ لي أطفالٌ. إذًا، كيف أفهم المَخزونَ الدلاليَّ والشعوريَّ لآيات القرآن، برغم أن أغلبَ الذي تدور في فلكِه، أمورٌ لا قِبَلَ لي بها، بدايةً من المهبل والأطفال، وانتهاءً بالحرب والقتل والموت، وما بعد الموت؟

ومع الأسف، لا يمكن أن يكتفيَ الإنسانُ بالقراءة أو الاستفادة من خبرات الآخرين لكي يُكوِّن تصورًا سليمًا عن العالم؛ لأن الإدراكَ لا يمكن أن يتحقَّقَ إلا بِناءً على مُعطَياتٍ حِسِّيةٍ، يزداد فهمُ الإنسانِ لها عُمْقًا، حين يُعمِل فيها العقلَ، وذلك لأن المعرفةَ ذاتيةٌ وليست موضوعيةً، إذ إن كلَّ عقلٍ بشريٍّ، له خصوصية، ميَّزته بها عن غيرِه خبراتُه المكتسَبة، التي يستحيلُ أن يتَّفقَ عليها اثنان، وإن تشابهَت الأُطُرُ العامَّةُ لبعضِها.

ولهذا لا يزال القرآنُ طلسمًا مَعرِفيًّا لا يستطيع أن يقفَ على تفسيرِه إلا من يقفو بنفسِه خطواتِ الرسول شبرًا بشبرٍ، لكي يستطيعَ أن يفهمَ ملابساتِ الأحكام الأخلاقية والعقائد التي دعا إليها القرآن. وسوف تكونُ النتيجةُ، بلا شك، أن يتحوَّلَ في النهاية الإنسانُ الراغبُ في فهم القرآن (كتاب الكِبار)، إلى نبي.

لن تفهمَ القرآنَ إلا إذا أصبحتَ نبيًّا!

والسؤال هنا:

هل من المنطقي أن يُصبح الناسُ جميعُهم أنبياءَ لكي يستقيمَ حالُ المجتمَع؟!

طقوسٌ سهلةٌ، وفلسفةٌ شديدةُ التَّعقيد

من الأسباب التي يسَّرَت انتشارَ الإسلام، بمعدَّلٍ يفوق المسيحيةَ مثلًا، أن الأساسَ النظريَّ للإسلام شديدُ البساطة. اِشَهَدْ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وسوف تصبح مسلمًا! المسيحية بُنِيَتْ على رواسبَ طقوسيةٍ وفلسفيةٍ وعقائديةٍ من مصر القديمة والأفلاطونية الجديدة واليهودية، فأصبحت قابليتها للنفاذِ إلى ذهنِ أيِّ إنسانٍ غيرِ مُلِمٍّ بجذورِها، أصعبَ. فمن العسير أن يتقبَّل العقلُ ببساطةٍ الحلَّ الفلسفيَّ لإشكالية العَلاقة بين الوجود والإله المتسامي، عن طريق الثالوث، المتمايِزة أقانيمُه دونَ انفصال، والمتَّحِدة دونَ امتزاج! الإسلام في الظاهر أبسط. لكن – في الواقع – كان القرآنُ كمؤسِّس للإسلام (بمعناه القريب كشريعة محمَّدية، ومعناه الفعلي كدين ختامي أوحد يُقصَد به تمكين السلام، على أية ملة) -؛ كان القرآنُ كتابًا باطِنيًّا شديدَ التعقيد، لم يُكتشَف بعدُ إلا قليلٌ من مفاتيحه، ولا يزال إلى اليوم حقًّا في (لَوْحٍ محفوظٍ) لم يصِل إليه أحد!

