حوار مع دكتور أشرف منصور
أُجريَ الحوار مع أشرف حسن منصور: أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية، يكتب في العديد من فروع العلوم الإنسانية مثل الفلسفة والنظرية السياسية والإسلام السياسي وعلم الاجتماع الديني والاقتصاد السياسي، ومن مؤلفاته: “الليبرالية الجديدة” (2008)، و”نظرية المعرفة بين كانط وهوسرل” (2009)، و”الرمز والوعي الجمعي” (2010)، و” سبينوزا ونقد العقل الخالص” (2013)، و”العقل والوحي– منهج التأويل بين ابن رشد وموسى ابن ميمون وسبينوزا” (2014).
المُحاوِر/ إسلام سعد.
في البداية أرحب بحضرتك دكتور أشرف واسمح لي أن يكون الحوار مُقَسَّمًا على عدة محاور مختلفة:
· العلاقة بين الدين والفلسفة.
· فلسفة الدين.
· الفلسفة الإسلامية.
· الفكر والتكفير.
أولًا: العلاقة بين الدين والفلسفة
· هناك محاولات كثيرة جدًا للدفاع الشديد عن الدين، ليس من خلال الوعظ، ولا من خلال خطابات التبشير والخطابات الدعوية، وإنما من خلال الفلسفة.
فهل هناك إلزام على الفلسفة أن تدافع عن الدين؟
ليس من المهام الأساسية للفلسفة الدفاع عن الدين، وهذا لسبب رئيسي؛ وهو أن الفلسفة تفكير حر، ومتحرر من أي افتراضات مسبقة ومن أي مُسلّمات، وهي رؤية للوجود وللإنسان وغير ملتزمة بأي قواعد سابقة، وبالتالي تشتغل الفلسفة في منطقة مختلفة عن الدين.
وإنما وَجدت الفلسفة نفسها تاريخيًا مُلزَمة بأن تدافع عن الدين في وقت تواجُد أديان عالمية مسيطرة، والمقصود هنا المسيحية والإسلام، وخصوصًا في ظل حضارة تشكَّلَت دينيًا، وجد الفيلسوف في هذه الحضارة أنه ملزم بالدفاع عن الدين نفسه أو الدفاع عن الفلسفة في مواجهة الدين.
إن قضية التوفيق بين الفلسفة والدين نشأت مع سيطرة دين عالمي، في حين أن تلك القضية لم تكن مطروحة في بلاد اليونان، ولم تكن مطروحة في عهد الحداثة الأوروبية؛ بسبب أن ضغط الدين لم يكن موجودًا في الحالتين.
كما نجد أن هناك فرقًا كبيرًا بيننا وبين الغرب؛ ففي العالم الإسلامي ما زلنا مضطّرين للدفاع عن الفلسفة لإثبات أن الفلسفة “باعتبارها منهجًا” ليست ضد الدين، كما أصبحنا مضطّرين أن ندافع عن الدين من وجهة نظر فلسفية، وتلك القضية هي ما تشغلنا الآن.
· الخطابات الإسلامية الحالية يخرج منها خطابات تستخدم مصطلحات الفلسفة وتوظيفها في الدفاع عن رأس مالها الديني الاعتقادي، بمعنى أن الدفاع عن العقيدة الإسلامية السنّية مثلًا يتم أحيانًا من خلال مفاهيم الفلسفة الوجودية والرؤية الوجودية للحياة.
في رأيك، لماذا يتم اللجوء إلى تلك النقلة الفكرية؟
الخطابات الدينية الإسلامية الصريحة أثبتت عجزها عن التعامل مع القضايا الفكرية الحياتية المعاصرة، فالمدافعون عن وجهة النظر الدينية وجدوا أنهم في مواجهة الحداثة الفكرية وفي مواجهة جمهور المثقفين -ممن تلقّوا تعليمًا جامعيًا راقيًا واتصلوا بالغرب فكريًا وحياتيًا وعاشوا في الغرب فترة طويلة- عن طريق الفلسفة بعد أن ثبتَ عدم جدوى استخدام خطاب ديني تقليدي.
