ذكريات خاصة جدًا
أعرفُ أن صديقي البعيد شخصٌ مشاغبٌ جدًا، لكنّني لم أكن أدري أن مشاغبته تبلغ إلى حد توريطي في كتابة هذا المنشور الشخصي جدًا. منشورٌ يتحدّثُ عن ذكرياتٍ خاصة جدًا جدًا. لكن لا بأس، دعونا نفتح الصندوق ونخرج منه بعضًا من هذه الذكريات، وأمرنا إلى الله.
بدايةً، أعرفُ أن الحديثَ عن الحبِّ يعتبر ترفًا وسط أدخنةِ الحربِ المشتعلة من حولنا، لكن صديقنا الكاتب حسين الوادعي كتب مرةً: “في زمنِ الحرب نتعافى بسهولةٍ من خيبات الحبِّ“؛ لذا دعونا هنا نتعافى من خيبات الحرب بالحديثِ عن الحب.
عندما ترد لفظةُ الحبِّ، يتسرَّبُ إلى وجداني قول الشاعر المصري أحمد بخيت:
هَنِيئًا لِمَن علَّمُوا الأبجديَّةَ..كيفَ تُضيفُ إلى الحاءِ بَاءْ!.
فكيف علّموا الأبجدية هذه الإضافة الهامة؟ لا أدري.
قلتُ في كتابٍ لي بعنوان “عندما تقع الذرات في الحب“:
“الحب ما هو الحب؟ وهل نستطيع وصفه؟ إنه ذلك الشعورُ السامي الذي شعرنا وما زلنا نشعر كلّنا به، وسنظل نشعر به حتى آخر العمر.
مشاعرٌ نبيلة قد فقدناها في هذا العصر الممزوج برتابة الآلة الصماء التي جعلت الناس مثلها، فأصبحوا مجرد كائنات حيّة خالية من أيّ مشاعر نبيلة باستثناء ما يتصنّعوه لنيل أوطارهم، فتجيء تلك المشاعر مثل الورود الصناعية خالية من أي رائحة وروح. الحبّ هو ذلك الشعور الجامع لجمالِ الإنسانية في أبهى صورها، إنه شعورٌ تنبثق منه كلُّ المشاعرِ الفيّاضة الأخرى، كالإيثار، والتضحية، والعطاء، إلى غيرها من مشاعر الكمال الإنساني.
فالحبُّ ليس مجرد كلمة عابرة يقولها مراهقٌ لمعشوقتِه كما تُصوِّره أفلامُنا ومسلسلاتُنا وحتى قصائدنا “الرومانسية”، بل هو أسمى من ذلك بكثير؛ لأنه يشمل حبنا لأنفسنا ولأوطاننا ولأقربائنا ولكلّ من له فضل علينا من معلمينا وشيوخنا وأصحاب القدوة العظمى بالنسبة لنا.
الحبُّ كذلك يشمل حبنا لأبنائنا -مشاريع الامتداد من بعدنا- ولكل مَن حولنا في مجتمعاتنا، فمن الظلم أن نكبس كل هذه المعاني السامية للحب في حب مراهقٍ غير ناضج، أو نزوة عابرة يروم صاحبها من ورائها قضاء وطره وإفراغ رغبةٍ مدفونة، ولا يُفهم من كلامي هذا أنني أقف حائلًا ضد كل حب شريف بين شاب وفتاة بهدف الزواج، لكن ليكن هذا الحب مكفولًا ضمن ثقافة المجتمع وعاداته وقِيَمه.
إن أسمى مراتب الحب هي العبادة، فالعابد يهيم في حبِّ معبوده، فلا تكن العبادات مجرد حركات وهمهمات وشعائر معدومة الوجدان، بل هي التعبيرُ الصادقُ عن حبِّنا وشكرنا لخالقنا في صورة صلواتٍ وتسبيحاتٍ وسلوكياتٍ صالحة تجاه مجتمعاتنا الخاصة منها أو الإنسانية”.
“وماذا عنك؟”
هذا هو السؤال الذي نريدك أن تجيب عنه (وبلاش لف ودوران وتنظير عن الحب)!