مفاتيح القرآن

أولًا: سُنَّتَان مهجورتان (سُنَّة الكُفْر وسُنَّة الغار)

يدعو السلفيون في كل وقت وحين إلى إحياءِ سُنَّةِ الرسول، تحقيقًا للغاية التي وصلتُ إليها فيما تقدَّم؛ أن يُصبِح المسلمُ متوائمًا مع القرآن وعقيدة الإسلام، بأن يستنسِخ الرسولَ تحتَ ملابسِه! فلن يفهم القرآنَ إلا نبيٌّ، ولن يَصِحَّ إسلامُ المرء إلا إذا تشبَّه بنبيِّ الإسلام في كلِّ أفعالِه وأقوالِه.

لكنهم غفلوا عن أنَّ النبوَّةَ لا تتحقَّق بالتشبُّه بنبيٍّ بعد أن استوَى نبيًّا، بل بسُلوكِ الدَّربِ الذي حوَّلَه إلى نبي. ولم يكن محمد بن عبد الله لِيصبِحَ نبيًّا، لو لم يعتزل الناسَ في غار حراء أولًا، ويعلن كفره بعقائدِهم وقِيَمِهم ونُظُمِهم السياسية والاقتصادية ثانيًا.

“الكفر أول خطوة في طريق الإسلام (تمكين السَّلام/النُّبُوَّة)”.

“ولا إسلامَ إلا بعد جاهليةٍ، ولا حكمةَ إلا بعد نَزَق”.

ثانيًا: انتظر حتى تكبَر، أو استعجل الكِبَر باستحلابِ الحياة

لن تُدرك يا صديقي طعم الكابوريا أو الكافيار إلا إذا ذقتَهما. السَّماعُ والقِراءةُ لا يصنعانِ إلا وعيًا زائفًا… ظِلالًا لموجوداتٍ حقيقيةٍ تُحوِّل جُدران مخيِّلَتِك إلى ما يُشبِه كهفَ أفلاطون! كيف ستفهم آياتِ النِّكاحِ إن كنتَ بَتُولًا لم تلمُسْ قط مواضِعَ النكاح؟ وكيف ستفهم آياتِ التَّعَفُّف إن كنتَ مراهقًا ينتعِظ عضوك في اليوم عشر مرات وإن لم يمسَسْه بشر؟! كيف ستفهم مغزى الجهاد إن لم تذق الظلم والسجن والطرد من ديارك والسخرية من (أخلاقك/دينك)؟ وكيف ستفهم قيمة (السلام عليكم) إن لم ترَ بعينيك أهوالَ الحروب؟! بحلول عامك الأربعين، قد تكون عايشتَ كثيرًا من التجارب المؤهِّلة لاستيعاب القرآن؛ لكن ماذا لو اختزلتَ الحياةَ كلها في بِضْعِ سنين، وأصبحتَ حكيمًا قبل الأربعين؟ قليلٌ من الناس فقط من يقدِرون على هذا، لأن المعرفةَ تبتدئ بالدهشة، والدهشة في جوهرِها (صدمة). كيف ستتعرَّض إلى صدمة البرد من غير أن تظلَّ أيامًا في دفءِ المنزل والأغطية؟! وهل ستتحمَّل أن تُلقِي بنفسِكَ عاريًا في بحيرةٍ متجمِّدةٍ، فتموت أو تتمنَّى الانتحار حين يُبطِئُ عليك الموت (كما تمنَّاه من قبلِكَ كثيرٌ من شبابِ العباقرةِ الذين عَرَفوا الحقيقةَ مبكرًا)؟!

لن تندهشَ الاندهاشَ المُفضِيَ إلى المَعرِفة، إلا بعدَ عُزلةٍ طويلةٍ تَقضِيها في غَارِكَ (خَلوتِكَ/غُرفتِكَ)، لتُزيلَ عن عينيكَ غِشاوةَ التعوُّدِ التي تمنعُكَ من الاندهاش؛ ولن تُصبِحَ حَكيمًا إلا إذا أدهشك كلُّ شيء.

ما كنا لنفهمَ أبجديَّاتِ الحياةِ لولا الخروجُ من عُزلةٍ في الرَّحِم دامتَ تسعةَ شهور، وعزلةٍ تحت حلمة الثدي دامت عامين؛ فلماذا نرتضي الكُمُونَ ونخشَى المواجهة؟!

