الأنوميا الاجتماعية: متلازمة المجتمعات القابلة للسقوط
تقف المجتمعات دومًا على ساقٍ واحدة فلا تطلب منها الجري أو الرقص، فالمجتمعات التي تميلُ عن نقطةِ توازنها ستسقط، وستظلُ ّ تبحثُ عن ثوابت حقيقية تستند إليها لتقف على أرضيةٍ صلبة من جديد. الساق المبتورة للمجتمعات والتي تجعلها أكثر عرضةً للسقوط، قد نعتبرها نحن مرضًا أو عيبًا خلقيًا، لكن علماء علم الاجتماع يعتبرونها ظاهرة اجتماعية، ويبحثون عن نقطة التحول التي بدأ معها كل شيء. الأنوميا الاجتماعية أو فقدان المعيارية هي حالة اضطراب في تماسك المجتمع، تترافق مع سقوط ممنهج وشامل للقيم المحمودة، مما يخلق مناخاً عاماً من العبثية وفقدان البوصلة الأخلاقية.
الأنوميا الاجتماعية بين المفهوم والنتائج:
أوّل من استخدم مصطلح الأنوميا الاجتماعية هو عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم، والأنوميا كمصطلح مشتق من الكلمة اليونانية «Anomie»، وهذه الكلمة تعبر في مضمونها عن اللامعيارية واللاقانون واللانظام وفقدان المعايير والضوابط، فهي الصورة الحقيقية للمجتمع الذي يفشل أن يكون رقيباً على أفراده، وضميراً جمعيًا ضابطًا لتصرّفاتهم، فيعجز عن وضع أفرداه في الأماكن الصحيحة لهم. الضغط السوي الذي يمارسه المجتمع لردع أبناءه عن أي سلوك لا أخلاقيّ، هو ما يبقي هذا المجتمع متلاحمًا ككتلة صلبة قادرة على النهوض والنماء.
إنّ الانحراف السلوكي عن القيم الأخلاقية يُنتِج سلوكيات كانت سابقًا مرفوضة اجتماعيً بل وقد يجرمها القانون، وعندما لا تعود هذه السلوكيات مستهجنة من القسم الغالب في المجتمع يبدأ فقدان المعايير وظاهرة الأنوميا. فمثلاً ظاهرة الغش في الامتحانات لم تعد مستهجنة في مجتمعاتنا كالسابق، وتحولت من ظاهرة سلبية إلى ظاهرة تصفّق لها الكثير من الأيدي وتتشدّق بها الألسن. من الطبيعي أن يختلس الطالب الكسول نظرةً عابرةً إلى ورقة زميله باحثاً عن كلمةٍ تفتح أبواب عقله، ولكن من غير الطبيعي أن يصبح الغش في الامتحانات أسلوب حياة، يتشارك في الإعداد له الطالب وذويّه و وكوادر تعليمية بطريقة ترتقي إلى مستوى الجريمة المنظمة. وأن يتفاخر الطالب وأسرته بتحايلهم على النظام التعليمي دون خوفٍ من نظرة المجتمع لهم، والذي قد يثني على فطنتهم مع كل أسف. إن الأنوميا الاجتماعية _وما يرافقها من فقدان المعايير_ ترتكب أشنع المجازر بحق الصواب والخطأ، لتصبح رمزيات عابرة نبرر على أشلاءها كل ما يتفق مع مصالحنا.
ويجب التنويه أنّ كل المجتمعات تمتلك معدلاً للجريمة، فلا مدن فاضلة على هذا الكوكب، الفارق الجوهري هو طريقة تعامل هذا المجتمع مع الجريمة. الأنوميا الاجتماعية تعني أن تحظى الجريمة بالقبول والتغاضي وتحين الفرص، وأن يكون الفرق بين المجرم و المواطن العادي هو توافر الفرصة فقط لا غير، وأن تصبح رمزيات الصواب والخطأ قوالب بالية قليلة المرونة. في بلد كإيطاليا مثلًا من الطبيعي أن تتعرّض للسرقة، حتى قيل أن تعرّضك للنشل هو جزء من جولتك السياحية على المعالم الإيطالية، أي جزء من التجربة الإيطالية الحقيقية.
جذور الأنوميا الاجتماعية من دوركايم وميرتون إلى الحداثة:
الحقيقة أنّ علماء الاجتماع لا يشبهوننا أبدًا، بينما يشغلنا وقوع الحدث وما يطفو حوله من نتائج على السطح، يفكّكون البناء الاجتماعي ليصلوا إلى نقطة بداية بروز الظاهرة. ومن الجدير بالذكر أنّ دوركايم يعتبر الأب المؤسّس لعلم الاجتماع بينما ميرتون قد جاء بعده ويعتبر مؤسّس علم الاجتماع الحديث، وكذلك فدوركايم درس المجتمع الفرنسي في الوقت الذي درس ميرتون درس المجتمع الأميركي.
إعلان
أنوميا إميل دوركايم الأب الروحي لعلم الاجتماع
لقد أدخل دوركايم إلى علم الاجتماع مصطلحًا بديعًا آخر هو “الضمير الجمعيّ”، وهو ما عرّفه دوركايم بمجموعة من المعتقدات و العواطف العامة بين أعضاء المجتمع، والتي تكون نسقاً خاصًا له حضور متميّز يدوم عبر الزمن ويعمل على توحيد الأجيال.
عندما يضعف الضمير الجمعي وتقلّ سلطتهُ على أبناء المجتمع تاركاً زمام الأمور للضمير الفردي والمنفعة الذاتية، عندها سيتفسخ المجتمع تحت وطأة الأنوميا الاجتماعية وعدم وجود المعايير والضوابط.
في نظر دوركايم فإنّ الأنوميا ظهرت بالتزامن مع الثورة الصناعية، حيث أدى تقسيم العمل إلى تعقيد المجتمع البسيط، وحلول الآلة مكان الإنسان أدى إلى اختلاف العلاقة بين العامل ورب العامل. المجتمعات البسيطة لم تكن تهتم بالإنتاجية، تطلعاتهم البسيطة ارتبطت بتأمين قوت اليوم حتى لو كان عن طريق الصيد. تقسيم العمل وتوزيع المهام بين الناس غيّر مفهوم الكتلة الواحدة للمجتمع البسيط ذو المهام المحددة، وبدأ الإنسان يعي الأهمية الذاتية لنفسه ويبحث عن مكاسب جديدة لها.
روبرت كيه مرتون والوسيلة التي أسقطت الغاية والمجتمع
روبرت كيه مرتون عالم اجتماع أميركي وبروفيسور محاضر في العديد من جامعاتها، استخدم الأنوميا الاجتماعية لتفسير ما أطلق عليه “السلوك الانحرافي”، والسلوك الانحرافي حسب ميرتون هو أيّ سلوك مخالف للبيئة الحاضنة حتى لو كان سلوكًا غير إجراميًا وغير منافٍ للأخلاق ولكنه مرفوض اجتماعيًا. وبحسب ميرتون فحتى الثورات الشّعبية تعتبر سلوكًا انحرافيًا ضمن المجتمع، ولا يتمّ تصنيفها إيجابيًا إلا في حال نجاحها.
اعتبر روبرت ميرتون أنّ مفهوم الحلم الأميركي وما صاحبه من افتراضات لنوعية الحياة التي يجب أن يحققها المواطن الأميركي، قد جعله مطالب بحياة ذات درجة رفاهية عالية، فعدّ الولايات المتحدة من بين البلدان التي تولي أهمية مبالغة للنجاح المادي، بغض النظر عن الوسائل المتبعة لبلوغ هذا النجاح، فالمكاسب المادية تتطغى وتبرر أي تجاوزات أخلاقية في سبيلها، والثقافة السائدة ضمن المجتمع تفرض على أفراده أهدافًا مطلقة يجب أن يسعي الجميع لإدراكها مهما كانت الوسائل. السعادة التامة لدى الأميركي تتمثل بجمع ما يكفي من المال لامتلاك بيت في الضواحي مع أكثر من سيارة وكلب، تنميط الحلم ساهم بشكل كبير في خلق حالة فقدان المعايير.
النسخة المحدّثة من الأنوميا
بدأت الأنوميا الاجتماعية في الظهور_كما أسلفنا_ مع بداية تعقيد المجتمع، وتحوله إلى مجتمع استهلاكي ومادي تتغلّب فيه الروح الفردية على الجماعة. والحقيقة أنّ العالم هرول وجرى وتدافع في كل خطواته نحو تعزيز الفردية والاستهلاكية وربط النجاح بالمكاسب المادية، لقد جرى تسليع كل شيء، حتى أصبح أفراد المجتمع يشترون الأمان كسلعة في أكثر المجتمعات نمواً اقتصادياً. نتابع إعلانات المجمعات السكنية التي انتشرت حتى في بعض الدول العربية، تقدّم الرفاهية و الفردية مع وعود بالأمان من خلال أسوار عالية تفصلها عن باقي المدينة، حتى تكاد تكون في عزلة عن الشارع المجاور، الدخول المرتبط بالبصمة من أبواب عملاقة، يصطف رجال الحراسة على جانبيها بزيّهم الموحد، المقابلات التي تجرى للملاك لتحديد مؤهلاتهم المادية، العولمة التي جعلت الجميع يرغب بعيش الحلم الأمريكي حتى لو كان على غير رقعةٍ جغرافية، متلازمة منزل و سيارات وكلب أصبحت داءً عالمياً.
إنّ المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيى العقل ولا تميت القلب، تنمى وجودنا المادى ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث.
عبد الوهاب المسيري, رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر
العولمة بما قفزت فوقه من حدود وجغرافيا وجهت ضربة قاسمة للضمير الجمعي للمجتمعات، وأخلت عامدةً بهويتها الجامعة وفروقاتها الطبيعية، وعملت عن طريق منابرها الإعلامية على جعل كل شيء استهلاكي قابل للبيع والشراء، حتى أصبحت شريحتها المستهدفة تطال العالم ككلّ. فكان من الطبيعي أن تفقد المجتمعات معاييرها وقواعدها و ضوابطها وقدرتها على تقويم سلوك أفرادها. وأصبحت الأنوميا هي الحالة العامة والتي قد نحسبها لشيوعها حالة طبيعية مرتبطة بتطوّر المجتمع، ضمن السياق ومع فقدان المعايير أصبح من الصعب أن نميز بين الظاهرة الإيجابية والسلبية، ومع خبو أضواء الصواب والخطأ فقد المجتمع بوصلته وأثره الإيجابي، فإذا كانت النجاة _كما أقنعونا_ فردية، يبدو أنّ السقوط _إن اكتمل السياق_ سيكون جماعيًا.
إعلان