دليلك لكتب فيليب روث

بداياته.. أعظم أعماله.. وأيامه الأخيرة

انتهت مسيرة فيليب روث المهنية قبل ست سنوات من وفاته عام 2018، حيث كان قد أعلن عن اعتزاله الكتابة. ولم يكن تصريحه وقتها لمجرد الدعاية فلم يكن يومًا ذلك النوع من الكتّاب الذي يدّعي أن الكتابة عملية لاشعورية بالنسبة له.

دائمًا ما أشار فيليب روث في لقاءاته ومقالاته لحقيقة أن الكتابة بالنسبة له عمل جدي يتطلب العزيمة والجهد، بما في ذلك العمل لست ساعات يوميًا على مكتبه، نتيجةً لقرار واعِِ اتخذه بهدف ترتيب حياته بطريقة تؤهله ليكون كاتبًا. وعندما انتقل أخيرًا إلى مدينة مانهاتن واشترى جهاز آيفون كان قد اتخذ قرار الاعتزال نهائيًا.
مما يعني أننا حظينا بوقت كافِِ لدراسة أعماله وإعادة قراءة كتبه ككاتب حي. قبل أن نعاملها كإرث لكاتب راحل.

لم يكن لأحد من الروائيين الأمريكيين حياة شبيهة بتلك التي عاشها فيليب روث؛ فهو الفتى الشقي الذي استقر في منتصف العمر عاملًا على تجاربه واختباراته الشائكة، ثم بدأ دون سابق إنذار بالعمل على روائع تقشعر لها الأبدان، حتى لكأنها تجعل كل ما قبلها يبدو كمجرد إحماء بانتظار ظهورها.
ترتب كتب فيليب روث نفسها ضمت أربعة أقسام تتضمن عقد من الزمن لإيجاد نبرته الخاصة، وعقدين من التجارب والأخطاء، ومرحلة من الكتابات الفخمة، وأخيرًا ما كتبه في خريف العمر.

بداية فيليب روث

حملت أولى رواياته عنوان “إلى اللقاء كولومبوس”، والتي تمتعت بصفات الرواية الكلاسيكية الأولى. تحكي الرواية قصة شاب يقع في حب امرأة لا يستطيع رؤيتها بوضوح ذات صيف، وتتحدث عن نوعين من العوائل اليهودية وقتها. تلك التي تنتمي للطبقة العليا والأُخرى من الانتهازيين في نضالهم. وكيف ينظر النوعان لبعضهما بدونية. إنها قصة مثالية من نوعها، حتى لأن قلة من الكتاب الجادين يظهرون المزايا التي أظهرها في أول أعماله. كما أن سخريته الطاغية اختفت اليوم وأصبحت جزءًا من الأنثروبولوجيا.

بعد ذلك نشر روايتين مأساويتان ذوين حبكتين شائكتين. “التخلي” و”عندما كنت بخير”، ولكل منهما جمهور معين. لكن عبر قراءة مؤلفات فيليب روث التالية تبدو نبرة الكتابين بالمقارنة، متكلفة ومصطنعة. وقد تبدو من نوعية النجاحات المعتمدة على الفضائح التي جعلت منه أشهر كاتب في عصره. حيث الأمر برمته عبارة عن بيان يلقيه شاب يهودي عصابي على محلل صامت. بيان متفرد وحيّ، لدرجة أنه سيشعرك بالطاقة المكبوتة لدى جيل من المراهقين تتفجر على الصفحات.

إعلان

ما لا تستطيع الشعور به في هذا الكتاب هي الدهشة والفكاهة. فمشكلة هذه الرواية تكمن في نجاحها الكبير. ربما أكبر من اللازم فقد أعادت صناعة الثقافة حولها. لتبدو اليوم الفكاهة الفظة – كالنكات حول الاستمناء وكل ما يعرضه فيلم “الفطيرة الأمريكية”- أميركية جدٌا.
ما يتبقى بعد زوال الكوميديا هو الحزن المألوف للشخصية، والكثير من الحب الذي لا يقود إلا لمزيد من الحزن، والصوت المتغطرس الذي يستمر بالظهور في أعماله اللاحقة.

