مُترْجم: تَعدِيل الجينوم البشري بَيْن الاستحسان والتَّوجُّس
تَزْداد مهارَة العلماء يومًا بعد يوم فِي مجَال تعديل الجينوم البشري، هل ستنتَفع أم سَتتضر البشريَّة؟
جورج تشرش
يُعَد أحد أَشهَر رُوَّاد العالم فِي مَجَال عِلم الوراثة والتِّكْنولوجْيَا الحيويَّة كمَا حَقَّق إِسْهامات هَائِلة فِي مجالَات تَسلسُل وَهَندسَة الجينوم، وَعلِم الأحياء التَّخْليقي (Synthetic biology)، وَيعَد مَشرُوع الجينوم البشري (Personal Genome Project) مِن بَيْن أَعظَم إنجازاته المتعددة بالمجال حَيْث يَطمَح فِيه بإنشاء قاعدة بيانَات كُبرَى تَشمَل الجينوم البشري لِلفرد مَصحُوبا بِمعلومات عن صِحته وسماته الشَّخْصيَّة الأُخرى، وتمَّ اَلوُصول حاليًّا إِلى بيانَات أَكثَر مِن 10,000 فرد دَاخِل المشْروع. يُؤمِن تِشرْش إِيمانًا راسخًا بِقدرة الأساليب الطِّبِّيَّة على التَّعْديل الجينيِّ والذي يَستخدَم بالفِعْل لِعلاج الأمْراض الوراثيَّة الفتَّاكة، كمَا أَنَّه يُمْكِن نظريًّا اِسْتخْدامه لِلوقاية مِن الإعاقات الجسديَّة والعقليَّة، وَتعزِيز عمل الجهَاز المناعيِّ لِلإنسان وَتحسِين مُسْتويات الذَّكَاء وَطُول اَلعُمر. يُنسِّق تِشرْش مَساعِيه البحثيَّة ليأتي هذَا اليوْم أَبكَر مِمَّا هُو مُتَوقَّع لَه، ومع ذَلِك فَهُو شَخصِية جَدَليَّة لِلغاية ومساعيه هَذِه لا تَخلُو مِن النَّقْد، بِداية مع الدُّعَاة وُصولًا لِلفلاسفة حيث يعبر هؤلاء عن مخاوفهم بِشَأن الجوانب الأمْنيَّة والْأخْلاقيَّة لِهَذا المجَال اَلعلْمِي، فَكَان الخلَاف مع تِشرْش وَآخرِين مِن العلماء بِالمجال مُسْتمِرًّا بِحرارة لِدرجة أنَّ أنْتيليجنس سكويرد (Intelligence Squared) -شَركَة إِعلاميَّة زَمِيلة مُهتمَّة بِالأفكار الكُبرى- نَظمَت مُنَاظرَة حَوْل الموْضوع.
أَطرَاف المناظرة
نَاقَش تِشرْش جنْبًا إِلى جَنْب مع إِيمي وَيِب [كَاتِبة مُهْتمَّة بِالشَّأْن المسْتقبلي] سيِّدتَان مِن أَبرَز المعارضين للهندسة الجينيَّة فِي العالم: مَارسِي دارْنوفسْكي [داعية لِلسِّياسات، ومديرة مَركَز عِلْم الوراثة والْمجْتمع]، بِالْإضافة لفِرانْسواز بَايلِيس [أُسْتاذة جَامعِية ومؤلَّفة كِتَاب: “الوراثة المعدَّلة: كِريسْبر (CRISPR) وأخْلاقيَّات تَعدِيل الجينوم البشري”] كَانَت المناقشة -وَالتِي اِسْتمَرَّت لِساعة- بِمثابة مُلخَّص لِلحجج الأكثر إِقناعًا (المؤيِّدة والمعارضة) لِتوظِيف معرفتنَا العلميَّة مِن أَجل تَحسِين الحمض النووي للأجيال المقبلة، فِيمَا يَلِي نَظرَة عَامَّة على هَذِه اَلحُجج مَعرُوضة بِشَكل أو بِآخر بِالتَّرتيب الذِي طُرحت فِيه أَثنَاء المناقشة…
الحوَار:
تَحدثَت دارْنوفسْكي فِي بِدايَات الحوَار عن فِيلم GATTACA [تَسلسُل جِيني] لِتوْضِيح المسارات المشْؤومة المرْتقبة لِلتَّعديل الجيني على البشريَّة على كِلَا المستويينِ الفردِي والمجتمعي. تَدُور أَحدَاث الفيلم فِي مُستقبَل حَيْث تُتيح تِقْنيَّات الإنجاب لِلآبَاء بِتعدِيل جِينات أطفالهم، مِمَّا يجْعلهم أَقوَى وأَذكَى. يَتَعرَّض بطل الفيلْم -فِينْسينْتْ- بِشَكل مُسْتَمِر إِلى مَظاهِر التَّمْييز الجينيِّ لِكوْنه لَم يَخضَع لِلتَّعديل الجيني فِي وِلادَته مَا جَعلَه أيْضًا عالقًا فِي صِرَاع مُنْذ وِلادَته مع شَقيقِه اَلمُعدل جِينيًّا اَلذِي يفوقه بِكلِّ شَيْء. فبالنِّسبة لدارْنوفيسْكي المجتمع الدِيستوبي الذِي عُرض بالفيلم لَن يَكون مَحْض خَيَال بل إِنَّه تَنبَّأ حتميًّا لشَكل العالم إِذَا ساد التَّصحيح الجيني، وكانتْ أَكبَر توجُّساتهَا أَنَّه بِمجرَّد إِتاحة التِّقنيَّة بِنظام الرِّعاية الصحِّية ستُستَغلُّ لِصالح الأغْنياء على حِسَاب الفقراء، تَقُول: “مِن الصَّعب التَصدِيق بأنَّ النَّاس سيكونون قَادرِين على تَحمُّل تَكالِيف ذَلِك فِي عَالَم بالكَاد يَستطِيع فِيه الأفْراد تَحمُّل تَكالِيف الرِّعاية الصحيَّة الأساسيَّة”، وتؤكِّد على أَنَّه بِالْفِعْل مَا هُو قَائِم على تَحدِيد النَّجَاح فِي عالم اليوْم -جُزْئِيا على الأقلِّ- هُو الامْتياز، غدًا يَحُل المسْتوى اَلذِي يُمْكِن أن يُوَفرَه الآبَاء مِن التَّعديل الجينيِّ لِلأبْناء.