“أحم أحم”، كان ذلك منذ زمنٍ بعيد. في بدايات سنوات النضج، فتى في مقتبلِ العمر، ينهلُ من موارد الحياة والجمال، سَحَرَتُهُ عينان من خلف نقاب ذات يوم. عينان يَصدقُ عليهما قول نزار قباني: “عينانِ سوداوانِ في حَجَريهما…تتوالدُ الأبعادُ من أبعادِ”.
وهنا أتساءل: منْ قال أن النقاب يشكّل حاجزًا عن الخوض في الغرام؟ بل العيون ذابحة من تحت النقاب، على حدِّ تعبير نزار قباني أيضًا، حين قال: “كم رسولٍ أرسلتُهُ لأبيها…ذبحتهُ تحت النقابِ العيونُ”. (طبعًا، المطلوب أن تحدّثَنا عنك. عن نفسك. لا عن نزار). “أيوة عارف، بس أستشهد بشعر نزار لأنّه المناسب لهذا الموقف”.
كنت أقول إن النقاب والمجتمع المحافظ لا يمنعان من الوقوع في الحب. في ريفنا اليمنيّ، هناك الكثير من قصص الحب والغرام، ما نحتاج لمجلداتٍ لتدوينها. ريفنا ما زال خالصًا على فطرته لم تشوبه لوثة التمدُّن وضجيج المدينة وتعقيدها؛ لذا فهو المهد المناسب لتلك القصص الكثيرة والتي عايشت بعضًا من تنهّدات أصحابها وهم يقصّون روايتهم!
عايشتها وأنا أردد قول الشاعر ابن المعتز: “مَساكينُ أهلُ العِشقِ، حتى قبورُهم…عَلَيها تُرَابُ الذلّ بينَ المَقابِرِ!“.
مساكين، وهم يخوضون هذا العالم الجميل والمثير والخطير معًا، إن أي عالَم فيه نساء هو عالمٌ مسجّل عليه: “خطر! ممنوع الاقتراب”؛ لأن المرأةَ كما يقول القاص المبدع يوسف إدريس: “موسوعةٌ ضخمة لم تُقرأ منها إلا المقدمة“.
(وأنا أقول: ولا حتى سطرين يا دكتور يوسف، إنها عالَمٌ غامض).
لكنّه -أي عالم الحب- عالمٌ فريدٌ بكلٍّ تفاصيله الصغيرة والكبيرة المثيرة، وأنت بين نارين اثنتين كلٌ يزداد توقّدُه، كما قلتُ في قصيدة قديمة لي:
“ناران أعذب بينهما…كلٌ يزدادُ توقّدُهُ
نارٌ في الشوقِ لرؤيتهِ…أبدًا لا شيءَ يباعدُهُ
حتى ألقاه مداومةً…في كل ثوانٍ أشهدُهُ
والنارُ الأخرى من صدٍ…قد باتَ كسيف يُجرّدُهُ
أطفي نارًا فتجيء أخرى…أأعيش العمرَ أكابدُهُ؟”
مهما قال المرءُ أو كتب أو قرأ فلا يمكن أن يتمثّل تلك المشاعر الفياضة؛ لأنّني أظنُّ أن هذه المشاعر لا يمكن التعبير عنها بكلماتٍ، لأنها مشاعرٌ لا تُعرف إلا أن تُعاش وليس مجرد الحديث عنها. فهل تستطيع أن تشعر أو تتمثل لهفة اللقاء، وحنين البعد، وجمال القُرْب، وحرقة الهجر، وجنون الغيرة، وأشياء أخرى كثيرة، دون أن تكون قد عشت التجربة؟
عن نفسي كانت عينان سوداوان ذات يومٍ، وكانت ابتسامةٌ صافية، وودٌّ غَمَرَ النفسَ في ذاك الزمان البعيد الذي ظلت ذكرياته خالدة عبر العمر، وأنا أردد مع أحمد شوقي: “شَهِدَ اللهُ لم يغبْ عن جفوني…شخصُهُ ساعةً ولا غابَ حسّي“.
رُفعت الأقلامُ، وجفّت الصحف.