ثالثًا: القرآنُ كتابُ الله، الذي هو الله، الذي هو أنت؛ وهو كلُّ شيء

يقزِّم الناسُ القرآنَ حين يعلِّقون آياتِه على أوطإِ أُفُقٍ من أفهامِهم العاجزة. القرآنُ أصعبُ كتابٍ أدبيٍّ في التاريخ العربي؛ لأن الصورة الذهنية عن (الله) لدى المسلمين المعاصرين مُلَوَّثة باجتهادات الفقهاء الذين ظنُّوا القرآنَ هو (الجزء الثاني) من التوراة، المتمِّم لها، المبيِّن لمعانيها، شأنه شأن التلمود! ولم يفهموا أن القرآنَ في حقيقته كتابٌ يدعو إلى وحدة الوجود (حيث الله والكون كِيانٌ واحدٌ، وحيث الله كلمةٌ تعني “الكون”، وحيث كلُّ الأشياءِ في الكونِ متَّصِلة في وحدةٍ متكاملةٍ، وحيث الألوهيَّة متجلِّيَةٌ في كلِّ شيءٍ)، وأن القرآن يُسلِّم بوجودِ حياةٍ بعد الموت، على نحوٍ تناسُخيٍّ ما، زادَه غموضًا الإمعانُ في استخدامِ مجازاتٍ حِسِّيةٍ مباشرةٍ (ظاهريًّا)، وإن كانت – في حقيقتها – تجعل الموتَ والانبعاثَ فالموتَ والانبعاثَ… إلخ، تفسيرًا منطقيًّا لوقائع ما بعد الموت، التي يؤثِّر – بالمناسبة – تأويلُها القريبُ في العقول البسيطة، إلى أبعدِ مدًى، لكنها لا تُرضِي فضولَ وتطلُّعات الحكماء. وهذا سرُّ إلغاز القرآن؛ أن فيه مستويين من الخطاب، لمراعاة مقتضَى حالِ وعقولِ العوامِّ (وهم الأكثرية)، الذين لم تنضَجْ مَلَكتُهم الأخلاقيةُ، ولا ضمائرُهم، على النحو الذي يجعلهم يتحمَّلون (فكرةً شديدةَ الثقل) مثل وحدة الوجود، برغم الحاجة المُلِحَّة لتقويم أخلاقهم لبناءِ مجتمعٍ آمِن. فأولئك العوام، وإن كانوا (كِبارًا)، فإنهم لم يروِّضوا نفوسَهم كما روَّضَ الأنبياءُ أنفسَهم. ووحدَهم مَن تحلَّوْا بسنَّتَي (الغار والكفر) هم الذين يَقِفون على أسرار القرآن ويتحمَّلونها، (وما أثقلَها)!

رابعًا: الدواعش ينعَمون بالسلام النفسي، والمسلمون (الوسطيون) يُعانون فُصامًا اجتماعيًّا اسمه الإسلام

حين أدرك بعض المتدينين أنهم في المكان السيئ/المجتمع اللاديني/المجتمع الجاهلي (راجِع المقال السابق)، لم يكن أمامَهم مَفَرٌّ من إنشاءِ مجتمعٍ (إسلاميٍّ) عن طريق العنف، لينعَموا فيه بالصِّحة النفسية، والتواؤم بين معتقداتِهم وحياتهم اليومية. وبغضِّ النظر عن تصوُّرهم عن الإسلام (الذي أعدتُ تعريفَه في المقال السابق من منظورٍ مختلفٍ)، إلا أنهم يظلُّون متَّسِقين مع ذواتهم حتى النهاية.

أمَّا مسلمو مصر، فقد ارتضوا أن يعيشوا بشخصيتين: الشخصية المؤمنة بكلامٍ غيرِ مفهومٍ (حتى لكِبار المفكِّرين) وطقوسٍ آليةٍ لا ينفُذُون إلى الهدف منها، والشخصية النازعة إلى التكيُّف غريزيًّا مع الواقع الذي سبق قدرةَ الفكرِ على الرَّصد والاستيعاب والتَّحليل والاستنتاج!