تُحِب وَيِب الخيَال العلمِي لواقع اهتمامها بالشَّأْن المستقبليِّ، وَلَكنهَا تُؤكِّد على أنَّ الأفلام مَهمَا كَانَت مُسَليَة أو مُقْنِعة، فليْس لَهَا الشَّأْن فِي تَحدِيد مسارَات البحث العلمِي على أرض الواقع، وَتَكرَّر بِأنَّ الجَوهَر الإشْكالي يَكمُن فِي عُنْوان النِّقَاش ذَاتِه: فالإشْكاليَّة لَيسَت عن إِنجَاب أَطفَال أَفضَل بل جعل الأطفال أَفضَل، وتُكمِل: “الطَّبيعة لَيسَت مِثالِيَّة”. يُولد كُلَّ عام مَلايِين مِن النَّاس بِعيوب فِي جِيناتهم تُسبِّب أمراضًا وإعاقات مُختلفَة، وَتنهِي كَلَامهَا: “إذَا كان بِاسْتطاعتنَا مَنْع المعاناة البشريَّة هَذِه، فنحْن نَحمِل على عَاتقِنا هَذِه المسْؤوليَّة.”
لََا تَستَنِد حُجَّة بَايلِيس المضادَّة لتَعدِيل الجينوم إِلى العلم بِقَدر مَا تَستَنِد إِلى الأخْلاقيَّات المطبَّقة والسِّياسة الصِّحِّيَّة المتَّبعة، وَتقُول إِنَّه مِن النَّاحية الأخلاقيَّة، لا يَحِق لِلوالدينِ تَقرِير مَا إِذَا كان يَنبَغِي تَعدِيل جِينات أطفالهم أم لا، حُريَّة إِنجَاب الأطفال هِي حقٌّ أصيل مِن حُقُوق الإنسان، ومع ذَلِك، فالنَّاس لَيسُو أحرارًا فِي إِنجَاب نَوع مُعيَّن مِن الأطفال، وتتابع: “فالحوار بِالْأساس يَجِب أن يَكُون حَوْل الحُقوق الإنجابيَّة، الحَق فِي أن تُنجِب وَألّا تُنجِب”؛ فَيجِب أن نُكَافِح مِن أَجل الصِّحَّة الإنجابيَّة والحقِّ فِي الإجهاض عِوَضا عن تَموِيل مشروعات تَعدِيل الجينوم.”
على عَكس طَبِيعَة اهتمامات المتحدِّثات السَّابقات بِتداعيات الأمر، كان تِشرْش يُحَاوِل الكشْف عن آليَّة عمل تَصحِيح الجينوم، لِذَا -ومما لا يَدعُو مجالا لِلدَّهشة- كان مُتيقنًا مِن إِمكانيَّة الأمر، فكانت بِداية حُجَّته: “التَّراخي ليس اِسْتراتيجيَّة مَضمُونة. أَظهَرت الجائحة مَا يَؤُول إِلَيه الوضع بِتسوِيف الفتوحات العلميَّة؛ فَبَينمَا كان العالم يُنَاقِش أخلاقيَّات تَفوِيض اللَّقَاح، مات مِئَات الآلَاف مِن الأشْخاص لِإصابتهم بِالْعدْوى.
