مذكِّرات مَطْموسة.. هل تخبرنا المذكِّرات شيئًا آخر عنا؟

المذكِّرات، ما أهمية كتابة المذكِّرات؟

أقرب الإجابات التي تتبادر إلى الذهن هي: الهدف من نقل تجربة أو تجارب صاحبها إلى جمهور القرَّاء!

لنقل: جميل.

طبعًا هذا ضمن افتراض أن لصاحبها تجارب تستحق النقل!

دعنا نفترض أن لديه، فكل إنسان لا بُدّ قد مَرّ بتجارب حياتيَّة في رحلة العمر.

إعلان

لكن دعوني أتساءل:

أية تجارب ستكون لكاتب يعيش في جغرافية منسية اسمها الوطن العربي (الكسير)؟!

لا ريب أنها تجارب الشكوى والتبرُّم بالواقع العربي المنحوس في الزمن الأخير والانكسارات المتوالية… إلخ.

ولا أظن أن مثل هذه التجارب -إنْ صحَّ تسميتها كذلك- تحتاج لتوثيقٍ ونقل، فالواقع المُعَاش زاخر بما لذ وطاب من ذلك!

أم أن قراءة تلك التجارب على الأوراق وهي مسطورة أمر لذيذ؟!

إن قراءة المذكِّرات يشبه قراءة التاريخ، مع فارق أنَّ المذكِّرات تاريخ مكتوب بقلم صانعه، يعني ستجد التعظيم والتفخيم للذَّات وإخفاء الهَنَات، بل عدم ذكرها بالمرة، وكأن صاحب المذكِّرات مَلَك هبط من السماء لنقرأ- نحن البشر الخاطئين- إبداعاته!

إذًا، لِمَ المذكِّرات؟

لنقل: كتابتها من باب الفضفضة والتدوين للنفس كحكاياتٍ طريفة مرَّت في رحلة عمرٍ طويلة.

إنها (حواديت) للتسلية، لكاتبها بالدرجة الأولى وهو يستعيد قراءتها ذات عشية مملة!

السياسيون والمؤثِّرون في المجتمع هم منْ تكونُ لمذكِّراتهم قيمة، خصوصًا لو صدقوا في تدوينها، فهي تُسلِّط الضوء على كواليسٍ في حياتهم تهم مجتمعاتهم.

لكني لم أجد سياسيًّا عربيًّا ذا وزن كَتَبَ مذكِّراته!

فهو إما مات قبل أن يدوِّنها، هذا بافتراض أنه كان يُكنُّ هذه النيّة، أو ظهرت بعد رحيله بسنواتٍ، مما يبعث الشَكّ حول مصداقية نسبتها له سواء كتبها أو أملاها.

(باستثناء مذكَِّرات عمرو موسى – أمين عام جامعة الدول العربيَّة السابق- الموسومة بـ “كتابيه”، والتي ظهرت في حياته).

ولندع السَّاسة جانبًا، ربما نحن العرب لم نصل للشفافية التي تجعل السياسيّ يبوح بأسراره!

كتب المفكِّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد مذكِّراته الموسومة بـ”خارج المكان”، جاء في مقدَّمتها: “لقد سبق لزميلٍ عربيٍّ أن قال إن بعض ما ورد في كتابي لا يُسِّر به المرء إلا لطبيبه النفسانيّ. وأنا طبعًا مدرك أن الكتابة الصريحة عن الذَّات نادرة في تراثنا، وأني لآمل أن يُسهِم هذا الكتاب في تنمية هذا التقليد. فإذا تحقَّق ذلك، بلغت الغاية في الرضا”.

هناك مذكِّرات جميلة لكتَّاب وشعراء ومفكرين، كلٌ كَتَبَ سيرتَه الذَّاتيَّة بطريقته الخاصة به، لكن ما يهمنا أنه كتبها بنفسه ولم يدع الآخرين يشكِّلون وجهه كما شاءوا هم!

كتب الشاعر السوري نزار قباني كتاب “قصتي مع الشعر” كسيرةٍ ذاتيَّة في نثر جميل يقول في مقدَّمته: “هذا الكتاب سيكون نوعًا من السيرة الذاتيَّة، والسيرة الذاتيَّة تكاد تكون مجهولة في تاريخ أدبنا.

الأديب العربي لا يحبّ السفر في داخل نفسه، ولا يحبّ استعمال المرايا..”.

ثُمَّ أردفه بكتابٍ “من أوراقي المجهولة- سيرة ذاتيَّة ثانية”.

وعن سبب كتابة هذه المذكِّرات يقول نزار قباني: “أريد أن أكتب قصتي مع الشعر قبل أن يكتبها أحدٌ غيري.

أريد أن أرسم وجهي بيدي، إذ لا أحد يستطيع أن يرسم وجهي أحسن مني.

أريد أن أكشف الستائر عن نفسي بنفسي، قبل أن يقصّني النقاد ويفصلوني على هواهم، قبل أن يخترعوني من جديد.

لا يستطيع أحد أن يكون فمي أكثر من فمي”.

هذه دعوة لكل كاتبٍ أن يكتب مذكِّراته بنفسه بغض النظر عن تاريخ نشرها!

المذكِّرات التي يكتبها صاحبها تكون أكثر جمالًا مما يكتبه الآخرون عنه!

ماذا لو كتب الواحد منا مذكِّراته؟

أنا شخصيًّا أفكِّر أن أكتب مذكِّراتي، طبعًا لستُ سياسيًّا -ولن أكون- والحمد لله، لكن معي قلم وأعيش في عصرٍ متقلِّب الأطوار، فمن حسن حظي أني ولدت في القرن العشرين – قرن الفيزياء، وأعيش في بداية القرن الحادي والعشرين- قرن الثَّوْرة البيولوجيَّة!