لذلك حدثت فجوةٌ ضخمةٌ بين تصوُّر الناس عمَّا يختزنُه القرآن (ظاهريًّا) من نظرياتٍ أخلاقيةٍ، وحقيقةِ الإسلام كدينٍ له الأسبقية في وضعِ أُسُسِ الانصرافية الأخلاقية moral particularism، ولا سيَّما حين يتعاملُ المسلم مع المجتمع الجاهلي (اللاديني/اللاأخلاقي).

خامسًا: القرآن والسنة ليس فيهما تناقض.. هما فقط يؤسِّسَان للانصرافية الأخلاقية

أمعن القرآن في الحديث عن عواقب الاختيارات الأخلاقية للإنسان، فكاد يتَّبع النظرية العواقبية في الأخلاق Consequentialism بتكرار الحديث عن الثواب (نتيجة الأفعال الطيبة)، والعقاب (نتيجة الأفعال السيئة)، في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. وكاد يتَّبع النظرية الفضائلية بتأكيده مثلًا على أن قيمةَ العدل أكبر من أن تؤثر فيه حتى الكراهية.

على أنه في حقيقته يتضمَّن المنهجَ المؤسِّسَ للانصرافية الأخلاقية.

ظهر مصطلح الانصرافية الأخلاقية لأول مرة في كتاب (الحرية والعقل) للفيلسوفِ الإنجليزيِّ ريتشارد ميرڤن هير عام 1963، وفسَّره على نحوٍ أكثرَ تفصيلًا الفيلسوفُ البريطانيُّ جوناثان دانسي في كتابه (أخلاق بلا مبادئ) الصادر عام 2004. وملخَّص هذه النظرية أنه لا توجد مبادئ أو أحكام أخلاقية مجرَّدة صالحة للتطبيق في كل المواقف وفي كل عصر، وأن مِن العبث أن نحاول إيجادَ مبدإٍ أخلاقيٍّ ثابتٍ لا يتغيَّر، وأن الشخصَ الأخلاقيَّ ليس هو الذي يُعرَف في المجتمع بأنه (رجلُ المبادئ والفضيلة)، بل هو الشخص الذي يستشفُّ بشكلٍ عقلانيٍّ الأحكامَ الأخلاقيةَ، ويطبقها في كلِّ موقفٍ على حِدَة، بناءً على ظروفِه وملابساتِه، لا على مبادئَ جامدةٍ مُسبَقة.

وهذا ما نجده في القرآن بوضوح تام. تجاورت فيه الآيات التي تحضُّ على قتال من لا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، والآيات التي تدعو إلى التعايش السلمي بين المسلمين والكفار، وبين المسلمين والنصارى واليهود، وتقرُّ بأن الإيمانَ والكفرَ سِيَّان، على أن تكون عاقبة اختيار الإنسان بعد الموت. ونجد القرآن يُصرِّح بأن الصلاة تجوز بعد الإفاقة من السُّكْر، وفي موضعٍ آخرَ يصف الخمر بأنها رجسٌ من عمل الشيطان واجب اجتنابه.

