عندما لا تعود أنت المتحكم: تجربة حقيقية مع اضطراب الفصام العاطفي
سيكون هذا المقال الأول من نوعه الذي أتحدث فيه بصفة شخصية عن تجربة ربما لازمتني قدر ما حييت. ربما نسمع الكثيرين يتداولون كلمة الاكتئاب ويصفون الكثير بالهلوسة، لكن الأمر يختلف عندما تكون واقعًا يحياه أحدهم. في هذا المقال سأناقش تجربتي مع المرض النفسي التي استمر علاجها ما يقرب الستة أشهر حتى الآن. ليس فقط لتوثيق التجربة، ولكن ليتفهم القارئ كيف يتعامل مع أحد مثل هذا، وإن كنت تعاني بعض الأعراض ماذا يجدر بك فعله، وأي طريق تسلك نحو البقاء. أعرفكم بنفسي، أنا آمال رشاد، طالبة بالعام الثاني من كلية الهندسة، تم تشخيصي بــ” اضطراب الفصام العاطفي“(Schizoaffective disorder)، وفي هذا المقال سأنقل لكم تجربتي كاملة.
طفولة مليئة بالأشياء
لم تكن طفولتي تلك الطفولة العادية المليئة بالمرح والأصدقاء، كانت هادئة من الخارج، مليئة بالأشياء من الداخل. كانت بداية كل شيء حين بدأت أصادق أطفالًا في نفس عمري تبين لاحقًا أن لا وجود لهم فعليًا. تطور الأمر من صحبة لطيفة إلي غياهب مخيفة. فمن رؤيتي لبعض الأطفال إلى رؤيتي كبارًا مرعبين، فهناك الرجل ذو الجلد الذائب، العجوز ذات الخصلات الذهبية، المهرج (والذي يتعدى رعب it )، الرجل الذي لم يملك وجهًا قط، والكثير من أشياء الطفولة المرعبة الناتجة من هذا الخيال الشاسع. لم أكن اجتماعية بالقدر الكافي لحياة طفل في هذا السن، لكنهم كانوا يغنونني عن المجتمع أجمع. كانت طفولة مليئة بالرعب والأفكار غير المنطقية التي ألفتها نتاج خيالي الذي جاب واقعي، لكن هذا جعل مني شخصًا متزنًا، لا يخاف أي شيء ولا ترمش جفونه لأي شيء.
وهذا ما جعلني قادرة على الصمود أمام كل الأفكار والهلاوس حتى عمرٍ ليس بقليل. بالإضافة لطبيعتي الهادئة، لم أكن أشتكي قط مما يحيط بي من رعب دائم، مما سمم أفكاري في سن صغير نحو الأفكار الانتحارية والمعتقدات الغريبة من نوعها، وجعلني دائمًا أعاني من أمراض بدنية يجهل الأطباء مصدرها.
إنذار
اضطراب الفصام العاطفي لا يتمحور حول الهلوسات فقط، لكنه ثنائي القطب، يحمل معه القدر الكافي من الاكتئاب، سرطان الروح. أسوء الأمراض التي قد تعاني منها، فهو لا يتمكن من عضو ما، إنه يتمكن من البدن بأكمله. فكما وصفه طبيب النفس الألماني إميل كريبلن:
إنه يشعر بالعزلة والتعاسة، وكأنه مخلوق حرم من القدرة، يعيش في حالة استسلام كامل تغلق في وجهه كل أبواب الأمل، فيعيش أيامه بصعوبة، يرفض كل شيء، كل ما حوله مصدر للقلق، فيرى في كل ما حوله الجانب المظلم والمتاعب التي قد تنشأ. أما الأشخاص المحيطون به فجميعهم مخيبون للآمال، ويعاني من صدماته في علاقته بهم واحدة تلو الأخرى، ويحاصره شعور بالتفاهة والضآلة فتتسرب إلى رأسه فكرة التخلص من حياته دون أن يعلم السبب، غير أن كل ما يعلمه أن شيئا ما قد انكسر داخله.
ويتبع ذلك محاولاتي الانتحار، ومحاولاتي تخفيف ألمي المجهول المصدر بألم جسدي أقوى. ومحاولاتي الهروب من بؤرة الأشياء التي أراها لا تحمل معنى في الحياة.
