لماذا لا يقبل الناس في عالمنا العربي نظرية التطور؟
يقف الشعر على مؤخرة رقبتي عندما أقترب من هذا النقاش، بالرغم من استمتاعي بهذا النوع من النقاشات إلا أن كمية المغالطات التي يملكها الناس حول هذ الموضوع بالذات تجعلني لا أدرى ما هو الأسوء الجهل الواضح الذي يظهر في الأسئلة التي تحتوي على مفاهيم خاطئة، أو في الإجابات الضعيفة من قبل الأشخاص العاديين الذين يظنون أنهم يفهمون علم الأحياء التطوري، لكن من الواضح أنهم لا يفهمون ذلك.
نعم علم الأحياء التطوري أو “نظرية التطور” هو أحد تلك الموضوعات في العلوم التي يعتقد الناس أنهم أكثر دراية بها مما هم عليه في الواقع.
بسبب نشأتنا الدينية وعندما كنت أطفالاً حرص المجتمع على جعل مصدرنا لتفسير الظواهر من حولنا هو الدين، ولم يعط العلم نصيبه، فأنا اذكر تماما أن معلمونا بشكل متعمد أو غير متعمد قد سخروا مراراً من فكرة السفر إلى الفضاء والهبوط على القمر وحتى وجود الديناصورات وكروية الأرض ووصفوها على أنها حكايات خرافية وأوقفوا الحديث عنها.
هذه كانت الحلقة الأولى في سلسلة من الصراعات التي أبعدتني عن ذلك العالم لتساعد في تشكيل قناعتي لاحقا بأن العلم هو أداتنا الفعالة الوحيدة لاستخراج شيء مثل الحقيقة الموضوعية من عالم فوضوي.
قد تكون جائزة نوبل الأخيرة التي ذهبت للعالم سفانتي بابو من أكثر الأحداث المشحونة على مواقع التواصل وقد جرى تداولها في نطاق عاطفي وديني بعيداً عن طبيعتها العلمية تماما، ولم لمن لم يواكب الأخبار ذهبت جائزة نوبل هذه السنة في “علم وظائف الأعضاء أو الطب”، إلى السويدي سفانتي بابو، لأبحاثه في مجال التطور البشري، وعن انجازه فهو كما قالت لجنة الجائزة حقق المهمة التي تبدو مستحيلة، المتمثلة في فك الشفرة الجينية لأحد أقاربنا البشريين المنقرضين، إنسان نياندرتال أو الإنسان البدائي.
وباختصار ما فعله سفانتي هو تحليل تسلسل جين الإنسان نياندرتال ، حيث استطاع مع فريقه اختراع طريقة لعزل وتحليل الحمض النووي من بقايا العظام القديمة، ليكتشف الاختلافات الوراثية بين البشر المعاصرين وبين أشباه المنقرضين أي بين انسان ـ النياندرتال ـ وإنسان الـ ـ سابينس الذي هو نحن, حيث وجد أن نسبة التشابه في DNA بيننا وبينه هي 99.7% وهذا الفرق ب 0.03% لم يكن نسبة كافية لمنع التزاوج بين النوعين – النوع الثاني هو الانسان الحديث الذي هاجر من افريقيا وتزواج من الانسان الأول (او الانسان البدائي مع عدم رغبتي بوصفه بالانسان البدائي وافضل وصف الانسان الأول) وربما قد تكون هذه الهجرة هي السبب ايضا بانقراض الانسان الأول حيث اشار بعض الباحثون الى وجود ادله تشير الى وقوع حروب بين النوعين ادت الى انقراض الآخير.
وهذه النسبة في التشابه ليست نسبة كبيرة بالنسبة للعلماء فهي نسبة كافية لوجود العديد من الاختلافات في التكوين والأعضاء ووظائف الأعضاء. فإذا علمت أن التشابه بيننا وبين الشمبانزي كانت لعام 2005 تعتبر 99% ليعاد احتسابها لاحقاً بنسبة من 95-98% ، وقد يصعب تحديد النسبة بشكل صحيح لأن مقارنة كل حرف من الجينوم بحرف آخر على امتداد سلاسل لا متناهية تقريبا من المليارات من النيوكليوتيدات، أمر تحكمه العديد من الأساليب والمناهج والتكنولوجيات المختلفة.
- لكن السؤال الذي أود التوجه له هو
لماذا لا يقبل الناس في عالمنا العربي نظرية التطور؟
قبل الاجابة عن هذا السؤال أود أن اشير ان رفض هذه النظرية ليس خاصا بالمجتمعات الإسلامية فقط وإن كان الدين هو أحد عوامل الرفض لهذه النظرية، إذ لا يقبل حوالي نصف البالغين الأمريكيين التطور، وهو رقم ظل ثابتًا تقريبًا، وفقًا لاستطلاعات الرأي، على مدار العقود العديدة الماضية بالرغم من ازدياد الادلة على التطور, وتختلف هذه النسبة بشكل واضح حسب الموقع الجغرافي لنفس اتباع الدين الواحد فمثلاً في ألبانيا تصل نسبة المسلمون المؤمنون بالتطور الى 62 % بينما في أفغانستان تصل الى 29%, اما في الدول العربية فلا يوجد احصائيات واضحة واجزم انها اقل من ذلك بكثير.
هذا على مستوى العامة اما على مستوى الوسط العلمي فيختلف الأمر تماما فنسبة العلماء الداعمين لنظرية التطور في الولايات المتحدة الأمريكية هي حوالي 99.9% من مجموعهم، بينما يرفض 0.01% من العلماء النظرية وعلى مستوى العالم يقبل كل المجتمع العلمي تقريبًا (حوالي 97%) التطور كالنظرية العلمية الرئيسية المفسرة للتنوع البيولوجي على الأرض.
وبالعودة الى السؤال لماذا لا يقبل الناس نظرية التطور هو سؤال ليس له اجابة بسيطة, بل هلي معقدة وبشكل مدهش, ولا يقتصر عدم القبول الواسع النطاق لنظرية التطور نتيجة للخلاف حول “الدين مقابل العلم”, إن ميولنا الطبيعية تفضل التفسيرات التي تقدم الشعور بالهدف عندما يتعلق الأمر بحياتنا عن التفسيرات العلمية التي قد يربطها البعض بالفوضوية والصدفة التي ليس لها حدود واضحة من اليقين، إضافة لأن الناس يميلون لإطلاق الأحكام اعتمادا على الحدسية بدلا من استخدام أسلوب معرفي أكثر تحليلاً, والأسباب قد تكون اعقد من ذلك ويمكنني ان اصنف هذه الاسباب في عدة فئات ألخصها فيما يلي:
الفهم غير الكافي للنظرية وللأدلة التجريبية
عندما يكون لدى الناس فهم أفضل للموضوعات العلمية، فمن المرجح أن يتقبلوها، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية وعلى العكس من ذلك، عندما لا يفهم الناس المفاهيم العلمية، فمن المرجح أن يرفضوها.
عادةً ما يُساء فهم نظرية التطور إلى كونها تشرح من أين جاءت الحياة وكيف تكونت، إنّما هي في الحقيقة تقدم لنا تفسيرا فقط عن كيفية تنوع الحياة على كوكبنا هذا، أما نشوء الحياة من المادة فهو علم آخر وهو علم النشوء الحيوي أو التولد التلقائي BIOSYNTHESIS, ولك طبعا الحرية في تسميته علم أو خرافة أو غيره وهو يتعارض مع الأديان وعقيدة الخلق بشكل واضح.
الأشخاص الذين يرفضون العلم قد لا يفعلون ذلك ببساطة لأنهم يفتقرون إلى القوة العقلية لفهمه، بل بالعكس اعتقد أنهم يصلون إلى شكوكهم من خلال قوتهم المتطرفة في الإقناع – وهي قدرة عالية لإقناع المرء نفسه بأن الشيء الذي يؤمن به صحيح بشكل منطقي، بالرغم من أن ما يؤمن به قد يكون مجرد موروثات صحت أم بطلت أي كان مصدرها.
ومن أحد أمثلة إساءة فهم النظرية هو السؤال المنتشر في الأوساط الشعبية لمن يملكون مستوى أدنى الى متسوط من الاهتمام في هذه النظرية وهو إذا كان البشر قد تطوروا من القرود، فلماذا لم تتطور قرود اليوم؟ لا أجد في نفسي رغبة في إجابة هذا السؤال بالرغم من بساطته لأن من يراوده هذا السؤال هو في مستوى تعلم أول حرفين من الأبجدية مقارنه بمن يريد فهم نظرية التطور، فليس بإمكانك شرح لماذا “لو حرف شرط غير جازم” لطالب في الصف الأول يتعلم الأبجدية، وليس في ذلك تعال على أحد، هو مجرد اعتقاد بأن أن الأصل يجب أن تملك حد المقبول من المعرفة كي تعرف متى تسأل وإن لم تملك المعرفة فمن الحكمة أن تدرك متى تصمت الى أن تعرف.
الفهم غير الكافي لطبيعة العلم وفلسفته
أستطيع أن ألخص هذه النقطة على ألسن الرافضين بـ “التطور مجرد نظرية” ولكن ما هي النظرية.. ببساطة وبلغتي أعرف النظرية على انها مجموعة من الفرضيات التي تؤازر وتدعم بعضها لتصل الى مستوى الحقيقة، إذن نعم إنها مجرد نظرية ويسميها العلماء “نظرية التطور”، لكن هذا اعترافًا بمكانتها العلمية المقبولة جيدًا فمثلاً يتم استخدام مصطلح “نظرية” بنفس الطريقة التي نشرح بها نظرية الجاذبية، عندما تسقط تفاحة من يدك، فإنها تتجه نحو الأرض. ليس هناك شك في أن التفاحة ستسقط على الأرض مع أن الجاذبية هي أيضاً مجرد نظرية، بنفس الطريقة التي لا يوجد بها شك في أن البكتيريا في اجسامنا المقاومة للمضادات الحيوية ستستمر في التطور إذا لم نحد من استخدامنا العام للمضادات الحيوية
على الرغم من أن الناس يستخدمون “النظرية” في المحادثات اليومية لتعني فرضية ليست بالضرورة فرضية مثبتة، فإن هذا ليس هو الحال من الناحية العلمية، عادةً ما تعني النظرية العلمية تفسيرًا مدعومًا جيدًا لبعض جوانب العالم الطبيعي التي تقع فوق القوانين والاستدلالات والفرضيات المختبرة.
الدين
السؤال المهم هنا هل التطور مفهوم إلحادي؟ وهل يفترض التطور عدم وجود خالق إلهي؟
للأسف يفترض الكثيرون أن النظرية التطورية تعمل على أساس عدم وجود خالق، طبعاً هذا ليس صحيح الى الآن لا توجد بيانات تم إنشاؤها عن طريق الكيمياء أو الأحياء أو علوم الأرض مثل الجيولوجيا وعلم الحفريات أو غيرها من التخصصات الأكاديمية إما تثبت صحة أو بطلان الاستنتاج القائل بوجود خالق إلهي، لأن الأسئلة اللاهوتية والميتافيزيقية والماورائيات هي خارج نطاق العلم, صحيح أن بعض علماء التطور ملحدين، لكن كثيرين آخرين يلتزمون بمعتقداتهم الدينية ويحتفظون بإيمان قوي بالله، وهناك العديد من العلماء المسلمين الذي يدافعون عن هذه النظرية مثل العالمة رنا الدجاني.
إن قبول نظرية التطور هو ليس إنكار لوجود الخالق، نظرية التطور لا تناقش أصل الكون ولا من أين نشأت الحياة، فلا أحد حتى الآن يدرك بدايته، فالبداية هي الله، وبعد البداية، قادت قواعد المنطق والعلم إلى فهم تطور الكون، وما بعده، اذن من المهم توضيح أن التطور ليس نظرية حول أصل الحياة إنها نظرية لشرح كيف تتغير الأنواع بمرور الوقت، وعلى عكس ما يعتقده الكثير من الناس إذا فهمنا التطور فهناك أيضًا تعارض ضئيل بين التطور والأديان.
أما على مستوى الأديان من غير المسلمين فمن خلال بحثي وجدت ان البابا فرانسيس أكد مؤخرًا في أحدث تعليقاته عدم تعارض الدين مع العلم موضحا أن نظريات التطور والانفجار الكبير حقيقية، مؤكدا على أن الله ليس” ساحرا يحمل عصا سحرية في يديه” وما يقوله أراه أمر منطقي تماما فالدين يحتاج إلى العمل البناء مع العلم الصالح والعكس صحيح، ولكني لا أستطيع ان أجزم بموقف الكنيسة اجمالاً وسيكون من غير المناسب ان أستفيض بالتحدث عن الكنيسة لأنني اتحدث عن وسط غير وسطي لا احيط به.
أنا هنا لا أوجه الاتهام لنا نحن المسلمين، سواء اتخذنا موقفاً مخالف او موافق للكنيسة من نظرية التطور و لكني أرى ان موقفنا هو رفض النظرية بالجملة حتى دون الاطلاع عليها، وتركنا مهمة نقدها وتفنيدها لأئمة المساجد إذ يشمر دعاة والوعاظ عن سواعدهم لإبطال هذه النظرية ظناً منهم أنها تهدد أركان الدين, وتصدُّروا للحكم عليها دون خبرة، نظرية التطور تناقش بأدوات علوم الأحياء والخلية والأنثروبولوجيا والجيولوجيا وغيرها، وليس كما ناقشها سلمان جبيلان بمقطعه الشهير وهو يقلد القرد ثم ينتصب واقفاً دلالة على ان التطور يسير بهذه الطريقة, وذلك لأن ميدان الداعية هو تزكية النفس وتهذيب الأخلاق وليس علم البيولوجيا, والأصل أن يتم النقاش عن طريق مجمع علمي بين علماء المسلمين من مؤسسة معترف مثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بالتشارك والتعاون مع عدد منه علماء البيولوجيا وأساتذة الجامعات وغيرهم لتتم دراسة النظرية بتمحيص محايد وحينها قد يتم الوصول الى صيغة تبني ترضي جميع الأطراف, والى متى سنبقي رؤوسنا في التراب خوف من التصدي او التبني للنظريات العلمية المهمة.
أما بالنسبة لي شخصياً فأنا لا أعتقد أن هناك تعارضًا بين إيماني المتحمس في صحة التطور والتزامي العقدي وأنا لا أقترح أن يتم الرد على جميع الأسئلة المتعلقة بأصل الحياة أو حل جميع النزاعات المحتملة في المجتمعات عن طريق العلم، لأنه يزال ما نجهله الكثير والعلم بمستواه الحالي غير قادر على اعطائنا كل الإجابات.
العوامل النفسية المختلفة والعوامل السياسية والاجتماعية
لسوء الحظ، يعتبر التعصب الأعمى شائعًا جدًا في الثقافة البشرية، لقد تم إخبار الكثير من الناس طوال حياتهم أن التطور خطأ، من قبل الوالدين الأخوة والأخوات، المعلمين، الأعلام بأنواعه، وربما جميع البالغين الذين يعرفونهم، ويخبرهم الجميع أن هذا خطأ، إنها كذبة اختلقها الملحدين لخداع المتدينين.
التطور أمر بالغ الأهمية لممارسة العلم وللعلماء ، إلا أنه في الواقع عديم الفائدة نوعًا ما في حياتنا اليومية فنحن يمكننا الحصول على منافع هذه النظرية بشكل جيد دون ان ندرك ذلك حتى, يمكنك استخدام منتجات التطور ، مثل الطب وعلم الوراثة وحتى البترول ، دون أن تعرف ذلك, الأشخاص الذين صنعوا لنا هذه الأشياء وطوروا علومها هم من يعرفون التطور، لكن ليس علينا نحن ذلك, ببساطة لذلك يمكننا الإنكار وحتى محاولة إحداث ثغرة في مزايا العلم دون أن نصطدم في حقيقة أننا ننكر الواقع، وهذا ليس خاص في نظرية التطور بل يمتد الى أمور أخرى مثل تغير المناخ، وحتى أمور ابسط فلا زلنا للآن نتجادل في مدى ضرر التبغ, بمعنى آخر لا علاقة للعلم بالإنكار إلا في حالات نادرة في الغالب الانكار مستمد من أمور مثل أخرى عقدية كالأديان او اجتماعية كالتبعية وعقلية القطيع, وهنا أوضح بأنني لا ألوم ابداً من ينكر النظرية ولكن أوضح أن هذا الإنكار لا يقوم في الغالب على أسس علمية أو حتى فهم كافي للنظرية.
في النهاية…
ستبقى معضلة تقديم نظرية التطور للمجتمعات العربية قائمة، ربّما، ما دام المحافظون بتصدرون المشهد ويقدمون النظرية على أنها تشكل خطراً على المجتمع وعلى أمنه واستقراره، ويتصدون لأي معضلة علمية بإجابات دينية قادرة على اقناع الجمهور في الوقت الحالي.