هذا تأسيسٌ للانصرافية الأخلاقية. وقد حاول الفقهاء الخروج من هذه الإشكالية الأخلاقية بترسيخ مفهوم النَّسْخ، الذي وردت بشأنه آيةٌ أساؤوا تفسيرها، إذ هي تتحدَّث عن نسخِ أحكامٍ من الشرائعِ القديمةِ، فجعلوا المقصودَ بها نسخَ آياتِ القرآنِ بعضِها لبعضٍ. القرآن لا ينسخُ بعضُه بعضًا، والسُّنَّة ليس فيها تناقض. إنما هي تنويعات وانصرافية أخلاقية، تُواكِب تطوُّر المجتمع، وتتكيَّف مع تَغَيُّر الظروف الاجتماعية والسياسية، وتَمَايُز التجارب الذاتية للأفراد المسلمين، وتبايُن المجتمعات. وقد وقع الفقهاءُ في التناقض بين تطويعهم القرآن ليلائمَ العواقبية الأخلاقية والفضائلية الأخلاقية، وبين إجماعِهم على أن العَادة مُحَكَّمة، وأنه لا يُنكَر تغيُّر الأحكام بتغيُّر الأزمان، بمعنى أن الفتوى تخصُّ السائلَ فحسب، وأنها تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعُرف والحال. وهذا طعنٌ في منهجيَّة القرآن، ومحاولة لإخضاعِ هذا الكِيانِ الهائلِ ذي الدلالاتِ الباطنيَّة، للمصالح اليومية الضَّيقة، وتفريغِه من مضمونِه الأخلاقي الطَّامِح في الأساس إلى تنظيم المجتمع في كلِّ عصر، لا عصر الرسول فحسب. وإقرارهم بهذه المثنويَّةِ الأخلاقيَّةِ، هو ما يؤدِّي إلى الفُصامِ الذي يعانيه (المُسلِمون الوَسَطِّيون) اليوم، والنزوعِ إلى الانفصال عن المجتمع الذي يسيطر على قلوب الدَّوَاعش والجماعات السلفية، برغم أن هذا الإقرارَ بالمثنويَّةِ نفسَه، والمراوَحَةَ بين أكثر من نظرية أخلاقية استنادًا إلى الظروف أو مَدَى إلزاميَّة الأحكام، هو في حقيقته انصرافية أخلاقية! ومن يعترِضْ فليُجبني: هل يأثم كلُّ مُفطِرٍ لرمضانَ على الإطلاق، رغم أن الصيامَ من الأركان الخمسة للإسلام؟!

سادسًا: القرآنُ كتابٌ للأحياء.. فليعتزِلْه معتزِلو الحياة

لم يكن القرآنُ إلا نتاجَ تفاعُلٍ يوميٍّ بين الرسول وأحداث عصره شديدة التعقيد. ولم يكن إلا ثمرةَ الصِّراعِ بين نقيضَيْن، ونزوعًا إلى تغييرِ المجتمعِ بطريقةٍ ثوريةٍ. وقد اتُّبِعَتْ فيه جميعُ أساليبِ الخِطابِ المُوَائمةِ لتبدُّل الظروف، وأسَّسَ للانصرافية الأخلاقية، بما يؤكِّدُ أن قدرةَ الإنسانِ على اتخاذِ حُكمٍ أخلاقيٍّ سليمٍ، لا يمكن أن تتحقَّقَ بدون الانخراط في الواقع، وتنمية مَلَكة فهم المواقف المتباينة بعُمق، وتحديد ردِّ الفعل المناسب لكلٍّ منها، دونَ تحكيمِ مبادئَ مُسبَقة، ولا سيَّما حين التعامل مع مجتمعٍ لم يُقوَّمْ أفرادُه استنادًا إلى الفضائلية الأخلاقية. فالفضائلية مناسبة دائمًا للمجتمعَات البسيطة المتجانِسة المُغلَقة ذات الخصائص المشتركة، ولا تصلح بالتأكيد لمجتمعٍ مثل المجتمع المصري.

القرآنُ مُوَجَّهٌ لأُناسٍ شَرِبُوا من كلِّ بئرٍ في الحياةِ رَشفةً، وحَطَّتْ أنوفُهم على كلِّ زهرةٍ ومستنقعٍ في هذا العالم. القرآنُ ليس للخائفين ولا للمنعزِلين. وما أكثرَ المنعزلين في هذا العصر، الذين لم يفهموا حتى أبعادَ أجسادِهم ووظائفَ أعضائِها على نحوٍ سليمٍ، فضلًا عن استخدام حواسِّهم لفهم العالم. وقد زادنا الانعزالُ وراء الشاشاتِ والكُتُبِ جهلًا وانفصالًا عن العالم، فأصبحنا مقيَّدين بين فهمٍ خاطئٍ للقرآن وَرِثناه عن القدماء، والبرنامج الغريزي المثبَّت في جيناتنا الذي ليس لديه إلا مبدأ أخلاقي وحيد بسيط (ما يسعدني هو جيد، وما يضايقني هو سيئ)!