هناك نماذج في التراث الإسلامي استخدمت الخطاب الفلسفي للدفاع عن وجهة نظر دينية بسبب دواعٍ من لحظة تاريخية، مثل “الغزالي“، ومن المعاصرين “طه عبد الرحمن”، هؤلاء استخدموا المفاهيم والمصطلحات الفلسفية والمنطق الفلسفي لإثبات وجهة نظر تعبّر عن رؤية دينية.
توضيح من المُحاوِر: تلك الخطابات تكرّس القديم بحجج جديدة، أي أنهم يسعون لخلق حجج جديدة لتثبيت القديم.
أما عن السياق الغربي، فهناك مثلًا في أواخر القرن 18:
“ياكوبي”: وهو فيلسوف ألماني عاش في أواخر القرن 18، وبداية القرن 19، وكان على صلة وثيقة بفلاسفة عصر التنوير الألمان، منهم “منلدسون”، و”ليسنغ”، و”كانط”.
استخدم “ياكوبي” الفلسفة لإثبات النزعة الشكّية التي تشك في العقل، فالعقل لا يستطيع أن يوصلنا إلى الحقيقة المطلقة، كما أنه نسبي، وبالتالي فالحقيقة إيمانية وتتطّلب قفزة إيمانية، وهذا ما يعتبر عودة تراثية للعقل نفسه وللإيمان.
كما أن ياكوبي استغل “كانط” ذاته، لماذا؟
لأن مقدمة كتاب كانط “نقد العقل الخالص” تقول بأنه اضطر إلى تقييد المعرفة لإفساح المجال للإيمان، إذن بما أن كانط قيّد المعرفة ونقد طموحات العقل التأملي، فمعنى هذا، بحسب ياكوبي في تأويله لكانط، أن المطلق يحتاج إلى قفزة فيما وراء العقل، أي يحتاج إلى تجاوز العقل؛ ففي أوج عصر التنوير الألماني، نجد أن ياكوبي يقوم بما يُسمى بالقفزة الإيمانية، أي أنها قفزة متجاوزة للعقل من أجل العودة إلى الإيمان الديني التقليدي.
نرشح لك: العقلانية والدين عند كانط
“شلايرماخر”: وهو من نفس الفترة التي ظهر فيها ياكوبي، ولديه نزعة تراثية، حيث يستخدم الفلسفة لتبرير الإيمان الديني.
أما القرن العشرون فهو مليء بهذه المحاولات، لدينا مثلًا:
“هانز كونج”: وهو لاهوتي سويسري ألماني قام بدراسات عديدة جدًا في اللاهوت والفلسفة، وألَّفَ كتابًا ضخمًا عن فلسفة هيجل في الدين وتأويل جديد له يعود بنا للتراث المسيحي مرة أخرى، وكتابًا آخر يعيد فيه طرح مسألة وجود الله من وجهة نظر فلسفية.
بشكل عام، نجد أن الفكر الغربي مليء بتلك المحاولات المستمرة حتى الآن في القرن الواحد والعشرين.
· بما أننا تطرقنا إلى الحديث عن كانط، فقد استمعتُ سابقًا إلى حوار مع الباحث “فتحي المسكيني” أستاذ الفلسفة التونسي، كان يقول بأن اللحظة الحالية التي نحياها الآن هي لحظة كانطية بامتياز، بمعنى أننا نستطيع أن نتبنى خطاب كانط بشكل أساسي ونستطيع أن نتعامل مع خطاباتنا الدينية الحالية وأزماتنا الثقافية العربية المعاصرة.
من خلال اشتغالك على كانط، إلى أي مدى تُوافق أطروحة فتحي المسكيني؟
بشكل شخصي، لا أتفق مع فتحي المسكيني في هذا الموضوع، لماذا؟ لأن كانط ينتمي إلى التنوير المعتدل، المهادِن للسلطة والذي لا ينادي بأي تغيير جذري في المجتمع أو السياسة.
فبحسب أحدث الدراسات في عصر التنوير، أجمعت هذه الدراسات الأكاديمية على أن هناك ثلاثة اتجاهات للتنوير:
1. التنوير الراديكالي.
2. التنوير المعتدل.
3. التنوير المحافظ.
كانط ينتمي إلى التنوير المعتدل، بمعنى أنه ليس تنويريًا بالمعنى الثوري، أي إطلاق حرية الفكر إطلاقًا تامًا ومساءلة كل السلطات السياسية والدينية، فهو في تلك المنطقة يعتبر محافِظًا جدًا من الناحية السياسية، أي أنه لا يُسائل شرعية السلطة الملكية باعتباره يعيش في ظل دولة بروسيا.
إذن سؤال الشرعية لم يكن مطروحًا عند كانط بعكس التنوير الراديكالي، الذي ابتدأ من “سبينوزا” واستمر مع “روسو” و”ديدرو” و”هولپاخ” و”هلڤشيوس” و”كوندياك”.
هؤلاء هم أتباع التنوير الراديكالي الذين يسائلون شرعية كل الأنظمة السابقة الدينية والسياسية، مطالبين بمجتمع جديد وفكر جديد.
أما “كانط” فقد قام بعمل معادلة مميزة لا تُغضب السلطات الدينية والسياسية، فإذا كان الخوف من الفلسفة بسبب أنها تنتهي بنا إلى الإلحاد وتثبت عدم وجود الله، وتبرهن على عدم خلود النفس وعدم وجود عالم آخر؛ فإن كانط يثبت في “نقد العقل الخالص” أن العقل لا يستطيع البرهنة على صدق أو كذب هذه المعتقدات لأنها تتجاوز قدراته المعرفية؛ أي أنه أثبت للسلطات السياسية والدينية أنه لا خطر من الفلسفة.
وقد استطاع كانط أن يحل تلك الإشكالية بجعل العقل قاصرًا أمام الاشتغال على مثل تلك الموضوعات، لأن هذه الموضوعات هي الأشياء في ذاتها، أي أنها موضوعات ميتافيزيقية تتجاوز الخبرة التجريبية وتتجاوز عالم الظاهر.
إذن سعي الفلسفة نحو الإجابة عن هذه الأسئلة الدينية ذات الطابع الأنطولوجي والميتافيزيقي هو سعيٌ غير مشروع، فإذا أردنا تأسيس ميتافيزيقا جديدة فلابد أن تكون ميتافيزيقا للأخلاق.
وقال كانط بأن العقل لا يستطيع أن يبرهن على وجود الله، لكن الأخلاق يجب أن تسلّم بوجود الله ضمانًا لسلام المجتمع واستقرار النظام الاجتماعي ولضمان صحة العقل الأخلاقي نفسه.
المُحاوِر: ولعل هذا هو السبب الذي جعله يقدّم برهانًا أخلاقيًا عمليًا في كتابه “نقد العقل العملي” على وجود الله.
نعم، لقد فهم كانط كلمة “ميتافيزيقا” على أنها ما يتجاوز الخبرة التجريبية، وما يتجاوز الفهم البشري.
فكل ما يتجاوز الفهم البشري، هو اليقين الذي يؤمن بوجود الله وخلود النفس الإنسانية وعالم الغايات، لكن البحث في طبيعة العالم وفي نشأته ومصيره، وهل العالم قديم أم مُحْدَث، هل العالم بسيط أم مُرَكَّب من أجزاء، هل السببية في العالم سببية آلية ميكانيكية حتمية أم هناك سببية من الحرية؟!! بمعنى هل يسير العالم بحتمية قوانين الطبيعة فقط أم أن هناك فرصة للتدخل غير السببي أي غير الحتمي، بمعنى آخر التدخل الإلهي، وهل السبب الأساسي للعالم يوجد داخل العالم أم خارجه؟! كل تلك الأسئلة أطلق عليها كانط النقائض “الكوزمولوجية”، وكلمة “نقيضة” معناها: شيء ممكن للعقل أن يثبته وينفيه في نفس الوقت.
فهناك حجج تنفي وحجج تثبت وكل الحجج صحيحة.
لكن العقل دائمًا ما يقع في الحيرة وهذا ما يُسمى بالجدل الترنسندنتالي، وهذا ما أسماه كانط بالميتافيزيقا التقليدية، ومن غير الممكن أن يحلها الإنسان بعقله البشري، لذلك نحى العقل الخالص جانبًا، أو ألغاه واستبعده من البحث الفلسفي.
ثانيًا: فلسفة الدين
· في فلسفة الدين كانت البداية عند سبينوزا انتقالًا لكانط ثم هيجل، وكان لمدرسة “كانط-هيجل” مسمى آخر هو “المدرسة التوفيقية”، فكيف تم هذا التطور من خلال علاقتهم كفلاسفة بالدين، وما مدى مركزية سبينوزا في خطاب كانط وهيجل؟
“سبينوزا”:
نظرته للدين نظرة راديكالية تمامًا، بمعنى أنه ينظر للدين من خلال وظيفته الاجتماعية، وقد عبّر في كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” بأنه يمكن استغلال الدين بواسطة السلطة استغلالًا سيئًا في إخضاع العامة، بالرغم من أن إخضاع العامة في بعض الأحيان يكون ضروريًا لضمان استقرار النظام الاجتماعي. كما أن استغلال الدين قد يكون منبعًا للخرافة، فالناس تسيطر عليهم الخرافة أكثر مما يسيطر عليهم العقل، وسبينوزا تعامل مع الدين بمنهج النقد التاريخي، فلقد نقد أسفار العهد القديم جميعها نقدًا تاريخيًا، وأثبت أن موسى لم يؤلف الأسفار الخمسة المسماة بأسفار موسى، لأن بها أحداثًا ظهرت بعد عصر موسى. العهد القديم تم تجميعه وتكوينه بعد الأحداث المذكورة في الأسفار، إذن هو تاريخ بشري يعبّر عن تجربة بني إسرائيل في فترة زمنية معينة من تاريخهم، وبالنسبة للأنبياء فهم فقط يتميزون بفضيلة أخلاقية عن الجمهور، ولديهم مخيلة خصبة ويقين أخلاقي، أما بالنسبة للمستوى المعرفي فهم مثلهم مثل أقرانهم من العامة تمامًا.
هذا هو موقف سبينوزا من الدين، وهذا الموقف كان مخيفًا لأوروبا في وقته، وكان هناك حظر على سبينوزا ومؤلفاته، فقد كان كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة” ينتشر منزوع الغلاف وبدون اسم المؤلف، وأحيانًا كان يوضع على الكتاب غلاف مزور، وبهذه الطريقة السرية كان الكتاب يصل للناس.
نرشح لك: في زمن التعصب الديني يهمنا سبينوزا أكثر من أي وقت مضى
“كانط”:
جاء على خلفية المادية الفرنسية التي كانت متأثرة بسبينوزا.
أما عن مؤسسي المادية الفرنسية فهم: ديدرو، هولپاخ، هلڤشيوس، وهم متأثرون بسبينوزا.
وبالطبع هم لا-دينيون ماديون راديكاليون، يرفضون كل السلطات القائمة، ويرفضون السلطة الملكية، والسلطة الكنسية كذلك، وأيضًا أي تراث ديني يتعارض مع العقل ومع حرية الإنسان.
إن التنوير الفرنسي تنوير راديكالي ومادي، وجاء كانط ليخفف من حدة التنوير الراديكالي حتى يتناسب مع الألمان، فهؤلاء الفلاسفة الفرنسيين لديهم نزعة عقلية متطرّفة سابقة على الثورة الفرنسية وهي التي مهّدت للثورة الفرنسية.
كان كانط يعيش في عصر الملك فريدريك الثاني، وكان يعلم أن الألمان لا يفضّلون الثورات -كما أن الملك فريدريك الثاني ملك بروسيا كان مثقفًا ومتابعًا لكل الإنتاج الفكري الأوروبي وكانت عينه على فلاسفة فرنسا الماديين، وقرأ كتاب هولپاخ “نظام الطبيعة” فور صدروه وقام بالرد عليه، ذلك الكتاب الذي أظهر فيه مذهبه المادي الإلحادي أو اللاديني-، ففلسفة كانط كانت مشروطة بوضع ألمانيا ووضعه الوظيفي كأستاذ للفلسفة في دولة بروسيا، وعينه على الملك المثقّف المهتم بالفلسفة، وبالتالي لم يكن أمام كانط إلا أن يتخذ تنويرًا معتدلًا يميل إلى المحافظة ولا يُسائل السلطات، كان يريد تنويرًا على مقاس الألمان وبما يتناسب معهم أي “التنوير المعتدل”.
في نفس الوقت كان لدى كانط طموح عقلاني ونزوع للتنوير، فجعل الدين في حدود العقل وحده، وميّز بين الدين التاريخي أي الدين الكنسي أو الدين الكهنوتي، وبين الدين الأخلاقي أي ديانة الضمير، وهو دين القلب والمعاملات.