ألا تحتاج هذه الإبداعات إلى توثيقٍ؟

ولا ننسى تقلُّبات العصر العربيّ الذي عشته ولا أزال أعيشه، وتاريخنا اليمني الطويل الذي ورثناه في هذه العصور الأخيرة، أظنهما يستحقان التوثيق أيضًا، ولو من باب وجهة نظر شخص (بسيط) مثلي عاش في هذه التقلُّبات، ولو اعتبرناها قراءة شعبيَّة للأحداث!

سيرة غير ذاتيَّة وغير موضوعيَّة

قد يعجبك أيضًا

نحن اليوم في عصر الرواية لمّا خفت صوت الشعر قليلًا برحيل العمالقة، لذا ستكون هذه المذكِّرات رواية، طبعًا ليس بالمعنى المعهود للرواية، بل سيرة غير ذاتيَة وغير موضوعيَّة على خطى د. عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- الذي كَتَبَ سيرتَه الشخصيَّة بطريقةٍ مبتكرة، فهي غير ذاتيَّة حيث لم تدوِّن كل تفاصيل حياته الشخصيَّة، لأنها تفاصيل لا تهم قارئ السيرة الذي يريد أن يتعرَّف على تطور الدكتور المسيري الفكريَّة، إلى جانب أن الدكتور المسيري ابتعد عن السرد التاريخي الممل والمرتَّب أيضًا، مما سهَّل له الانتقال بين أحداث حياته المختلفة بما يتلاءم مع الموضوع الذي يتناوله، وهو لم يتوقَّف عن الأحداث العامة في التاريخ المِصريّ المُعاصِر الذي عايشه ‑كأحداث ثَّوْرة 1952م مثلًا‑ إلا بالقدر الذي يعطي انعكاسات ذلك الحدث على شخصيته وتطورها مما ينفع القارئ والمتابع له.

وهي سيرة غير موضوعيَّة، فهي سيرة إنسان يلتقي في فضاء حياته الخاص بالعام، ولذا لا يذكر الدكتور المسيري القضايا الفِكْريَّة مجرَّدة، بل يشفعها دائمًا بأحداثٍ من حياته واقتباساتٍ من كتاباته، التي تبيِّن كيف ترجمت القضية الفِكْريَّة (العامة) نفسها إلى أحداثٍ ووقائع محددة في حياته الشخصيَّة (الخاصة).

فجاءت السيرة غير الذاتيَّة وغير الموضوعيَّة للدكتور المسيري الموسومة بـ “رحلتي الفِكْريَّة في البذور والجذور والثمر“، الصادرة عن دار الشروق عام 2006م ممتعة ومفيدة في الوقت نفسه للقارئ، وهو يتابع الخطوات الفِكْريَّة لمُفكِّرٍ متميزٍ كالدكتور المسيري، والمقصود بالبذور لدى الدكتور المسيري هو تكوينه في مدينة دمنهور حيث مولده عام 1938م، أما الجذور فهي حياته الثقافيَّة بأسرها، وما الثمر إلا نتاجه الفِكْريّ الذي قدَّمه للقارئ العربيّ والأجنبيّ خلال حياته الممتدة من عام 1938م إلى عام 2008م.

ويقول الدكتور المسيري عن الدافع لكتابة هذه السيرة:

“وجدت أنه قد يكون من المفيد أن أضع بين أيدي القرَّاء، وبخاصة الشباب، بعض خبراتي الفِكْريَّة والمنهجيَّة”.

وهو يدعو المفكرين العرب أن يكتبوا سِيَرَهم غير الذاتيَّة وغير الموضوعيَّة التي تحتوي على تلخيصٍ لأفكارهم، وبذورها، وكيفيَّة تشكُّلها، ليضعوا خبرتهم تحت تصرف الأجيال الجديدة، حتى لا تبدأ الأجيال القادمة انطلاقها من نقطة الصفر، فتعاظُم الفجوة بين الأجيال السابقة واللاحقة يؤدي إلى عدم توارث الحكمة والمعرفة.

تقع هذه السيرة في جزأين: الأول يسمَّى “التكوين”، جاء في أربعة فصول تمثِّل جذور التكوين الفِكْريّ للدكتور المسيري، وتغطي مرحلة الطفولة والشباب إلى الشباب المتأخر، ابتداءً من دمنهور ثُمَّ الإسكندرية ومن بعدها نيويورك وعودة إلى القاهرة.

أما الجزء الثاني المسمَّى “عالَم الفِكْر”، الذي جاء في ستة فصول، تمثل الثمر وتغطي التحولات الفِكْريَّة، وإشكاليَّة الصهيونيَّة وعَلاقة الدكتور المسيري بها، ومن ثَمَّ أهم أعماله على الإطلاق ‑التي اشتهر بها‑ وهي موسوعته الموسومة بـ “اليهود واليهوديَّة والصهيونيَّة: نموذج تفسيريّ جديد”، وكذلك يغطي هذا الجزء كتاباته الأخرى كقصص الأطفال وترجماته وغيرها.

وللحق إنها سيرة ممتعة بأسلوب الدكتور المسيري الرائع، حيث تلتقي المعلومة مع الفكاهة في قالبٍ أدبيٍّ رفيع يحث القارئ على المضي في القراءة رغم ضخامة الكتاب الذي تتجاوز صفحاته الـ750 صفحة.

وأنتم أيضًا تلفَّتوا حولكم، ستجدوا أن هناك أشياء كثيرة من حولنا تستحق التوثيق.

اقرأ أيضًا: تعالوا إلى عالم الرواية

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الحفيظ العمري

تدقيق لغوي: أمل فاخر

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا