لاهُوت الهيب هوب
عندما بدأتُ نظم الشِّعْر كان لديَّ اهتمامٌ كبيرٌ ببدء اللُّغَة وبتكوينها، وبشكلٍ كبيرٍ العَلاقة بين الأصوات والكلمات. كانت الموسيقى حيِّزًا مُوازيًا للألم النَّفسيٍّ والانتكاسات والنَّشَوَات والأورجازمات المختلفة؛ فلم يكن يصاحبني سواها رغم كتابتي للشِّعْر وقُربي الشَّديد من الآخر الرمزيِّ لأيِّ إنسانٍ، وهو اللُّغَة التي أعتبرها كيانًا يُمثِّل آخر.
وكانت الثِّقَة في قُدْرَة اللُّغَة -أيًّا كانت- ضعيفةً من شِدَّة السُّلطات الواقعيَّة المُتمثِّلة في السياسيٍّ والدِّينيٍّ وفي أفعالهما وآثارها، لكن بعد ذلك فهمت من خلال الكتابة ومن خلال الاطِّلاع أنَّ اللُّغَة أداةٌ يستطيع أن يحظى بها أيّ شخص، فبالنسبة لي هي أكبر أداة، ليس بحمولتها المعنويَّة والدلاليَّة، بل بقدرتها وبمعرفة كيفيَّة استخدامها.
والموسيقى لُغَةٌ صوتيَّةٌ لكنَّها أنقى اللُّغَات في الإمكان، فعنصرتها غير ممكنةٍ بشكلٍ كبير. وكتربيةٍ للمسموع كنتُ أسمع الكثير من الأنواع وكانت تجذبني أنواعٌ مختلِفةٌ منها الهيب هوب.
الفَلْسَفة والموسيقى
تتداخل كلُّ أنواع الإبْدَاع المختلفة من فَلْسَفةٍ وشِعْرٍ وأدبٍ وموسيقى.. إلخ. لذلك كانت تهتمُّ إحداهما بالأخرى، ولقد كان بعض الفلاسفة موسيقيين أيضًا، واهتمَّ بعض الفلاسفة بالموسيقى تحت مفهوم فَلْسَفة الموسيقى.
فلاديمير يانكلفيتش -وهو فيلسوفٌ روسيٌّ وموسيقارٌ أيضًا-يقول:
“أليست الموسيقى السبب الأسمى؟ العقل هو القدرة على قيادة عِدَّة خُطُوطٍ فِكْريَّةٍ للأمام وبشكلٍ منفصل، بحيث تظلُّ متوافقةً بينما تظلُّ مستقلَّة“.
وجرى الاهتمام أيضًا بالموسيقى من قِبل عِلْم الأعصاب، ففي كتاب “هذا هو دماغك تحت تأثير الموسيقى (2006)” يقول دانيال ليفيتين:
عقولنا في حالةٍ من السُّرْعَة الزائدة؛ تشارك أكثر من مائة مادَّةٍ كيميائيَّةٍ عصبيَّةٍ في حصر نغمات الموسيقى ومُددِها وإعدادات الصوت والجرس، وكما يشرح ليفيتين، تُحفِّز الموسيقى الخلايا العصبيَّة في مناطق كثيرةٍ من الدماغ أكثر من أيِّ نشاطٍ آخر تقريبًا.
المفاهيم وعِلَلِها الاجتماعيَّة:
أي مفهومٍ يكون لديه -في خَلْقه- عِلَلٌ فَلْسَفيَّةٌ نفسيَّةٌ اجتماعيَّة، كشكلٍ مُقاومٍ ثَوْريٍّ أو شكلٍ مُجدِّدٍ أو شكلٍ مُؤصِّل، ولا يمكن تخليص أي مفهومٍ من هذه الدلالات وتركه وحيدًا، وكان الـهيب هوب من هذه المفاهيم، فقد كان لديه دلالاتٌ اجتماعيَّةٌ ونفسيَّةٌ وثَوْريَّة.
لم يتعلَّق الهيب هوب بالموسيقى أو الراب فقط، بل كان لاهُوتًا ثقافيًّا أثَّر على اقتصاد الشِّرَاء، الوصول، اللُّغَة، الأفكار في المغنَى، الشَّكْل المعرفيّ والسُّلُوكيّ للإنسان.
“لقد انعكس الهيب هوب على الظروف في مستوياتٍ متعدِّدةٍ، ويظلُّ قوَّةً حيويَّةً في الصياغة والتعبير عن الثقافة والسياسة والهُويَّة لملايين الأشخاص حول العالَم. هذا يعني أنَّ الهيب هوب هو جانبٌ أساسيٌّ من جوانب الحياة اليوميَّة والوجود التجريبيّ، أو حجر زاويةٍ في الوجود الفرديِّ والجماعيّ”[١].
مجالات الهيب هوب
- ال دي جي
- الراب
- الجرافيتي
- رَقْص البريك
ولكنَّه بدأ بشكلٍ غنائيٍّ مع دي جي كول هيريك من خلال مزج الموسيقى الإيقاعيَّة مع أغاني الرَّقْص الشَّعبيَّة، ممَّا كان له دورٌ أساسيٌّ في تطوير الأصوات التي أصبحت مُرادفةً لموسيقى الهيب هوب، مثل دقَّات الطبل وتسجيل الخدوش[٢].
ولكن، هل يمكن تأثير الوجود الاجتماعيّ للسُّود (ليست عنصريَّةً، بل كتابةً عن التاريخ اللُّغويّ) على شكلٍ فَنّيٍّ موسيقيٍّ؟ أو أي وجودٍ اجتماعيٍّ؟ لحاجةٍ للتحقُّق أو التعبير؟ هل يمكن أن يتجلَّى في الموسيقى ذلك؟
“الشَّكْل الفَنّيُّ هو انْعِكَاسٌ للرؤيَة التي يحملها الكاتب تجاه الحياة”[٣].
أيًّا كانت الرؤيَة فلم يكن الهيب هوب فعلًا جماليًّا منفصلًا عن إرادةٍ للتظاهُر والثَّوْرة على التفرقة العُنْصريَّة والتنمُّر والاستغلال والعُنْف.
ولكن هذا في الشَّكْل اللُّغَويّ، ومن هنا إنَّ الهيب هوب ليس موسيقى خالصةً فقط أو بشكلٍ بحت، فهي تعبيرٌ من المجتمع الأسْوَد، والفرد الذي هو كما يقول باختين: “فردٌ اجتماعيٌّ ملموس، وخِطَابه لُغَةٌ اجتماعيَّة، لا لهجةً فرديَّة، ومُنْتَجٌ آيديولوجيّ، وأقواله عيِّنة آيديولوجيَّة”[٤].
وهي أيضًا مهارةٌ موسيقيَّةٌ من خلال إبْدَاعٍ في النَّغَم، وفي الشَّكْل بالنسبة للمُوضَة.. إلخ. فسياسة التعبير تحتاج مهارةً وقُدرةً في المجالات الفَنّيَّة حتّى لو كانت تجريبيَّةً في البدء أو لها أغراضٌ معيَّنة.
الهيب هوب والقَصْديَّة
يُمكن أن يُحمِل أيُّ عملٍ إبداعيٍّ ما يريد بهويَّته، كونها المُبْدِع الأساسيّ له، وكونها مستخدِمُه، والهيب هوب تَجْرِبةٌ فنيَّةٌ شاملة. “خبرةٌ حيَّةٌ يتداخل، ويتفاعل فيها المعنى الثقافيّ والموضوعيُّ الشَّامل مع الداخل، بمعنى: الخبرات السابقة، والموروثات، والثقافات، والقِيَم، والمعتقدات الدِّينيَّة والآيدلوجيَّة، والأخْيِلَة، والذكريات، تداخُلًا وتفاعُلًا وجدانيًّا باطنيًّا متواترًا، وليس تشكيلًا لها”[٥].
فالمادة المؤسِّسة للتَجْرِبة الفَنيَّة حاضرة وبقوّّةٍ وبتعدُّد، لذلك قد طرحَ ما يمكن أن يكون مانفيستو، والمفاهيم الجوهريَّة هي:
على المستوى اللُّغَويّ
خُلِقَت اختصاراتٌ لكلماتٍ أمريكيَّة بطريقةٍ مختلفةٍ تمامًا ، وخُلِقَت كلماتٌ تُشير إلى أشياءٍ أخرى خاصَّة بهم، كمعجمٍ للفَنَانين وللأغاني لديهم، جميعها كانت عاميَّةً لِمَا لها من قُدرةٍ على التلاعُب الرسميِّ للحروف. “ما يكمن وراء (العاميَّة) هو ببساطةٍ نوع من الوفرة اللُّغَويَّة، وفائضٌ من طاقة صناعة الكلمات. إنَّه يتعلَّق باللُّغَة المعياريَّة إلى حدٍّ كبيرٍ، حيث إنَّ الرَّقْص يرتبط بالموسيقى، لكن هناك أيضًا شيءٌ آخر، هو أفضل لغُةَ عاميَّة، ليس فقط لُغَةً عبقريَّة ومُسليَّة، كما أنَّه يُجْسِّد نوعًا من النَّقْد الاجتماعيّ”[٦].
شَكْل المُوضَة
فالتعبير له أهدافٌ إن كان يُصَاحِب المجتمعات، صغيرةً أو كبيرة، وتلك الأهداف تتعلَّق بما هو إنسانيٌّ حتَّى لو تحوَّل إلى شكله التُجاريِّ بعد ذلك.
“يمكن فهم الهيب هوب على أنَّه تعبيرٌ جماعيٌّ عن رُوح الإنسانيَّة الكونيَّة والتحرُّريَّة في عالمٍ من الإحساس صاغه مجتمعٌ فريدٌ من نوعه ومن أجله، مُسْتَبعَدًا جذريًّا من المشاركة في مؤسَّسات العصر الحديث؛ حالة -بتعبيرٍ أدقٍّ- أسعى إلى فهم موسيقى الهيب هوب فَلْسَفيًّا على أنَّها الثقافة الجماليَّة الجماعيَّة ذاتيَّة التحديد التي نشأت لملء الفراغ الذي خلَّفه الانسحاب المُفاجئ والكارثيُّ لمؤسَّسات الدَّوْلة من جنوب برونكس في أوائل السبعينيات”[٨].
قليلًا ما يُرَى الأدب أو الفَنّ أو الأعمال الإبْدَاعيَّة وخصوصًا الموسيقى على أنَّها مؤثِّراتٌ ضخمةٌ اجتماعيًّا أو ثقافيًّا، وذلك لقلَّة التنظير لتأثيراتهما، لكن بالنظر للهيب هوب كان ما يشبِه أداةً ممتدَّةً خارج الجماليَّة المعهودة والسَّائدة، ويجري نعتها بالقوَّة الناعمة، وفي أغلب الدلالات القوَّة صاحبة التأثير الأقل، لكنَّها في الهيب هوب ثورةٌ اجتماعيَّةٌ وثقافيَّةٌ وسياسيَّةٌ وفَنيَّة.
المراجع:
١. Forman and Neal, That’s the Joint, p. 3
- https://blog.prepscholar.com/hip-hop-history-timeline
- إدريس بوديبة: الرؤية والبنية في روايات الطاهر وطار، منشورات جامعة منتوري، قسنطينة،(ط1 )، 2000 ،ص8
- ميخائيل باختين، المتكلم في الرواية ترجمة محمد برادة، مجلة فصول، مجلد 05، عدد 03،1985،ص104
- محمـــــــود أمـــــــين العـــــــالم:( الشـــــــعر المعاصـــــــر بـــــــين التجربـــــــة والتجريـــــــب)، فصـــــــول ( مجلـــــــة النقـــــــد الأدبـــــــي)، مجلـــــــد 16 ،عـــــــدد 01 ، صيف1997م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، ص272
- The American Language, H. L. Menicken p.557
- Philosophy and Hip-Hop Ruminations on Postmodern, Cultural Form, Julius Bailey p.36
- Jim Vernon Hip Hop, Hegel, and the Art of Emancipation,p11