انطونيو غرامشي وإدوارد سعيد: نظرة اشتراكية حول حركة المقاطعة العالمية (مترجم)
أعجب المفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد، مؤلف كتاب الاستشراق وكتب عدة عن قضية فلسطين، بالماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي لوجهات نظره حول الهيمنة الثقافية. ما الذي كان يمكن أن يحدث لو تمكن هذان العملاقان الفكريان من التعاون في صياغة استراتيجية وتكتيكات حركة المقاطعة العالمية، لمقاطعة الاحتلال الإسرائيلي وسحب الاستثمارات معه وفرض العقوبات عليه، التي أطلقها المجتمع المدني الفلسطيني عام 2005، أي بعد عامين فقط من وفاة سعيد و68 عامًا بعد غرامشي؟
يشكل هذا المقال محاولة لفهم مفاهيم غرامشي للقيادة الأخلاقية والحس المشترك والحس السليم والهيمنة الثقافية والبنية الفوقية وحرب المواقع وفلسفة الممارسة، وتأثيرهم على تفكير سعيد وصلتهم بحركة المقاطعة. في إطار هذا أسعى للإجابة أيضًا عما إذا كانت هناك حاجة إلى منظور ماركسي أو اشتراكي يدعم حركة المقاطعة العالمية. لماذا لا يكفي أن يستجيب الاشتراكيون ببساطة لنداء المجتمع المدني الفلسطيني ويجدوا طرقًا لدعم حركة المقاطعة في النشاط العملي؟ هل تساهم النظرية الماركسية بأي شيء ذا أهمية لهذه الحركة؟ الاستنتاج الذي تم التوصل إليه هو أن كل من غرامشي وسعيد تركا وراءهما إرثًا يقدم رؤىً لا تقدر بثمن، وأسباب لماذا وكيف يمكن أن تنجح حركة المقاطعة في الدول الرأسمالية الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لتصبح جزءًا من انتفاضة عالمية تعمل جنبًا إلى جنب مع المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة.
الماركسية فريدة كفلسفة لأنها تتجاوز رغبة تغيير العالم من خلال الإعلان فقط عن نيتها لتغيير العالم. لذلك، يبحث هذا المقال أيضًا في مسار ثلاث سنوات لحركة المقاطعة في بورتلاند، أكثر المدن اكتظاظًا بالسكان في أمريكا. الهدف هو تحديد ما إذا كان إرث غرامشي وسعيد قد ساعد في توجيهها رغم وجود العلاقة الجدلية بين النظرية والتطبيق، لكن لا يكتمل أيًا منهما دون الآخر، حيث توجه النظرية الممارسة، والممارسة بدورها تعمق وتصحح وتثري النظرية. وفقًا لهذا الرأي، يجب اختبار فعالية المبادئ النظرية على أرض الواقع.
إن مفهوم غرامشي لـ “القيادة الأخلاقية” ملائم في هذا السياق. بالنسبة لغرامشي، فإن الطبقة العاملة “اقتصادية” إذا كنا نتحدث عنها فقط، لكن ماذا بشأن الآخرين؟ حث غرامشي الحزب الاشتراكي في إيطاليا، ثم الحزب الشيوعي في وقت لاحق على تناول “المسألة الجنوبية” -أي محنة الفلاحين- خاصة في الجزء الجنوبي الأقل تصنيعًا من إيطاليا. لكن غرامشي لم يكتفِ بمساءلة تحالف العمال والفلاحين فقط إذ دعا أحزاب الطبقة العاملة إلى توفير “القيادة الأخلاقية” لجميع “الأطراف الفرعية”، الذين وصفهم بأنهم أي شخص في وضع تابع في المجتمع الرأسمالي أو ما نسميه اليوم ب “نسبة ال99%”.
وبالمثل، في كتابه الاستشراق، أبرز سعيد وجهة نظر القيادة الأخلاقية في موضوعه الأساسي المتمثل في تحدي الطريقة التي أنكر بها الاستعمار الغربي قدرات الشعوب المستعمرَة. إن نقد سعيد لمفهوم الغرب للشرق يستند في نهاية المطاف على فهم جذري ورفض لمفهوم الثقافات المتفوقة، ووضع الإطار “الاستشراقي” بمنطقية تشرح سياق الاستعمار والإمبريالية.
يرتبط مفهوم غرامشي عن الحس السليم ارتباطًا وثيقًا بفكرته عن الهيمنة الثقافية والبنية الفوقية. بالنسبة لغرامشي، طبقت الدول الرأسمالية المتقدمة حكمها وسيطرتها ليس فقط من خلال جهاز الدولة القمعي -أي الشرطة والمحاكم والسجون والجيش- ولكن أيضًا من خلال المؤسسات التي ظهرت في المجتمع المدني. يعتمد جهاز الدولة في المقام الأول على القوة والإكراه للحفاظ على الحكم الرأسمالي في حين أن مؤسسات المجتمع المدني بدءًا من النقابات إلى الكنائس إلى وسائل الإعلام إلى ما نسميه اليوم المنظمات غير الحكومية غالبًا ما تساعد في صنع الموقف بنفس الترتيب القائم للأشياء بدلاً من تغيير هذا الأمر.
تنبع فكرة الهيمنة الثقافية جزئيًا من قول ماركس الشهير حول الأيديولوجيا الألمانية: “إن الأفكار السائدة في كل عصر هي أفكار الطبقة الحاكمة، أي الطبقة التي تشكل القوة المادية للمجتمع، هي في نفس الوقت القوة الفكرية المسيطرة”.
ناقش غرامشي سبب خضوع العمال لهذه الأفكار المهيمنة حتى عندما تتعارض مصالحهم الطبقية تمامًا مع مصالح الرأسماليين، مستعينًا بأفكار الحس السليم والبنية الفوقية لشرح كيفية قيام أفكار الطبقة الحاكمة بتأسيس الهيمنة على المجتمع بشكل عام وجعله يبدو كما لو أن النظام الرأسمالي هو مجرد نتيجة الحس السليم والتسلسل الأفضل للشؤون الإنسانية.
وبطريقة ما، توقع غرامشي قبل ما يقرب 100 عام طرح الصحفي توماس فرانك في كتابه الأكثر مبيعًا “ما الخطب في كانساس؟” لماذا صوت الناخبون في ولاية كانساس التي كانت يومًا معقلاً لإلغاء عقوبة الإعدام والاشتراكية الزراعية، ضد مصالحهم الاقتصادية الخاصة من خلال تبني الأجندة الاجتماعية للحزب الجمهوري؟
من أجل إرساء ثوابت هذه الهيمنة الثقافية والحفاظ على عملها بسلاسة، تساعد الطبقة السائدة أيضًا في إحكام السيطرة على البنية الفوقية، مثل المؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، لضمان فعالية أفكارها العليا. إن المهندسين المعماريين الرئيسيين الذين صاغوا لنا “الحس السليم” قطعة قطعة هم وسائل إعلامنا وعلمائنا الأكاديميين الذين يفلحون في إخفاء الطبيعة المنهجية للقمع ولاستغلال الرأسماليين. يتعلم الناس تبني الأفكار وقبولها بما يتعارض مع اهتماماتهم الخاصة لأنهم محاطون يوميًا بوصفات افتراضية من الأفكار المهيمنة التي يجب أن تكون صحيحة لأن الجميع على ما يبدو يعتقدون أنها حقيقية. المثير للجدل هو أن تكون منشقًا ومختلفًا عن النظام الراسخ “للحس السليم”.
في قضية فلسطين وفي ظل نزعة الصهيونية للاضطهاد، يفكك سعيد أفكار “الحس السليم” التي دعمت الرواية الإسرائيلية لعقود وجعلت وجود “دولة” يهودية يبدو معقولاً بالنسبة للعديد من الناس. وتشمل هذه الحجة أن المحرقة تركت الشعب اليهودي بدون بديل سوى إقامة “دولة” يهودية خاصة بهم لحمايتهم وجمع شتاتهم، وأصبحت المقاومة الفلسطينية للإرهاب الصهيوني في رواية “المنطق السليم” مجرد اضطهاد مستمر لليهود، كما أصبحت “إسرائيل” أسطورة هارون الأخوية في الوقوف إلى جانب موسى الدول العربية المجاورة، وفقًا لهذه الرواية المهيمنة.
ولمواجهة هذه الرواية، طبق سعيد “الحس السليم” كما يجب أن يطبّق، بعكس “الحس السليم” السائد، مفكِكًا كل نفاق وكذب وتناقض داخل الرواية الإسرائيلية عن طريق إظهار تعارضها مع المبادئ الراسخة لحقوق الإنسان والديمقراطية. من خلال ذلك، أسس سعيد إلى جانب آخرين كثر رواية فلسطينية بديلة لهيمنة النماذج السائدة.
في الاستشراق، يعترف سعيد بتأثير غرامشي مشيرًا بشكل خاص إلى تفريق غرامشي بين مؤسسات الدولة السياسية والمجتمع المدني والدور الذي يلعبه الأخير في تأسيس الهيمنة الثقافية، قائلًا:
“قام غرامشي بالتمييز التحليلي المجدي بين المجتمع المدني والسياسي حيث يتكون الأول من انتماءات طوعية (أو على الأقل عقلانية وغير قسرية) مثل المدارس والأسر والنقابات، في حين يتكون الآخر من مؤسسات الدولة (الجيش والشرطة والبيروقراطية المركزية) التي دورها في النظام السياسي هو الهيمنة المباشرة. وبالطبع، فإن هذه الثقافة موجودة في مؤسسات المجتمع المدني، حيث لا تتبنى الأفكار والمؤسسات والأشخاص من عدا النظام السياسي الهيمنة ولكنها تعمل من خلال ما يسميه غرامشي بالموافقة [الضمنية] عليها. في أي مجتمع غير شمولي، تسود أشكال ثقافية معينة على الآخرين، تمامًا مثلما تكون بعض الأفكار أكثر تأثيرًا من غيرها؛ شكل هذه القيادة الثقافية هو ما حدده غرامشي على أنه هيمنة، وهو مفهوم لا غنى عنه لأي فهم للحياة الثقافية في الغرب الصناعي. إن الهيمنة، أو بالأحرى نتيجة الهيمنة الثقافية في الواقع، هي التي تعطي الاستشراق القوة والمتانة التي أتحدث عنها حتى الآن”.
ناقش سعيد أيضًا بشكل خاص رؤى أخرى لغرامشي حول فكرة “اكتشاف المرء لذاته” و “عملية التسوية أو جرد المخزون” والتكيف مع الظروف التاريخية. كما سنرى لاحقًا، هذا أيضًا ذو صلة خاصة بحركة المقاطعة. يقول سعيد في صفحة اخرى من الاستشراق:
“من زاوية شخصية، يقول غرامشي في كتابه رسائل السجن: “نقطة الانطلاق للنقد هي أن يعي المرء نفسه حقًا كمنتج للعملية التاريخية حتى الآن، كمكون أودع فيه عددًا لا نهائيًا من الآثار، بدون إغفال لأي حقبة”.. الكثير من محتوى كتابي الاستشراق مستمد من البحث الذاتي في وعيي بأنني “شرقي”; عندما كنت طفلاً نشأ في مستعمرتين بريطانيتين، فلسطين ومصر، ومن ثم أكمل تعليمه في الولايات المتحدة “الغربية”، ظل للطرف الشرقي مساهمة مستمرة في وعيي المبكر العميق. لقد كانت دراستي للاستشراق من نواح عديدة محاولة لجرد أو تسوية آثار علي، أي الجانب الشرقي، حول الثقافة التي كانت هيمنتها عاملاً قويًا في حياة جميع المستشرقين، ولهذا السبب كان على الشرق الإسلامي أن يكون مركز الاهتمام. وسواء كان ما حققته هو التسوية التاريخية التي كان يعنيها غرامشي، لكن على أية حال، شعرت أنه من المهم أن أعمل على محاولة إنتاج واحدة”.
من المسلّم به أن سعيد لم يكن ماركسيًا بل وانتقد ماركس لاستسلامه لأفكار المستشرقين. في وقت كتابة الاستشراق، كان تأثير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أكثر وضوحًا، على الرغم من أن سعيد لم يتبنى إنكار فوكو للواقع الموضوعي. كما يشير المؤرخ زكاري لوكمان في “تاريخ الاستشراق وسياسته” إلى أن تبني سعيد لأفكار فوكو كان دائمًا جزئيًا ومتضاربًا، جنبا إلى جنب مع غرامشي، أعجب سعيد أيضا بالناقد الثقافي الماركسي ريموند ويليامز، متنازلًا لاحقا بشكل علني، كما يذكر لوكمان، عن مفهوم فوكو المفرط “للسلطة”، متمسكًا “بإمكانية وجود مجتمع أكثر عدلا في المستقبل”.
ظهر تقدير سعيد لأهمية مفهوم الهيمنة الثقافية مرة أخرى في نقده للطريقة التي طورت بها وسائل الإعلام المؤسسية رهاب الإسلام أو الإسلاموفوبيا في كتابه “تغطية الإسلام” موضحًا تأثير الإعلام والخبراء على الكيفية التي نرى بها العالم (1981).
الأهم من ذلك، كيف تتم ترجمة هذه المفاهيم النظرية إلى ممارسة؟ حملة حركة المقاطعة في بورتلاند-أوريغون، بقيادة تحالف شامل لأطراف دينية ومهتمين بالعدالة الاجتماعية وناشطي سلام وجماعات يسارية علمانية تعرّف بورتلاند بأنها المدينة الخالية من الاحتلال، قدمت بعض الإضاءات الهامة.
كان الهدف من الحملة هو إقناع مجلس المدينة بالتخلي عن أي شركات ضالعة في دعم الاحتلال الإسرائيلي. كانت المحاولة الأولى لمجتمع التضامن الفلسطيني في حركة مقاطعة سياسية تهدف إلى مؤسسة ديمقراطية تمثيلية. جميع حملات المقاطعة السابقة كانت اقتصادية -أي تهدف إلى إقناع تجار التجزئة بالاستغناء عن المنتجات الإسرائيلية- لكن من الواضح أن هذه الحملة السياسية كانت الأولى من نوعها التي واجهت معارضة عامة من اللوبي الصهيوني المحلي، وخاصة الاتحاد اليهودي في بورتلاند الكبرى، الذين تجاهلوا في السابق حملات المقاطعة الاقتصادية.
جاء أول انتصار كبير للحملة عندما صوتت لجنة حقوق الإنسان في المدينة بالإجماع لتأييد دعوة المدينة من مقاطعة منتجات/خدمات أربع شركات هي: مجموعة سيكيوريكور (شركة خدمات أمنية ومعدات مراقبة)، وكاتربيلر (أكبر شركة مصنعة لمعدات البناء في العالم)، وهيوليت باكارد (شركة اتش بي للالكترونيات وتكنولوجيا المعلومات) وموتورولا سوليوشنز (شركة معدات اتصالات وإلكترونيات) بسبب تواطؤهم وعلاقاتهم الوطيدة مع الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته. كان التأييد في حد ذاته إشارة على أن السرد المهيمن قابل للتغيير عندما تدرك مؤسسات المجتمع المدني غير الممولة حكوميًا أن حقوق الإنسان الفلسطينية تُنتهك، خاصة بعد مشاهدة المجازر في الحرب على غزة عام 2014. تمامًا مثلما قالت رئيسة مجلس حقوق الإنسان: “بالنسبة لي عندما سُئلت عما إذا كان قرارنا سيعتبر مثيرًا للجدل، أجبت: ليس بعد الآن”.
أدى تأييد مجلس حقوق الإنسان إلى حملة ترهيب شنها مجلس العلاقات المجتمعية في الاتحاد اليهودي، وهو أيضًا مؤسسة مجتمع مدني، مصدرًا بيانًا يدين قرار المجلس ومرفق بتواقيع كل من قادة مؤسسة الحزب الديمقراطي: رئيس البلدية، مرشح لرئاسة البلدية وعضو كونغرس ورئيس جامعة ولاية بورتلاند، تلا ذلك تغطية إعلامية مشوهة. في الواقع، كشفت ردود الفعل هذه عن الركائز الأساسية لمؤسسات المجتمع المدني -وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والحزب الديمقراطي– التي دعمت جميعها الرواية المهيمنة بين طرفين والتي تنكر الحقوق الفلسطينية وتدعم الاحتلال الاسرائيلي كحليف استراتيجي للولايات المتحدة.
من الجدير بالذكر أن نتطرق إلى حملة الترهيب هذه لأنها أثبتت أنها جزئية مفصلية في الحملة مظهرةً أن الهيمنة الثقافية تملك ذراعًا للإكراه وتعمل في العمق كعامل مساعد لقمع الدولة. بالإضافة إلى البيان الذي تم إصداره، شرع الاتحاد اليهودي بإرسال بريد إلكتروني أو بإجراء مكالمات تضمنت تهديدات بإلحاق ضرر جسدي ضد أعضاء مجلس حقوق الإنسان. وكما اعترفت رئيسة المجلس أن رسالة بالبريد الإلكتروني ذكرت أنه لا ينبغي عليها “الاستهانة بالأذى الجسدي”. لكن نقاط قوة المجلس تأتي من كونه مؤسسة يرتكز دورها كلجنة استشارية طوعية غير مدفوعة الأجر تتكون من أشخاص مهتمين بحقوق الإنسان، وتراقب -بدون أن يطلب منها ذلك- الأوضاع بما فيها قوة الشرطة العنصرية وسلطتها غير المبررة أحيانًا في اضطهاد الاخرين. ولأن أعضاء المجلس لم يتلقوا أجرًا على ما يقومون به، لم تستطع حملة التخويف استخدام الطريقة القسرية لفصل شخص ما أو حرمانه من الدخل، لو كان هذا الخيار متاحًا، فمن المؤكد أن استغلاله كان سيتم على أكمل وجه.
كما هدد رئيس مجلس العلاقات المجتمعية في الاتحاد اليهودي رئيسة مجلس حقوق الإنسان بأن “الأسوء لم يأت بعد عندما تدرك الجماهير المؤيدة الهراء”، محذرًا إياها بسخرية من أن تغطية إعلامية مضادة على وشك الظهور في ويلاميت، وهي صحيفة محلية “بديلة” تصدر أسبوعيًا، حيث سيتم نشر مقالاً مهيناً يشكك في المجلس بإعتباره غامضًا وذي أجندات.
يبدو أن الضغط الطائفي تسبب أيضًا في إجبار عضوين يهوديين في المجلس إلى إعادة النظر في تصويتهما، حيث زعم كلاهما أنهما لم يعرفا ما كانا يصوتان عليه عندما صوتا بالموافقة على قرار مقاطعة الشركات، ما يعني لاحقًا أن الترهيب نجح في الضغط على المجلس لتحديد موعد لجلسة استماع ثانية للأعضاء جميعًا حيث ستنظر في اقتراح بإلغاء التصويت على القرار.
عوامل عديدة بالغة الأثر ظهرت في هذه المرحلة، سبب استخدام التهديد بإلحاق الضرر الجسدي بعمدة البلد إلى التراجع عن وعده بالحضور، حسب ما ذكره مدير الاتصال الخاص به، من الواضح أنه لم يرغب في التورط بأمور كهذه، وبالتالي تغيب عن الجلسة الثانية، كان لغيابه بُعد سلبي على قرار المجلس لأنه بدلًا من أن يتخذ قراره في البت في القضية على أساس الإقناع، تراجع عن الحضور مُكرهًا. لكن، لقد دفع إقبال جماهيري ضخم، داعم لقرار المجلس في المقاطعة ومطّلع على فشل المعارضة في معالجة الحقائق المقدمة بشأن تواطؤ الشركات في دعم الاحتلال الإسرائيلي، مجلس حقوق الإنسان إلى رفض إعادة النظر في تصويته الأصلي، قالت رئيسة المجلس: “بصدق، لم يقدموا أي دليل يدحض حجتنا حول تواطؤ الشركات في الوقوف بصف الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني”.
كما قال غرامشي، عندما يطرح الناس روايتهم المهيمنة المضادة يفوزوا. استخدمت مجموعات ومنظمات المجتمع المدني التقدمية، وخاصة من المجتمع الديني، ومن جماعات الحقوق المدنية بما فيها الصوت اليهودي من أجل السلام والمجتمع الفلسطيني الأمريكي، القيادة الأخلاقية و”الحس السليم” لتهزم الرواية المهيمنة السائدة التي لطالما حاولت إنكار حقوق الفلسطيني.
ما قاله سعيد أيضًا عن الأدوار المختلفة والروايات المنبثقة عن المجتمع المدني شديد الصلة بهذا الحدث، ربما كان سعيد سيقوم “بتسوية جديدة” عندما يلاحظ أن رجلًا أبيضًا استخدم لغة هيمنة مسيئة ضد امرأة أمريكية من أصل أفريقي تشغل منصب رئيسة مجلس حقوق الإنسان، عندما هددها بأن “الجماهير ستدرك الهراء”، وعندما قال أحد أعضاء المجلس اليهودي في المجلس لها أنها بحاجة إلى “التعليم”، كما لو كانت ذات ثقافة أدنى لا تستطيع فهم الثقافة “المتفوقة”، التي وصفها سعيد بالتفصيل في الاستشراق. وأخيرًا ربما كان سيلاحظ أن رئيسة المجلس، الممتدة أصولها من السكان الأصليين لأمريكا، لاحظت أنه لا يمكنها التصويت بخلاف دعم الحقوق الفلسطينية بالنظر إلى “ما حدث لأسلافي”، حسب وصفها، لأنها ببساطة عندما نظرت في “تسويتها” الخاصة، وجدت أن ما حدث للأمريكيين الأصليين هو نفس التطهير العرقي الذي يعيشه الفلسطينيون في ظل الاستعمار الصهيوني.
بطريقة ما، عكس الاتحاد اليهودي بشكل غير مباشر العنصرية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، حيث مكنت الحملة الناس من إلقاء نظرة على التجربة الفلسطينية. عندما تكون الثقافة السائدة ثقافة تفوق البيض والذكور، فمن المحتم أن تعكس الرواية المهيمنة السائدة هذه الخصائص، كما فعل الاتحاد المعتمد على تكتيكات الترهيب. الملفت أيضًا أن المعارضة نفسها قد فقدت مصداقيتها عندما قالت أحد أعضاء الكونغرس الذين وقعوا على بيان الاتحاد المندد في إجابتها على سؤال حول القضية أنها حقًا لم تقرأ حقًا ما كتب في البيان.
أدى الصدام بين الاتحاد والمجلس إلى صدع آخر في دور المجتمع المدني في التمسك بالنموذج السائد؛ أي الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام. بالإضافة إلى التغطية السلبية في الجريدة الأسبوعية، قدم محرر الجريدة أيضًا طلبًا بسجل مراسلات البريد الإلكتروني للمجلس مشككًا في تصريحات الأعضاء حول التهديد الجسدي خصوصًا أنه لم يكن قادرًا على نشر مقال مهين آخر. ولكن الأمور جرت بخلاف توقعاته، وعندما تم تزويد الجريدة بالسجل حيث تظهر إشارات كافية إلى “تهديدات بالأذى الجسدي” في رسائل البريد الإلكتروني، حاولت الجريدة التنصل تحت الضغط من الكتابة عن هذه التفاصيل، لكنها منعًا للمخاطرة بمصداقيتها، كانت ملزمة على رصد هذه التهديدات في تغطية لاحقة تستعرض حملة المقاطعة على أنها أكثر عدالة “مما سبق”.
وبالمثل، ساعدت حملة نظمها “اتحاد الطلبة من أجل الحقوق الفلسطينية” في جامعة بورتلاند على تقويض الدور الذي يلعبه رئيس الجامعة في دعم الاتحاد اليهودي. كما نجحت في التصويت من جديد على قرار مقاطعة الشركات من قبل المجلس البرلماني الطلابي، بأغلبية ساحقة 20-2 تقدم رواية مقنعة، والأهم مضادة لتوجهات إدارة الجامعة.
لقد بشرت الحملة في الواقع بظهور رواية معادية لهيمنة الناس استقطبت دعمها الخاص من المجتمع المدني. لم يشمل هذا الدعم مؤسسات مثل لجان حقوق الإنسان فحسب، بل شمل أيضًا اللجان المسؤولة اجتماعيًا في المدينة والمجتمع الديني، بما في ذلك الجماعات المسيحية والمسلمة واليهودية والطلاب. كما شاركت مجموعات يسارية علمانية تقليدية وساعدت في توفير القيادة ولكنها افتقرت، في بعض الأحيان، إلى القاعدة الجماهيرية التي تحشد طاقة تطيح بهيمنة فكرة ثقافية ما.
أصبح من الواضح أن تغيرًا جذريًا قد حدث في المجتمع المدني، خاصة بعد أن صوتت لجنة استثمارات بنتيجة (4-2)على توصية بمقاطعة شركة كاتربيلر بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة. عندما حدث ذلك، لاحظت صحيفة ذا أوريجونيان الرائدة السرد المتغير، ما دفعها لتحرر خبرًا ضد التوصية، مدعيةً أن كاتربيلر “تصنع الجرافات فقط” ولا علاقة لها بالوضع السياسي.
على الرغم من هذه النجاحات، لم تفلح الحملة في نهاية المطاف في كسر النموذج التقدمي المهيمن حول فلسطين بالكامل حتى مع تصويت مجلس المدينة بوقف الاستثمار في جميع الأوراق المالية للشركات الأربعة المذكورة سابقًا، وحتى مع جهود أعضاء المجلس في القضية وموقف المواطنين لإلغاء استثمارات الشركات وللأخذ بعين الاعتبار أن “حياة الفلسطيني تهم” مثلما “حياة كل الناس مهمة”. جاء التصويت الثالث والحاسم في المجلس المكون من خمسة أعضاء مستعدون لتطبيق قرار بوقف الاستثمار وخروج المدينة من سندات الشركات، لكنهم فضلوا عدم الإشارة لدور كاتربيلر الفعلي الداعم للاحتلال -في محاولة للرد على إدعاء الجريدة-؛ لتجنب مزيدًا من الجلبة ومزيدًا من العداوات مع الأصدقاء اليهود، ذكرت أحد أعضاء المجلس أن معرفة الحقيقة لا يعني بالضرورة إمكانية قولها والتصريح بها علنًا، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بفلسطين.
امتلك الناشطون لاحقًا وجهات نظر متباينة حول كيفية تقييم النتائج النهائية، اعتبره البعض انتصارًا جزئيًا لأن مدينة بورتلاند توقفت بشكل كامل عن الاستثمار مع شركات داعمة للاحتلال. علاوة على ذلك، أظهرت حركة التضامن الفلسطينية أنها قوة سياسية لا يمكن تجاهلها أو عدم احترامها. كما نجحت الحملة في تنظيم ضغط مجتمعي مع تحالف القوى التقدمية الأخرى، وخاصة حملة سحب الاستثمارات من الشركات المتواطئة في دعم السجون الإسرائيلية مثل شركة ويلز فارجو، وهي رابع أكبر بنك في العالم من حيث القيمة السوقية ورابع أكبر بنك في الولايات المتحدة من حيث إجمالي الأصول. في جلسة مجلس مدينة نيسان/ إبريل، اجتمع تحالف من نشطاء البيئة وفلسطين وسحب الاستثمارات للمطالبة باعتماد التقرير النهائي ليتم رفعه لمحكمة العدل الدولية. لم تنل فلسطين من قبل مثل هذا التركيز البارز في جلسات مجلس المدينة.
لقد حصل كل هذا بالفعل، لكن لم يمتلك مجلس المدينة أي موقف ثابت وواضح حول فلسطين. في النهاية، كان من الصعب عليهم سياسيًا المخاطرة بالإعلان عن دعم مفتوح لحقوق الفلسطينيين، خصوصًا عندما رد أحد أعضاء المجلس على الاتحاد اليهودي الذين هاجموا منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” بأنها تتكون من “يهود هامشيين” و”متطرفين” قائلًا أن: حملتنا لم تكن تسعى فقط لنيل الدعم اليهودي لفلسطين، بل يتعلق بفلسطين نفسها وكل من يمكن أن يدعم قضيتها.
إليكم ختامًا بعض النتائج والتوصيات التي يكشفها تحليل مشترك لأفكار سعيد وغرامشي حول حملات حركة المقاطعة العالمية:
– يزداد الانقسام في موقف المجتمع المدني بشكل متزايد حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن يمكن مواجهة الهيمنة الثقافية التي تمارسها المؤسسات الموالية للاحتلال بنجاح رواية فلسطينية مضادة تصبح ذات يوم مهيمنة.
– تحاول مؤسسات المجتمع المدني الموالية للاحتلال استخدام الإكراه والقوة قدر الإمكان، مع العلم أن قدرتها على الإقناع المضلل أو إقامة الهيمنة عن طريق الموافقة الضمنية لم تعد فعالة بسبب زيادة الوعي والمعرفة بالظلم الواقع على الفلسطينيين.
– يحتاج نشطاء التضامن الفلسطيني إلى ممارسة القيادة الأخلاقية، موضحين أن النضال الفلسطيني هو نضال تحرري وبالتالي حركة أخلاقية. من خلال ممارسة القيادة الأخلاقية، يمكن أن توحد شرائحًا واسعة من المجتمع المدني، الدينية منها والحقوقية، لتحدي أو تحييد أو حتى كسب قطاعات: سياسية أو ثقافية أو إعلامية، من المرجح أنها تدعم السيادة المهيمنة.
– من خلال تحدي المؤيدين الرئيسيين للرواية الإسرائيلية بشكل مباشر، يمكن الاعتماد على حجج قوية لفضح مخزونها من العنصرية والتمييز والغطرسة والاستبداد والاستعمار.
– على نشطاء التضامن الفلسطينيين “أن يصوغوا مخزونهم الخاص”، مدركين أنهم أيضًا يتأثرون بالثقافة المهيمنة. إن الاقتراحات الرائجة حول التقليل من شأن القضية الفلسطينية باعتبارها موضة قديمة أو قضية مثيرة للجدل والمشاكل هي مثال على احتواء الرواية المهيمنة والاستسلام لها بدلًا من تحديها. يجب على المناضلين من أجل فلسطين أن يحذروا من الميل نحو الشوفينية الوطنية، أو الأبوية المضحية المذلولة، أو حتى من محاولة تهميش القضية باعتبارها شأنًا محليًا لا علاقة له بالقضايا الدولية.
– أخيرًا، يوفر مفهوم غرامشي لـ “حرب المواقع” مزيدًا من التوجيه لحركة المقاطعة الذي يقر من خلاله بوجود مواجهة بين قوى التغيير في البلدان الرأسمالية المتقدمة ذات الدستورية الراسخة تنتج صراعًا مطولًا يكون الهدف الرئيسي منه هو إنشاء رواية معادية للهيمنة على السرد النيوليبرالي السائد الموالي للحكم. يتطلب هذا النضال الانخراط في جميع قطاعات المجتمع المدني وتقديم الرواية الحقيقية للناس.
وكما قال الناشط الألماني رودي دوتشكه -أحد تلاميذ غرامشي-: يجب أن نخوض المسيرة الطويلة عبر مؤسسات المجتمع المدني، ونبدأ مشوار الألف ميل بخطوة.