وتمت مهاجمته بعد وفاة فريدريك الثاني، والسلطات البروسية حذّرته من الاستمرار في مثل هذا النقد للدين.
إذن كانط أتى على خلفية مادية سبينوزية خالصة، وأراد أن يخفف من حدة وراديكالية هذه المادية ومن راديكالية التنوير الفرنسي، وأراد أن يقدم نسخة ألمانية معتدلة من التنوير.
توضيح من المُحاوِر: بشكل أو بآخر سيكون كانط مضطرًا لأن يشتبك مع سبينوزا في الخفاء.
هذا حقيقي وبطريقة غير مباشرة، ففي كتابي “سبينوزا ونقد العقل الخالص” حاولت أن أكشف فيه حضور سبينوزا في كتاب “نقد العقل الخالص”، ووجدتُ أن حضور سبينوزا غير مُصَرَّح به، أي غير مصرح بذكر اسمه، لكنه كان حاضرًا بأفكاره.
إن تنوير كانط هو التنوير المعتدل المهادِن للسلطات والذي يميل إلى المحافظة، ولهذا السبب فإن الكثيرين من المفكرين العرب ينظرون إليه على أنه الأنسب لحالة العالم العربي الآن.
“هيجل”:
هناك خلاف كبير على حقيقة فلسفته في الدين، فهناك من يقول بأنه توفيقي تمامًا، يوفّق ما بين الفلسفة المثالية والديانة المسيحية، ويقوم بإعادة الثالوث مرة أخرى في صورة المثلث الجدلي الخاص بالقضية ونقيضها والمركب منهما، أو المثلث الكبير الخاص بمذهبه في الفكرة في ذاتها أو المنطق والفكرة وهي مغتربة عن ذاتها في الطبيعة، والفكرة وقد عادت إلى ذاتها مرة أخرى في فلسفة الروح… وهكذا.
هذا هو الثالوث المسيحي الذي يعيد تأويله في صورة مذهب فلسفي مثالي.
لكن هيجل الفيلسوف الديني يختلف عن هيجل الشاب الراديكالي المتأثر بالتنوير الراديكالي وكان متأثرًا بسبينوزا، فمن الممكن أن نرى في كتاباته المسماة بالكتابات اللاهوتية الأولى أو كتابات فترة الشباب، أنه كان يقوم بنقد شامل وجذري للدين مشابه لنقد سبينوزا تمامًا، فكتب مجموعة من الدراسات عن “وضعية الديانة المسيحية”، و”روح المسيحية ومصيرها”.
إذن هيجل الشاب يختلف عن هيجل فيلسوف الدين، حيث كتب محاضرات في عشرينيات القرن 19، وعمل كأستاذ للفلسفة في جامعة برلين [برلين عاصمة دولة بروسيا، زعيمة الرجعية بعد الثورة الفرنسية، تلك الثورة التي فشلت نتيجة تحالف أوروبي بقيادة النمسا وبروسيا وإنجلترا، بحيث عادت الملكيات القديمة تحكم مرة أخرى وبشراسة، فبعد فشل أي ثورة يعود بعدها النظام رجعيًا أكثر من النظام القديم]، وقد تحوّل فكر هيجل في ظل الظروف الخاصة بدولة بروسيا، ومن هنا كتب سلسلة محاضرات في فلسفة الدين في عشرينيات القرن الـ19، وبدأ في شرح تطور الدين من الديانات البدائية وحتى المسيحية البروتستانتية، وقال بأنها الدين الكامل والدين الخالص ونهاية الأديان كلها، وكان عليه قول ذلك بصفته موظفًا لدى دولة بروسيا.
أما الكتابات الأولى التي كان فيها راديكاليًا جدًا وسبينوزيًا جدًا فلم ينشرها، بل تركها مجرد مخطوطات إلى أن نُشرت بعد وفاته بـ 100عام تقريبًا، لذلك لم يكن أحد من الفلاسفة وصل لراديكالية سبينوزا في الدين ونقده للدين إلا فويرباخ.
وقد تجاوز “فويرباخ” فلسفة هيجل ليكمل مسيرة سبينوزا.
· هل تؤيد تسمية فويرباخ بمؤسس الإلحاد بشكل معرفي؟
Ø لا أؤيد ذلك.
لأن الإلحاد لديه العديد من المؤسسين السابقين على فويرباخ، بدايةً من أبيقور الذي أنكر وجود الإله أصلًا، فالإلحاد له عدة محطّات من ضمنها محطة سبينوزا للاتجاه اللاديني، وهناك أيضًا محطة الماديين الفرنسيين، أما فويرباخ فمحطة أخرى وجميعهم ظهروا قبل “نيتشه”.
حينما تقرأ جيدًا لفويرباخ ثم تقرأ لنيتشه، ستجد أن نيتشه لا يختلف كثيرًا عن فويرباخ في الموقف من الدين، فظهور نيتشه كان نتيجة قراءاته لفويرباخ.
ثالثًا: الفلسفة الإسلامية
برأيك ما هو الوضع الحالي للدراسات الإسلامية في الجامعات المصرية؟
إن تخصص الفكر الإسلامي سواء كان فلسفة إسلامية أو علم الكلام أو الفرق أو التصوف، أي كل الدراسات الإسلامية، أو دراسات الفكر الإسلامي بوجه خاص، تعاني من أزمة خطيرة جدًا في جامعاتنا المصرية، وهي عدم احتكاكها بالدراسات الغربية وعدم اتصالها بالأعمال الغربية الكثيرة في الفلسفة الإسلامية، من الممكن أن تكون اللغة عائقًا، ولكن بجانب اللغة هناك شيء هام وهو ظننا بأن الفكر الإسلامي يخصّنا وأننا أقدر الناس على دراسته لأننا مسلمون ولا يجوز للأجانب دراسته ولن يستطيعوا فهمه مثلنا، هذا التوجه يعزل الباحث تمامًا عن تخصص الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، وينعزل عن الدراسات الراقية جدًا في هذا المجال.
من خلال عملي على دراسات أجنبية كثيرة لـ “ابن رشد”، قرأت دراسات كثيرة في الفلسفة الإسلامية، من قِبَل فلاسفة أجانب أو أوربيين وأمريكان، وذُهلت من المستوى الأكاديمي الراقي لهذه الدراسات ومن كميتها وحجمها.
هناك مجلات أكاديمية متخصصة في الفلسفة الإسلامية، بل ومتخصصة في تيارات معينة في الفلسفة الإسلامية، هناك مثلًا مجلة تركية اسمها “نظريات” كل ما تنشره يميل إلى المدرسة السيناوية (نسبة لابن سينا) ومدرسة الشيرازي، ليس لديهم علاقة بابن رشد.
في المقابل لدينا ندرة في تخصص الفلسفة كلها بوجه عام في العالم العربي والإسلامي.
وهناك مجلة أخرى اسمها “Arab Science and Philosophy” وهي متخصصة في العلم العربي ودراساتها، تركز على المنطق وعلى فلاسفة الإسلام مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.
هناك كذلك مجلات متخصصة في الدراسات القرآنية، فالغرب لديه مدارس واتجاهات عديدة في دراسة الفلسفة الإسلامية، وعلى سبيل المثال لديه مدارس فكرية عديدة متخصصة فقط في ابن رشد، أي أن هناك مدارس عديدة في دراسة ابن رشد إسبانية وألمانية وفرنسية، وليسوا جميعهم على معرفة تامة باللغة العربية لذلك يعتمد الكثير منهم على الترجمات التي قُدمت لأعمال ابن الرشد منذ القرن الـ 13.
ابن رشد كان يعيش في القرن الـ 12، وتُرجمت أعماله إلى اللاتينية في القرن الـ 13 أي بعد وفاته بقرن، إذن تُعتبر تلك الترجمة التراثية من قِبَل فلاسفة عظماء ومترجمين محترفين معتمدة تاريخيًا، فأصبحت جزءًا من التراث الغربي، لذلك هم ليسوا بحاجة إلى قراءة ابن رشد باللغة العربية حتى يفهموه.
وجدير بالذكر أن هناك الكثير من مؤلفات ابن رشد وغيره من فلاسفة الإسلام مفقودة باللغة العربية، ووصلتنا في ترجمات لاتينية، ولذلك فالغرب لديه المقدرة على الإطلاع عليها وقرائتها، ولكن ليس لدينا تلك المقدرة كعرب، أي أننا يتوجب علينا لقراءة ابن رشد جيدًا أن نتعلم اللاتينية، وأحيانًا العبرية.
الشاهد هنا أن حال الدراسات الإسلامية سيء جدًا في جامعاتنا تحديدًا لأنها غير متصلة بالدراسات الغربية ومنغلقة على نفسها.
ماذا عن حال الطالب الذي يُكمل دراساته العُليا في الفلسفة الإسلامية، هل هذا الطالب يمتلك الآليات والأدوات التي تُمكنه من أن ينتجَ بحثًا علميًا رصينًا يقترب من تلك الدراسات الغربية؟
الطالب لديه استعداد ورغبة، ولكن لا يجد الإعداد الكافي وهناك فرق بين الاستعداد والإعداد، وأهم تلك الأدوات التي يجب امتلاكها هي اللغة، على الأقل إتقانه للغة أجنبية واحدة، وذلك من أجل الاطّلاع على الأبحاث الغربية في تخصصه، فبدون الاطلاع على تلك الأبحاث لا يستطيع الطالب القيام ببحث علمي رصين.
وغير اللغة هناك عامل “التجرد التام”، فالدراسات الإسلامية ودراسات التراث الديني تحتاج إلى التجرد من الموروثات والثقافة العامة المنسجمة مع البيئة المغلقة أو المجتمع العربي المغلق، فهناك مثلًا بعض الدارسين يخافون من الاطّلاع على مؤلفات أركون أو الجابري أو هشام جعيط، وبالطبع هذا غير مرحّب به بالنسبة لدارس الفلسفة الإسلامية.
إضافة من المُحاوِر: لا يصح أن يكون خوف الباحث كخوف الجمهور.
هذا صحيح.
فالباحث ليس من مهامه الدفاع عن دينه، فشعور الباحث أن دينه مهدد هو شعور غير علمي يستوجب التجرد تمامًا من التخوّف ومن ثم الخوض في أدق التفاصيل المتعلقة بتخصصه.
هل ابن رشد في السياق العربي تم تهميشه بالفعل مثلما قال نصر أبو زيد في كتاب “الخطاب والتأويل” لحساب خطاب الغزالي الذي أخذ مركز الاهتمام في السياق العربي الإسلامي؟
أتفق تمامًا مع وجهة نظر نصر أبو زيد، مع إضافة أمر آخر بأن الغزالي نفسه مُهَمَّش في مقابل ابن تيمية وابن القيم الجوزيّ.
حاليًا الاتجاه السلَفي يكره الغزالي بسبب ما لديه من نزعة تصوّفية ولمسة فلسفية بسيطة، فهم يناصرون أكثر ابن تيمية صاحب الفكر التقليدي الحرفي، وبالتأكيد تعرّض ابن رشد للتهميش أيضًا، لدرجة أن أصبح هناك شعور بأن ابن رشد ينتمي للسياق الغربي أكثر من انتمائه للسياق العربي، وذلك لاهتمام الغرب المكثّف بمؤلفاته.
ومن وجهة نظر شخصية بحتة، فإن ابن رشد ساهم في تطور الديانة اليهودية نفسها، كيف؟ عن طريق “موسى بن ميمون”، فهو من أهم من المطورين للاهوت اليهودي والفكر اليهودي في العصور الوسطى عن طريق اتجاهاته الفلسفية والتأويلية المستقاة من ابن رشد.
استيضاح من المُحاوِر: ولكن هناك اتجاهات رافضة لفكرة أن ابن ميمون تلميذ ابن رشد!
نعم بالفعل، وذلك نظرًا لخطورة ابن ميمون على الديانة اليهودية نفسها ونظرًا للاحترام الشديد والتوقير الذي يناله ابن ميمون من اليهود المحدّثين والمعاصرين، فهم يخجلون من تأكيد معلومة أن ابن ميمون تلميذ ابن رشد، ولكن تلك حقيقة استطعتُ إثباتها في كتابي “العقل والوحيّ”، فلابن رشد تأثيرٌ على الديانة اليهودية نفسها، فالديانة اليهودية الحالية عبارة عن طبقات چيولوجية تتراكب فوق بعضها البعض، ولابن ميمون طبقة منها، كما تأثّر ابن ميمون أيضًا بالفارابي وابن رشد معًا.