لََا يَختَلِف تِشرْش على أنَّ الوضْع اَلذِي عَرضَه الفيلم (حَيْث يَكُون تَعدِيل الجينوم مُقْتصِرًا على الأثرياء) غَيْر مَأمُول، وَلَكنَّه يُكْمِل: “الامْتناع عن الإقدام على أمر مَا فقط لاعتقادنَا بِأنَّنَا عاجزون عن إِدارَته مُعَادلَة غَيْر مَنطقِية.” يُجَادِل كُلًّا مِن تِشرْش وويِب: على أَنَّه مِن المغرِي التَّصديق بِأنَّ العمليَّة سَتكُون مُكَلفَة لِلدَّرَجة التي تَجعَل مِن النُّخبة على مُستَوَى العالم هِي الفِئة الوحيدة القادرة على تَحملِها، فلا يُوجَد ذَلِك الدلِيل القطعِي على أنَّ هَذِه هِي المعادلة الحتميَّة لِلوضع. كمَا أنَّ الوبَاء قد أَظهَر أنَّ العقاقير كَلَقاح فَيرُوس كُورونَا يُمكن إتاحتهَا بِتكلِفة معقولة نِسبيًّا.
حَتَّى وَإِن لَم يَكُن هُنَاك دليل مَلمُوس على أنَّ تَعدِيل الجينوم البشري سيُساء استخدامه مادِّيًّا وسياسيًّا، تَرِد بَايلِيس بِأنَّ المرْء لا يَحتاج إِلى دِراسَات أكاديميَّة لِاستنتاج أنَّ العالم بِه العدِيد مِن الدُّول اَلتِي تَفتَقِر إِلى حُكومَات مُسْتقِرَّة ومسْؤولة يُمْكنهَا تَنفِيذ البنية التَّحتيَّة الماليَّة والأخلاقيَّة اللَّازمة لِمتابعة تَعدِيل الجينوم بِطريقة مُستدامة وَعادِلة ومقبولة أخلاقيًّا”.
وتذكَّرنَا دارْنوفسْكي على غِرَار صاحبتهَا: إِنَّ الخطر المجتمعي لِتعدِيل الجينوم لَيْس وهمًا وَلَكنَّه حدث بِالفِعل فِي التَّاريخ الحدِيث؛ حَيْث طَورَت ألمانيَا النَّازيَّة بِالحَرب العالميَّة الثانية هوسًا غَيْر صِحي بِعلم تَحسِين النَّسل، كمَا أنَّ الفكرة البغيضة القائمة على أَفضلِية أجنَاس دُون أُخرَى شيء لَم يتجاوزه الجنس البشَريُّ بَعْد، فَغالِبا مَا تَعرض المقالات التِي تُنَاقِش هذَا الموضوع صُوَرا لأطفال شُقْر ذِي عُيُون زَرقاء، بِالإضافة إِلى أنَّ أَغلب العينات التِي تمَّ العمل عليْهَا قُوقازيَّة.
قَدمَت بَايلِيس وَاحِدة مِن أَكثَر الحُجج المؤثِّرة -وَلكِن المشكوك أيضًا بِصحَّتِهَا- ضِدَّ تَعدِيل الجينوم حَيْث وَصفَت تجربتهَا مع مُعانَاة والدتهَا مع مرض الزَّهايمر بِسنواتهَا الأخيرة، على الرَّغْم مِن صعُوبَة الوضع التِي كَانَت ترى فِيه بَايلِيس والدتهَا تَفقَّد عَقلُها واستقلاليَّتهَا التِي دومًا مَا عُرفَت بِهما، إِلَّا أَنهَا مُقتنعَة بِأنَّ تجربتهَا مع والدتهَا ساعدتهَا على النمو على المستوى الشخصي وتذكرنَا بِمُسلَمة لِنيتْشه: “يُقَوينِي مَا لا يَقتُلني”.
حدث بِأنَّ هَذِه اَلقِصة كَانَت مِن النِّقَاط الأساسيَّة التِي صاحبت الجمهور المستمع؛ حَيْث تَكررَت عِدَّة مَرَّات فِي فقرَة س & ج إِشكاليَّة بِأنَّ مَا إِذَا كَانَت تَجرِبة رِعاية شَخص مَا مُصَاب بِالزَّهايمر مِن التَّجارب البنَّاءة حقًّا، يَقُول والْتر إِيزاكْسون [كَاتِب “مُختَرِق الشَّفْرة: جِينيفر دُودنَا، التَّعديل الجيني، ومستقبل الجنس البشَريِّ”] بِأنه إِذَا اِستطَاع مَحو المرض مِن تَارِيخ عَائِلته فَإنَّه -فِيمَا لا يَدعُو مجالا لِلشَّك- سيفعل ذَلِك، وَلكِن هل لِلمرْء اتخاذ مِثل هذا القرَار عن شَخص آخر؟
مَن الفائز بِالْجدال؟
أَجرَت إِنْتليجانْس سكويرد اِسْتطْلاعًا بَعْد انتِهاء المناظرة لِتحدِيد الطَّرف الفائز، وقد كان لِصالح الاتجاه المضاد، وَلكِن هذَا لا يَعنِي بِالضَّرورة تَفُوق حُجَجهمَا، مَن بِرأْيك يَستَحِق الفوز؟
يُمكنك أيضًا قراءة: كيف سيبدو العالم في نهاية القرن 21؟ رحلة إلى المستقبل -الجزء الأول .. المحطة (elmahatta.com)