القرآنُ مُوَجَّه للأحياء… وأنا أؤكِّدُ لكَ اليوم أن جدَّتي التي لا تعرف القراءة ولا الكتابة أعظم أخلاقًا من كثيرٍ من أساتذة الجامعات. ولقد تعاملت من قبل مع (شيَّال) في الوكالة بالإسكندرية، يعرف عن العالَم وعن الله أكثرَ مِمَّا يعرف كثيرٌ من المشايخ والقساوسة. الانخراطُ في الحياة هو السبيلُ الأوحدُ لفَهْم الحياة، وليس الانعزال وراء الكتب والشاشات.

سابعًا: الله أكبر.. ليس أعظم وليس أفضل وليس أعلى وليس أحسن وليس أجمل.. الله أكبر

حين تدرَّج النبي إبراهيم (وهو أوَّلُ المُسلِمين بتعبير القرآن) في شَكِّه، مِنْ رَفْض الأصنام، إلى عبادة القمر، إلى تأليه الشمس (في المرحلة قبل الأخيرة)، كان تدرُّجُه محكومًا بمعيار الحَجْم لا غير. قال حين رأى الشمس: هذا ربِّي، هذا أكبر. فلما أفلَتْ، أضاف إلى الحَجْم معيارَ الوجود السَّرْمَدي الذي لا تعتريه لحظةٌ من غياب. فخلص في النهاية إلى أن الإلهَ الجديرَ بأن يُعبَد هو الأكبر، والموجود من الأزل إلى الأبد. وهذا جوهر القرآن والإسلام فيما يتعلَّق بطبيعة الوجود الإلهي. إن أكبرَ ما في القلم هو القلم، وأجزاءُ القلمِ تختزنُ كينونتَه، وتتجلَّى فيها طبيعتُه، ولا تستقيمُ وظيفتُه إلا بتكامُلِ الأجزاء بعضِها مع بعض، رغم أن العنصرَ الفعَّال في القلم هو الحِبر. إن كانت العدسات هي ما به يتحسَّن إبصارُ قِصار النَّظَر، فما الحاجةُ إلى إطارِ النظَّارة والذراعين؟ الكونُ وحدةٌ كاملةٌ، والعنصرُ الفعَّالُ فيها هو الوَعْيُ المبثوثُ في جميع الكائنات الحية، والذي يمنحُها الإرادة؛ غير أن هذه الوحدةَ إلهيةٌ بالكلِّيَّة، وأجزاءَها تختزِن طابعَ الألوهية، وتكامُلها ضروريٌّ لاستقرار المنظومة الكونية، بما تشتمل عليه من تناقضاتٍ وتنويعاتٍ لا حَصْرَ لها. وهذا هو المَخرجُ الوحيدُ من إشكاليةِ الطبيعةِ الإلهيَّةِ، والمدخلُ إلى فهمٍ قويمٍ للقرآن في ضوء وحدة الوجود.

ثامنًا: القرآن كرةُ جليدٍ من الدلالات

إن الالتزام بفهم القرآن الكريم من منظور (القرون الثلاثة الأولى) المفضَّلة، يسلُبُ القرآنَ صلاحيَّتَه لكل الأزمان. هناك بالطبع آياتٌ لا تُفهَم إلا في سياقِها الاجتماعيِّ والثقافيِّ، وأحكام شرعيَّة تخصُّ عصرَها، لكنه يشتمل بلا شك على مواضعَ قابلةٍ للتأويل في عصرِنا من منظورِ أهل العصر، لتكونَ ملائمةً لِمَا حلَّت به ركابُ تطوُّرهم. وهو بين الفهم القديم والحديث، كُرَة جليدٍ، لا تزال تتعاظم مع كلِّ عينٍ جديدةٍ تتجوَّل بين سطوره، وتقرؤه من منظورٍ مختلفٍ. والتجاور بين الدلالات القديمة والمُحدَثة يزيد القرآن ثراءً، وإن كان يزيده تعقيدًا، ولا سيَّما مع امتلائه بالرموز والإشارات الخفية. ولكن من قال إن الحياة والكون أمور بسيطة؟!

تاسعًا: القرآن تَذكِرة… ولكِنْ لِمَنْ؟

إذا أدرك الإنسانُ أصلَ الحياة، وجوهرَ الكون، وما سيلاقيه بعدَ الموت، فلن تستمرَّ حياته على وجهٍ سليمٍ أبدًا، وسوف يتعرَّض سلامُه النفسيُّ لخطرٍ عظيمٍ. وليس كلُّ إنسانٍ مؤهَّلًا لاستيعاب هذه الحقائق، أو الاستمرار في حياته حامِلًا أمانتَها. ولذلك كان الوهمُ ضروريًّا لكي تستقيمَ الحياة، وتستقرَّ المجتمعات. وفي الغالب سوف يروِّج من أدرك الحقيقةَ بعضَ الأوهام؛ لأن تكلفةَ التصريحِ بالحقيقةِ باهظةٌ، وسوف يكون هو أوَّلَ المُصطلِين بها، إن علم الناسُ حقيقةَ ما سيحدث بعدَ الموت. لذلك سكت القرآن عن (التصريح) بهذه الحقائق. ولكنه لمَّح إليها، بعباراتٍ مبهَمةٍ، لا يكاد يفهمها إلا من تعمَّق في دراسة الفلسفة وعلم الكوزمولوجي والأديان القديمة، وتأمَّل كثيرًا في ظواهر الكون، والتزم بسُنَّة الغَار والكُفْر، وكانت هذه الحقائق في القرآن ممهَّدةً بما مرَّ به الرسول في حياته للوصول إليها. فإن كانت العَلاقة بين القرآن وحياة الرسول (حميمية) بتعبير د. محمد عابد الجابري، فإن العَلاقة بين بلوغِ الحقيقةِ ووقائعِ هذه الحياةِ أشدُّ حميميَّةً، ولا سيَّما أن القرآن في خِضَمِّ رمزيتِه، أشار إلى أن بعدَ الموتِ حياةً، على نحوٍ تناسُخيٍّ ما (وَفق فَهمي وفَهم بعض فِرَق المعتزِلة مثل الخابطية والحدثية مثلًا). فإذا كان الإنسانُ على يقينٍ بأنَّ حياتَه قد تتكرَّر في هيئة بشرية على هذا الكوكب، فلا بد وأن يرسم (خريطةَ كنز)، وأن يُخفيها بحيث لا يطَّلِع عليها الجميع، لخطورة هذا الكنز، وأن تكون في الوقت نفسه متاحةً بحيث يصل إليها بسهولة بعد التجسُّد. كان القرآنُ هو خريطة الكنز، ولقد أُخفِيَتْ فيه معالمُ الطَّريق، بحيث لا يتبيَّنها إلا من يقف على مفاتيح القرآن التي تَقَدَّم ذكرها في هذا المقال. كان القرآنُ خريطةً لا يستطيع أحدٌ أن يجِدَها، لأنها مخفيَّةٌ في آخرِ مكانٍ يتوقعه الجميع… أمام عيونِهم! في أرفف مكتباتهم، وأبواق مساجدهم، وعلى تابلوهات سياراتهم، وداخل حقائبهم الشخصية!

ولقد أَخْفَيْتُ أنا نفسي مفاتيحَ أخرى للقرآن، لأن الكنز، وإن كان برَّاقًا وهَّاجًا، فإنه سيعمي عيونَ أغلبِ مكتشفيه. وما أصعبَ الحياةَ في وادي العميان!

إعلان

اترك تعليقا