اضطراب الفصام العاطفي القاتل الصامت
في الحقيقة، كنت أكابر نفسي، فمع تقدمي في السن كان الأمر يزداد سوءًا، وكانت متاعب الحياة تزيد ضغطًا فوق كل هذا العبث. لكني نظرت لنفسي أني أقوى من أن أطلب المساعدة من أحدهم، أقوى من أن أبكي وأصرخ فينجدني أحدهم، فاستمرت معاناتي حتى شهر رمضان 2018. وفيه كان أول إنذار بأن عقلي لم يعد يحتمل كل هذه الأشياء. في اليوم الأول رأيت أبي يحمل مسدسًا، ودونًا عن ذلك كان توم كروز في الفيلم علي التلفاز يحمل كوب عصير. إنه لشيء كوميدي لكنه في الحقيقة يحمل معنى كارثيًا:
أنا لم أعد المتحكم في هذا العقل الهائج
تبع ذلك سلسلة من الهلوسات التي كانت تطيح بي أرضًا، وكان الاكتئاب يأكل في بدني وعقلي كل ما تبقى لي منه.
الأمل
لم أطلب المساعدة حتى بدأت حياتي الجامعية، وانتقلت للمعيشة مع طالبات في سكن في مدينة السادس من أكتوبر، حينها بدأت ألا أكون المتحكم في تصرفاتي اليومية حتى. أصبحت الهلاوس أكثر واقعية وأكثر تمكنًا مني. ومن أعراض الذهان كالسير نائمًا وفعل أشياء ومن ثم أري هلوسةً كأن أحدًا آخر فعل ما فعلت وحتى أني كنت أفقد الوعي وأنفي ينزف صارخًا طالبًا بعضًا من المساعدة. توقفت عن الذهاب للجامعة، لم أعد أكتب القصص والمقالات، لم أعد أهتم للموسيقى التي لطالما أحببتها، امتنعت عن القراءة والرسم، أصبحت أخاف الكلام مع أحدهم خيفة أن أقول ما لا يجب قوله أو أفعل ما لا يجب فعله. كانت الوساوس الانتحارية تكاد تقتلني وحدها، أفقت في أحد الأيام أحاول قطع يدي دون أي وعي. في يوم آخر كنت أجهل ماهية ترتيب الأحداث في يومي، كنت أجهل حاضري. كنت خطرًا علي نفسي بكل الأشكال.
وفي تلك الفترة، وبعد صراع طويل، زرت طبيبتي النفسية لأول مرة. لتخبرني أنه قد طال الوقت وأننا سنحارب من أجل إزالة أثر عمرٍ يقرب عمري أكمله. لكن هنا كان الأمل! كان العلاج مرهقًا بالفعل، وانتقالي بين الأدوية من واحد إلى آخر للوصول إلى نتيجة مُرضية، التعرض لكل الآثار الجانبية وكل أعراض الانسحاب، أصبح الأمر أشبه بالسيرك في عقلي.
لكن دعنا ننتقل للجانب المشرق، لم تعد الهلوسات تعيقني عن الحياة، مازلت أعاني من نوبات الاكتئاب نتيجة للضغط بالطبع، لكن ومن يهتم، أنا واعية لحاضري بالكامل!
ختامًا
إن كنت تعاني من أي أعراض لأي مرض نفسي لا تكن مثلي، لا تكابر مرضك، واطلب المساعدة، فالمساعدة متاحة دائمًا، حدث أهلك عن الأمر ربما يتفهمون كما تفهم أهلي، حتى وإن لم يفعلوا، اتجه للأطباء النفسيين، اطلب من أصدقائك المساعدة، فلن ينجو أحد وحده.
أما إن كنت تعرف أحدًا يعاني من أي مرض نفسي فرجاءً، لا تكن حملًا جديدًا علي عاتقه، كن سندًا وونسًا له، وساعده في تلقي العلاج المناسب.
I’m a survivor
وأفتخر بكوني مررت بتلك التجربة ومازلت أحارب في الخروج منها، أعلم أني لن أكون يومًا شخصًا طبيعيًا يحيا حياة طبيعية مائة في المائة، فالاكتئاب الناتج عن كل تلك السنين صعبُ المِراس، لكنني على الأقل أقاتل لأجل حياتي.