صورةُ الأمّ في السيرة الذاتية لمحمد عابد الجابري

تحلُّ هذا الشهر الذكرى التاسعة لرحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي رأى النور بمدينة فكيك الشرقية بالمغرب، في الـ27 ديسمبر 1936، وغادر الحياة في الـ03 مايو 2010، بعد مسارٍ حافلٍ من العطاء في التربية والسياسة والفكر، لقد ترك لنا الراحل إرثًا فكريًا وازنًا توزَع بين التأليف التربوي، ونقد التراث، وإشكاليات الخطاب العربي المعاصر، وتفسير القرآن الكريم وغيرها من المجالات المعرفية. ولا يخفى على أي متتبع أن شهرة الجابري ذاعت شرقًا وغربًا، بعد أن أصدر مشروعه الرائد “نقد العقل العربي” في أربعة أجزاء، منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد مهّد له بكتابه المشهور “نحن والتراث”، وكتاب “الخطاب العربي المعاصر”، وهي مؤلفات -ضمن أخرى- حاول المؤلف من خلالها إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي من منظور إبستمولوجي قوامه: “القطيعة مع الفهم التراثي للتراث”، وممارسة النقد “من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي”.

وتخليدًا لهذه الذكرى العظيمة، ذكرى رحيل شخصية فكرية لها قيمتها الاعتبارية في الفكر العربي المعاصر، سنحاول في هذا المقال لفت الانتباه إلى جانبٍ جدير بالعناية في حياة الراحل؛ ويتعلق الأمر بـ”علاقة المفكر بأمه”، تلك العلاقة الروحية شديدة الوثاق، التي يظل تأثيرها، سلبًا أو إيجابًا، مصاحبًا للمرء على امتداد حياته. إن ما يعنينا هنا -أساسًا- ليس هو محمد عابد الجابري المفكر العقلاني، بل الجابري الطفل الأمازيغي البسيط، الذي نشأ في أحضان أسرة مفككة؛ إذ عانى وقع انفصال والديه، ونشأ مترددًا بين أسرتين، بيد أن ميله إلى أمه وانتصاره لها كانا واضحَين في سيرته الذاتية “حفريات في الذاكرة من بعيد ”(1997)، ويظهر ذلك جليًا من خلال إسهابه في الحديث عنها، مقابل إسرافه في الحديث عن أبيه، فضلاً عن عقده فصلًا كاملًا يسترجع فيه بحسرة وألم ذكرى رحيل أمه، وقد جاء بعنوان لافت هو: “فصل فريد”، وبيّنٌ أن عَنوَنة هذا الفصل تكشف فرادة المحكي عنه في حياة المؤلف: إنها الأم.

لاشك أن القارئ بتتبعه لصورة أمّ المفكر المغربي محمد عابد الجابري (2010-1936) في سيرته الذاتية ”حفريات في الذاكرة من بعيد” (1997)، سيخلص إلى أنها كانت امرأة مثالية؛ ذلك أن الصفات التي يضفيها عليها المؤلفُ ترتفع بها إلى مقام عالٍ، ولكي تتضح لنا معالم تلك الصورة جليًا، سنحاول في هذا المقال تحليل جانب من صفات الأم التي وردت في ”الحفريات” وتبيّن مرجعيتها، ومنها على الخصوص قول السارد: “كانت من النساء الصامتات الخجولات الصابرات القانتات، اللائي لا يُسمع لهنّ أنينٌ ولا شكوى ولا نحيبٌ ولا قهقهة” (الحفريات: ص26).

من الملاحظ أن الكاتب قد أورد هنا مجموعة من الصفات الأخلاقية الرفيعة، بمقتضى أعراف المجتمع الصحراوي، لفئة من النساء أدرج أمّه ضمنها، ومعلوم أن توالي الصفات في الخطاب على هذا النحو المتتابع من غير عطفها بروابط لفظية يجعل بعضها مشدودًا إلى بعض كأنها كلمة واحدة، وبعبارة أخرى فكأننا بالكاتب يقول: لقد اجتمع في أمّي من الفضائل ما تفرق في غيرها من النساء!

وواضح أن ذاكرة الجابري القرائية قد وجّهته، إلى حد ما، في معرض وصف أمه، والدليل على ذلك تناصّ بعض مما ورد في السيرة من صفات الأم مع صفات المرأة الخيّرة في النص القرآني، ومنها الآية: “عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً” (التحريم: 05)، وهذا ما يؤكد المرجعية الدينية التي صدر عنها المؤلف في تقديم صورة الأم على هذا النحو المثالي؛ إذ إن الإسلام، كما هو معروف، بوّأ الأم، إلى جانب الأب، منزلةً عالية؛ فشرَط رضى الله برضاها، وجعلها أحق الناس بحسن الصّحبة، وحذر من مغبة مخاطبتها بكلام فظّ، حتى ولو كان مجرد كلمة “أفّ”، بل قرَن اجتناب كبيرة الشرك بالله بالإحسان إليها، تقديرًا لمعاناتها طوال الأشهر التسعة، وهي تحمل في أحشائها جنينها وَهْنًا على وَهْنٍ، ثم ما يتلو ذلك من آلام الوضع والإرضاع والسهر والتعب والخوف والتوجس.

إعلان

يتضح مما تقدم أن أمّ الجابري كانت من فئة الأمّهات البدويات الصبورات اللائي يعشن على الفطرة، فيتحملن الظلم والألم بلا امتعاض ولا أنين ولا شكوى، كما أن طباعهن التي هي على درجة كبيرة من الوقار الذي يميل بصاحبه إلى الانطواء، تحملهن، في الغالب، على العزوف عن “مجامع” القيل والقال وإطلاق القهقهات الصاخبة، وكل ما من شأنه أن يخدش حياء المرأة المسلمة وعفتها، فلا يشغلها شاغل عن تربية الأولاد، والاهتمام بشؤون البيت.

بيد أن ما يلفت الانتباه هو أن أمّ الجابري، على الرغم مما هي عليه من صفات المرأة الصالحة بمعايير الأعراف القبلية بالمغرب الشرقي، ما يفرض أن تكون زوجة هنيئة سعيدة في بيت زوجها، فإن خِلاف ذلك هو الحاصل، لقد كانت حياتها أبعد ما تكون عن الهناء والسعادة؛ إذ طلّقها زوجُها وهي حامل بالطفل -الجابري في الشهر السادس، ولربما مردُّ ذلك كما تخبرنا ”الحفريات” لأمرٍ تافه حصل بين أمها وحماتها العنيدة، ما دفع هذه الأخيرة إلى أمر ولدها بتطليق زوجته، والحق أن الزوجين (أم وأب الجابري) كانا على “علاقة حميمة دفينة قمعتها “الحرب” التي كانت بين الجدّتين، إن “رضا الوالدين” كانت له هنا الكلمة العليا على العاطفة بين الزوجين” (الحفريات: ص30).

والواقع أن الجابري لم يستشعر، وهو صغير، وقع هذا الانفصال المؤسف نظرًا للرعاية الشاملة التي كان محفوفًا بها من أهله لأمه، في سنواته السبع الأولى، ثم من أهله لأبيه فيما بعد، ولمّا كان فراق الطفل لأمه جرى في سن مبكرة، فمن الطبيعي ألا تكون علاقته بها علاقة شديدة الحميمية؛ ذلك أن واقعة وفاتها، كما يصفها الكاتب، لم تحرك في وجدانه حينئذ أيّ مشاعر حزن ولا انفعالات مأساوية، بل إنه ذهب لحضور جنازتها في المقبرة، ثم التحق مباشرةً بالمدرسة (مدرسة التهذيب العربية بوجدة) ليتابع دروسه، وكأن شيئًا لم يحدث!

والحق أن تلك الانفعالات الدفينة سيكون لها أثرٌ بعديّ، يتمثل في شعورٍ خفي بالحزن ما لبث أن انتاب المؤلف لحظة الكتابة، وقد شارف السّتين من عمره، وهو الأمر الذي جعله يعقد فصلاً كاملاً من سيرته يستحضر فيه واقعة وفاة أمه، ولسنا في حاجة للتأكيد على أن أسف الكاتب لحظّ أمه العاثر، وشعوره بثقل دين أمه عليه قد لازماه طوال حياته، حتى بعدما بزغ نجمه في سماء الفكر العربي المعاصر، وما عنونته للفصل الأخير الذي يحكي فيه كل ذلك بـ”فصل فريد” إلا دليلٌ على فَرادة هذا الشخص المحكي عنه، ومكانته في وجدان الكاتب، إنه أعظم مخلوق في حياة الإنسان: الأم.

ومهما يكن من أمر، فإن علاقة الأم بابنها كانت قوية؛ فلم يستطع زواجها الثاني المشؤوم، وما قاسته من عذاب حماتها الجديدة، أن ينسياها فلذة كبدها، لقد ظل ولدها -الجابري- حاضرًا في وجدانها، ساكنًا أعماقها إلى لحظة احتضارها، ويتجلى ذلك فيما تركته له من متاع ثمين، على بساطته، أودعته لدى إحدى قريباتها الموثوق بها: حزامٌ، وقَصعةٌ، وجفنيةٌ، وخلخالٌ، وإزارٌ، وآلة نسج يُكبس بها الخيط على المنوال حين النسج، وذلك ما تملكه المرأة عادةً في منطقة فِجيج الشرقية (مسقط رأس الكاتب) ملكيةً شخصية؛ لكون هذه الأشياء هي قوامُ مَهرها وتجهيزها، وغالبًا ما تحتفظ بها المرأة فتقدمها لابنتها عند زواجها.

وبما أن المرحومة لم تُرزق بمولودٍ آخر غير ابنها محمد، وبما أنها لم تكن متأكدة من العودة (العودة إلى فجيج بعد رحيلها إلى مدينة وجدة، إثر طلاقها الثاني)؛ لاشتداد المرض عليها وإحساسها بدنوّ أجلها، فقد احتفظت له بهذه الأغراض، هديةً منها تُقدّم له عند وفاتها (الحفريات: ص167).

وإذن؛ فلقد كانت أمّ المفكر المغربي محمد عابد الجابري نموذجًا للمرأة المغربية المثالية، وهي كاسمها (الوازنة)، كانت لها مكانة وازنة في حياة ناقد العقل العربي، بل إن الخصال الحميدة التي عُرف بها الجابري الإنسان والمفكر، من قبيل: الصبر على الشدائد، والبساطة في العيش والزهد فيه، والتحلي بالهدوء والرزانة في إبداء المواقف، والتسامح مع المخالف… وغيرها من الخصال كثير، ما من شك في أنه نقلها عبر الجينات من أمّه العظيمة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عماد الفزازي- المغرب

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا