الحرب في ديوان “الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا”  لريتا الحكيم

لأن الشعر يستحق الشعر فاعذريني على محاولة الوصول إلى النص بما لا يمكن أن لا يكون شعراً بنسبة ما.

أشمُّ رماداً وباروداً وأنا أقرأ.

 “الموت أنيق حين يقف أمام الكاميرا”؛ مجموعة شعرية للشاعرة السورية ريتا الحكيم صدرت عن دار التكوين عام 2019، وهي المجموعة الثانية لها. جاءت القصائد تلقائية أمام وجوه الموت وعيونه، وربما تكون تجلياته أيضاً.

ربما تكون كل قصيدة انعكاسات، وربما تكون هو، لكن الأمر الأكيد هو خطورة الشعر على المعايير الجمالية السائدة في العالم (فقدت الأمل في كلِّ الألوان الصارخة، من الديوان) وأظن أن ريتا مع ذلك.

حضور الموت في الديوان

لوازم الموت الدلالية حاضرة من العنوان الأول والكلمات (الكفن، الدفن.. إلخ)، والروح التي تسري في الرسم وفي احتمالات التأويل.

تعاضدت ريتا بمحادثة المعشوق أو مناداته أو مناجاته أو استحضاره، ومع ذلك لم يظهر الجِندر، فهو يختفي ويظهر الجوهر الإنساني ويستبدل أمام المفاهيم الإنسانية.

إعلان

تتعدد أنواع البيان عن الموت في شتى الثقافات واللغات والسرديات لما له من سطوة وتعالق مع أغلب ما يُمكِن أن يُشعر به وأعمقه ومع مفاهيم كثيرة جداً دينية وفلسفية وشِعرية.

كونه يٌحدِث استلاباً لنا أو لغيرنا من الجوار على نحو نهائيٍّ وغامض.

هذا الاستلاب -أي الفقد المطلق- مهما زادت أعمال الذاكرة وقدرتها فهو استلاب للذات الفاعلة المتعالِقة معنا التي تٌنتِج وتُنتِج.

تحاول ريتا بسريالية تخطي الموجود الواقعي بسريالية أحياناً كبرت قبل أن تتزوج أمي من أبي” [1]

دلالات الموت في المعارف والآداب

الموت في التعاريف الدينية حدٌّ لحياة أخرى، وفي التعاريف الفلسفية على اختلافها أحياناً نهاية وأحياناً عتبة انسلاخ وأحيانا باب العدم.

قد يجعل الموت الإنسان خائفاً لوطأة غموضه وقد يجعله نهِماً للحياة لأنه لن يحيا طويلاً. قد يجعله زاهداً كون له حياة أخرى كما يعتقد دينياً.. إلخ، ولكنه جعل ريتا تكتب وتكتب أي تُمِيته وتُحييه، ربما الشاعر هو رب الحدود.

الموت بوصفه مُخرِجاً وممثِلاً

 تُخرج هذه الاعتقادات حياةَ الإنسان فلسفياً ومفاهيمياً؛ أي إن الموت قد يكون مخرِجاً أنيقاً خفِي وراء كواليس أفعال ومشاعر وحيوات كثيرة.

وقد يكون مُمثِلاً لآلهة وربما لرغبات البشر في البحث عن معنى..

وعند ريتا الحكيم اختارت له أن يكون  أنيقاً حين يقف أمام الكاميرا عنواناً لديوانها، لسبب مُضمَّن  آخر كونه في العالم الحديث يُقدم الموت في الحروب هديةً بلا خجل بعكس ما كان يٌقدم في الميثولوجيات على نحو جنائزي ومهيب. يٌزَين بالعلل الكبيرة والإنسانية.

استعارات الموت في الشِّعر

إدوارد يونغ يقول إن “الموت يجمعنا بالأغلبية العظمى”

و الشاعر إدوارد إستالن كامينجز في نهاية قصيدته لعمه “سول” استعار عن الموت بـ “مزرعة دود”

“وذهب إلى أسفل

عمي
سول
وبدأت مزرعة دود”[2]

ويأتي البيان وكثرته لاحتجاب الدال على الموت وشيوعه المطلق بين الجميع. إن الجميع يعرفه لكن لا يعرِفه هو هو، وهذا التلغيز أو المعرفة الثانية لا الأولى للدلالة تفتح اللغة، الشِّعر على لانهائيته.

الحرب بوصفها منتِجاً للموت الغزير

وفي الديوان الحرب مُحفِّز لإدراكات النهاية، كونها أداةً للموت، من لوامسه الكبرى، لا تأتي حرب دونه ولا تذهب إلا بدلالاته. 

لا أدرك في موت الآخر موت هذا الآخر فحسب، بل أدرك موتي أنا بالذات. وربما يكون الحزن المرافق للموت، كأساس، هو حزن الإنسان المسبق على موته اللاحق؛ بمعنى، “أنا أنعي أناي، أنتحب على أناي، في موت الآخر” [3]

وهذا التعليق الجذري من نبيل فياض يحيط بشخصية الشاعرة، والشاعر في الرهافة التي تزود الشعور بالمشاعر أجمعها وهنا الفقد.

فقد الذات بفقد الآخر، فقد اللغة الثابتة بفقد الذات.. الخ.

الموت بوصفها خالقاً للتلاشي

والموت كونه خالقاً لانسلاخ نحو الذي قلَّ وضوحه “كالظل قل عن المادة وضوحاً” [4]الطيفي، اللغوي، وانتهاء الذات الفاعلة كونها شخصية فتكثُر عند ريتا الألفاظ التي لا يستدل على وجودها الكامل والمُعيّن، مثل أشلاء، فتات، نزيف..

وكذلك أفعال الرواح “تغادرني، تطلق، تفك..”

قدرة الأنا الشاعرية وعنفها على الأنا الشخصية

القدرة للشاعرة الحقيقية تُنتِج بالبداهة ما وراء الزمن، أي تُدرِك الموت قبل وجوده، وهنا الموت قائم ومستمر في التكاثر على نحو بشع ومن نفس الأرض التي كانت قابلة في أزمان للعالم. “الشعراء هم الكهنة الذين يترجمون وحياً لا يدركون كنهه، هم المرايا التي تعكس الظلال الماردة التي يرمي بها الغد على الحاضر” [5]

 الشِعر بوصفه خالقاً للاحتمالات السوداوية واليوتوبية بسبب القدرة على اللغة، والحُلم والبصيرة، والإفراط في حس المُدرك وحدسه.

الشر غير المبَرَّر والشِّعر

وخصيصة للحرب في تعالقها مع الموت هو إشكالية قبول الشر الصافي غير المبرر، الإيلام غير المبرر أياً كانت الأسباب للحرب، أياً كانت دوافع القاتل ومبررات المقتول، الحرب سوق الموتى.

وهذا الشر غير المبرر يفتح أسئلة كثيرة فلسفية وشعرية تتعلق بالجدوى. وبالنسبة للشعر وريتا جدوى المكتوب، كأنها تلفظ كلام النهايات التي لا تحبها، تتساوق بين الحب والألم في الداخل والحزن والحرب في الخارج.

فلسفة الأخلاق والأنا الشاعرية

فالشعراء والشاعرات يهتمون أكثر بالقضايا الأخلاقية في الفلسفة كونها متصلة باليوتوبيا المرجوة أو المعايير الكبرى. ومعضِلة الشر هي من أكبر الإشكاليات الكائنة في اللاهوت ونفيه.

لا شكَّ في أن مشكلة الشر في العالم من أهم المشكلات الفلسفية التي شغلت الفلاسفة والمفكرين منذ أن وعى الإنسان وجوده ذاته، وأخذ يفكر في وجود نفسه ووجود الله ووجود العالم من حوله” [6]

وقد كان الديوان مناسباً لظروفه النفسية من الحرب التي حازت كلَّ المُدرَك لغة وسرداً ومعاني. فدلالة الحرب شديدة الوطأة، شديدة الكابوسية وشديدة الوحي بالفوضى والبشاعة.

وخرج الموت أنيقاً حين وقف أمام الكاميرا وحين وقف رجاله وأسلحته.

المراجع:

  1. الموت أنيق حن يقف أمام الكاميرا، ريتا الحكيم ص 50
  2.       100 Selected Poems by E. E. Cummings
  3. 3.  (ل نبيل فياض من مقدمة كتاب فيورباخ أفكار حول الموت والأزلية)
  4. مقالات نقدية من القرن التاسع عشر، حررها إدموند جونز، طبعة جامعة أكسفورد ١٩٢٤
  5. دفاع عن الشعر ص١٦٣ مقالات نقدية من القرن التاسع عشر، تحرير إدموند جونز، مطبعة جامعة أكسفورد ١٩٣٤
  6. الإلحاد ومشكلة الشر دراسة نقدية للإلحاد القائم على مشكلة وجود الشر في العالم د.غيضان السيد علي، مجلة متون

إعلان

اترك تعليقا