فترة التجارب والسير الذاتية وما وراء الخيال

جرب فيليب روث لاحقًا عدة أشياء؛ فقد نشر روايتين ساخرتين هما:
“عصابتنا” و”الرواية الأمريكية العظيمة”. تتحدث الأولى عن حكومة الرئيس نيكسون. والثانية عن دوري البيسبول الشيوعي، وقدم في كل منهما شخصية بديلة عن ذاته هما ديفيد كيبيث (بروفيسور الأدب الشبق) ونايثان زوكيرمان (الروائي متقد الذهن). تثبت هاتان الشخصيتان أهميتهما لاحقًا خلال ثلاثة عقود من العمل تقريبًا. حيث يصبح ديفيد متنفسًا لأكثر كتاباته شهوانية. ويسمح له نايثان بتحويل تجاربه إلى كتب اخرى.

ساعدت الروايتان التي ظهر بها ديفيد في تلك الفترة على بناء سمعة فيليب روث كشاعر مفضل لموضوع الشرهة الذكورية اللامقيدة.
في رواية “الثدي” يتحول ديفيد الشبيه بكافكا لغدة عملاقة. إنها رواية من السخف حتى أن من الصعب التعامل معها كعمل جاد. أما في رواية “بروفيسور الرغبة” فتظهر نوع من التعاليم الجنسانية. وهذه الرواية هي إحدى أكثر أعماله إثارةً للجدل. فهي مكتوبة بذكاء أدبي لكنها مقززة وتنقد الموضوع عن كثب كأغلب رواياته.

في السلسلة الروائية “زوكيرمان باوند” المتكونة من ثلاث روايات قصيرة وختامية أقصر، يتحول فيليب روث من مجرد مبتدئ لكاتب ضمن الأعلى مبيعًا متفوقًا على الكثير من المنافسين بخياله الخصب.
رواية “الكاتب الشبح” مثالية ببساطة؛ فهي تعيدنا لمعاناة بورتوني، وتمنح الحرية من وجهة النظر التاريخية للهولوكوست لخلق فانتازيا تتضمن لقاء آن فرانك حية ترزق في مدينة نيو-إنغلاند.
“درس التشريح” تبدو كنكتة أكثر مما هي رواية. نكتة تافهة لكنها مضحكة. في عملية انتقام من انتقاد سيء. وهو انتقاد حقيقي كتبه أرفينغ هوي وتمكن روث من استعماله لكتابة رواية كاملة.
هذه الكتب تسبق ظهور الأسلوب الجاد الذي سنراه لاحقًا في أعماله. وليس من المصادفة أن يكتب عن نايثان عندما أراد أن يعادي شخصيات معروفة تاريخيًا. فقد كان نايثان صوت يستعمله ليقدم الفرد البطولي والعالم المستنفد من حوله.

بعد أن عرض أجزاء من حياته في أعماله. نزع القناع نهائيًا وألف كتبًا شخصية تحمل اسمه. اثنان منهما هي كتب غير روائية: “الحقائق” وهو سيرة ذاتية باردة تركز على الحقائق التي استوحى منها أعماله، و”الإرث” وهي مذكرات مفصلة عن مرض والده وموته. أما الكتاب الثالث “خداع” فهي رواية رائعة ومثيرة عن العلاقات خارج الزواج.

خلال هذه السنوات تلاعب فيليب روث بالحدود بين الخيال والحقيقة. لكن اهتمامه -بعكس الكثير من الأكاديميين والروائيين- ينصبّ على التحليل النفسي أكثر من عرض التجارب. حيث إن كل زاوية جديدة وكل شخصية تبدو كمحاولة لفهم خبايا واقعه على الصفحات.
وقد استمر بفعل ذلك في “الحياة العكسية” و”العملية شيلوك”. وهما روايتين معقدتين حول الكتابة والأكاذيب. وتجمع بين الألاعيب الخيالية والاستخدام الغزير لمواهبه الأساسية. تحديدًا استدعاء الحدة العاطفية لجعل القصة مرحة ومعدية. بالنتيجة تتفاقم الحيل بدل أن تختفي ضمن طاقة الكتاب.

الفترة العظيمة

أصبح فيليب روث من أكثر الكتّاب نجاحًا في أميركا بعد “العملية شيلوك”. لكننا سندرك لاحقًا أنه كان قد بدأ لتوه. كان وقتها يعيش وحيدًا في كونتيكيت. يمارس السباحة في الصباح، ويقرأ في المساء، ويقضي ست ساعات يوميًا في العمل على مكتب في مشغل خلف منزله.
بدأ العمل على “مسرح ساباث” وبدأت بذلك فترة طويلة من القوة المذهلة. في هذه القصة يعمل ميكي ساباث المنحرف كمحرك دمى. وتلك هي اللحظة التي توقف بها عن الاختباء في الزوايا وتوجه نحو الحطام. كما أنها اللحظة التي تبنى فيها أحد أهم مواضيعه. وهي العلاقة بين الشهوة والأخلاق، ذلك أن ميكي يعيش في يأس تام لكن تأثير الفن بالكاتب يبدو جليًا وممتعًا.

في نهاية القصة تتفجر شخصية الكاتب ونستطيع أن نسمع صوت الدكتور سبيلغوغل من رواية “بورتنوي” يقول: “الآن ربما تستطيع أن تبدأ”.
ما جاء بعد ذلك يمثل بداية جديدة. يعود نايثنا للظهور في “الريفي الأمريكي”. إضافةً للوعي الذاتي الذي جمعه عبر العقود المنصرمة. خصوصًا وأنها رواية عن الطبيعة. حيث تبدأ بوجود نايثان في حفل لم شمل لمدرسته الثانوية. حين يتذكر حياة صديق الطفولة سيمور ليفوف الملقب بالفتى الذهبي. ويبدأ بإعادة كتابة سيمور. معلمًا إيّانا من خلال قصته بالفراغ المهيب والسعادة العائلية وصناعة القفازات في مدينة نيوجرسي وما يستطيع التاريخ فعله للأشخاص الأبرياء.

ينتقل القارئ بخفة بين وعي نايثان والقصة. ويرى العلاقة بين الكِبَر بالسن وتذكر أيام الشباب. وكيف نوازن العلاقة بين الحياة والخيال. وهذه الرواية من أكثر أعمال فيليب روث استيعابًا.

بدأ روث سلسلة من الكتب التي تدور في القرن العشرين من تاريخ أميركا. تركز على النظر للشخصيات عن بعد بدل التركيز على التفاصيل. فرواية “الوصمة البشرية” مليئةٌ بالتعاطف الإنساني والصيغ الجميلة. حتى وإن كانت تدور حول الدقة السياسية في عام 2000.
“المؤامرة ضد أميركا” عمل عاجل للتاريخ البديل. حيث يقترح وجود رئيس مساند للنازية. ويوفر فرصة للتحقيق بطفولة الكاتب نفسه. الكتاب الوحيد الذي لم يكن ناجحًا في تلك الفترة هو “تزوجت شيوعيًا”. والذي خذلته المرارة التي عادةً ما تفسد الكتابة عن موضوع الزواج السيء.
ما تتشابه به كل هذه الكتب هو الصوت الجاد لكاتبها. وتركيب جمله الممتع. والسيطرة على التأثير الذي تتركه. حتى لتشعر بأنه يمسك بك من ياقتك ويصرخ في وجهك أحيانًا. وأحيانًا أخرى يهمس في أذنك بينما يمسد ذراعك. فهو لا يهاب إزعاجك لكنه لا يتراجع عن الموضوع الرئيسي. في أعظم كتاباته يوسع فيليب روث قدرته على التواصل مع كل مكان وكل شخصية. ويعيد تخيل العالم كمجادلة حادة. ويسمح لكل جانب بطرح وجهة نظره.

الأعمال الأخيرة

مسلحًا بنبرته وعدد من التقنيات المعروفة وحس بطاقته التي لا تكل، يبدأ فيليب روث في السبعينيات من عمره سلسلةً من الروايات القصيرة، حول مواضيع التقدم بالسن والموت.
من المستحيل ألا نفكر بهذه المواضيع كنهاية جولة لفنان في قمة نجاحه يوجه قواه نحو تراجعه الجسدي. يواجه ماضيه بظهور ديفيد الذي يدخل في نهاية عمره علاقة ملحّة مع طالبة لديه في رواية “حيوان يموت”، والتي تركز على الشهوة الذكورية. فيها يعاني ديفيد للسطيرة على حياته الجنسية ووجوده بشكل عام. أما نايثان فيظهر في “خروج الشبح” ليوضح مرة أخرى نزعة الكاتب للعاطفة السياسية المبتذلة. وهي رواية باهتة وغير هادفة.
أشار فيليب روث لرواياته القصيرة الأربعة كسلسلة تحمل عنوان “العدو اللدود”. رغم أنها لا تشترك إلا بنوع من الحنين للماضي. حيث تركز حياة كل شخصية عبر موشور على شيخوخة الكاتب. بالتركيز على التراجع الجسدي غير المألوف. لكن أغلب التفاصيل أصبحت مألوفةً عبر أعماله السابقة. أي الزواج التعيس والهستيريا والزواج السعيد الذي تحطمه العلاقات والوحدة في الشيخوخة والتوق للقوة.
في رواية “سخط” يزور مجددًا حرب شبابه ضد الكبت الجنسي. والتي تبدو كماكينة لا تكل عن العمل. لا يعيقها سوى نمطية المثلي المحروم. أما في “العدو اللدود” فإنه يتحدث عن حرب أخرى من الماضي تحديدًا وباء شلل الأطفال الذي ضرب مدينة نيوارك عام 1944. كلها روابط لبدايات جعلته مهتمًا بالموت لاحقًا.

في آخر كتبه (فيما عدا “الإذلال” وهي فانتازيا جنسية غير مكتملة من الأجدر نسيانها) يقدم روث قصص بها من الخبرة الكثير. الارتباطات الخالية من الحنين للماضي والمحادثة المتميز بشكل غرائبي (فعادة ما كانت محادثاته سابقًا رسميةً أكثر من حبكة القصة) والوالد المتمسك بوظيفة عفا عليها الزمن. كذلك يقدم الصراع واضحًا للعيان في جميع أعماله تقريبًا.
بطل روايات فيليب روث هو الوعي الفردي دائمًا. والرغبة بالعيش والكتابة والوجود. تختلف الشخصية لكن الحرب دائمًا ما تكون حاضرة ولا أمل منها. خصوصًا في الكتب الأخيرة. مع ذلك يستمر البطل في الصراع كل مرة. وهذا هو السبب وراء الظل الذي يربض قريبًا من كتاباته مشيرًا لأنانيته. إذا فشلت كتبه فيعود السبب لكونه أسير نفسه الغاضبة وكل ما يحيط به يبدو كعائق في طريقه.

يصف البعض كتاباته بالتركيز على الأنا الذكورية، والتفاخر والشكوى واللغو الكثير. رغم أنني استطيع فهم وجهة النظر هذه، إلا أنني أعرف الكثير من القرّاء من الرجال والنساء ممن يستلهمون من أعماله قوةً للصراع ضد كل ما يريد إسكاتهم. وربما هذا هو سبب نجاحه بين الكتاب تحديدًا وليس لمستواه الفني.

الكتابة معاناة ضد الحدود التي تقيّدك وضد كل شيء يعادي ظهور حقيقتك. لم يقدم فيليب روث أي وجهة نظر في هذا السياق. لكنه تحول إلى أيقونة في أعماله.

قد يعجبك أيضًا: خمس روايات من حول العالم ذات أفكار غير اعتيادية

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

إعداد: دعاء كريم

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

تدقيق علمي: رولا عادل

اترك تعليقا