في كل الأحوال، هناك تيارات أوروبية نتجت عن الفلسفة الرشدية:
الرشدية اللاتينية من القرن 13 إلى القرن 14.
رشدية عصر النهضة من القرن 15 إلى القرن 16.
الرشدية اليهودية من القرن 13 إلى القرن 17.
أي أن هناك 4 قرون للرشدية اليهودية، وقد وصل تأثير الرشدية اليهودية إلى سبينوزا الذي أنظرُ إليه على أنه آخر الرشديين اليهود.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل هناك رشدية عربية؟ بداية الرشدية العربية هي من القرن الـ 20، منذ كتابة فرح أنطون عن ابن رشد عام 1906.
· هل هناك من العرب من اهتم بابن رشد قبل إرنست رينان في كتابه “ابن رشد والرشدية”؟
لا، كتاب إرنست رينان ظهر في خمسينيات القرن الـ 19، أول كتاب عن ابن رشد في العصر الحديث، وقد ظهر كتاب فرح أنطون متأثرًا جدًا بكتاب إرنست رينان، وبعد فرح أنطون بدأ التأثر بابن رشد.
ومن الرشديين العرب: “أحمد أمين”، “طه حسين”، وهؤلاء في القرن العشرين.
أي أن الرشدية العربية بدأت تتبلور في القرن الـ 20، في حين أن الرشدية اللاتينية ترجع إلى القرن 13.
· في دراسات المفكرين العرب المعاصرين حتى من رحلوا منذ فترة قريبة نسبيًا، من الذين اشتغلوا منهم على ابن رشد بشكل معرفي، لأن أركون له جملة شهيرة يوافقه فيها نصر أبو زيد: “أن الغرب أخذوا ابن رشد وتقدّموا، ونحن أخذنا خطاب الغزالي وتأخرنا”، وهناك خطاب آخر مختلف لتيار مغربي مشهور يبخس من قدر ابن رشد، فمَن من المفكرين العرب تجاوز هذين التيارين واشتغل على ابن رشد بشكل معرفي؟
“جمال الدين العلوي”: يدرس مؤلفات ابن رشد ويحللها تحليلًا أكاديميًا راقيًا جدًا.
“محمد المصباحي”: أهم متخصص في ابن رشد في العصر الحديث، لا يبحث من أجل أن يصنع دراسات للجمهور، ولكنه يعمل بشكل أكاديمي متخصص في قضايا رشدية عويصة، مثل إشكالية العقل وإشكالية الوجود والذات.
“فؤاد بن أحمد”: لديه ثلاث دراسات مهمة، دراستان عن التمثيل في فلسفة ابن رشد، ودراسة عن الجدل.
“محمد مساعد”: العالم بين التناهي واللاتناهي عند ابن رشد.
وهؤلاء الأربعة ليس لديهم علاقة بالنزاعات الأيديولوجية.
ورمضان بن منصور أيضًا في رسالته للدكتوراة عن العلاقة بين المنطق والميتافيزيقا عند ابن رشد.
· ما رأيكم في خطاب “محمد عابد الجابري” عن ابن رشد؟ وهل لديكم مأخذ عليه؟
نعم، الجابري يتكلم عن أن المشرق أرض الغنوص أو العرفان، وهو أرض ابن سينا والشيرازي والغزالي، أما المغرب الغربي فهو أرض البرهان والعقلانية.
ولكني لا أتفق مع هذه التقسيمة، لماذا؟
نجد الغنوص والعرفان عند “ابن طفيل” في “رسالة “حيّ ابن يقظان”، فحي بن يقظان ما هو إلا عرفاني يؤمن بإمكانية الاتصال بالمعقولات الأزلية بالعقل المجرّد وحده، ومن المفارقة أن “حي بن يقظان” كُتِبَت من قبل في الشرق، فهناك ثلاثة كتبوا عن ابن يقظان أو أعادوا صياغة نفس القصة، فابن سينا مثلًا لديه في مؤلفاته قصة حي بن يقظان، أي أن الاتجاه العرفاني الذي أقره الجابري مشترك ما بين الشرق والغرب.
أما “ابن باجة” صاحب كتاب “تدبير المتوحد” فلديه الغنوص والعرفان واضح جدًا.
أيضًا ابن باجة وابن طفيل محسوبان على تيار التصوف العقلي الذي أساسه عرفاني وغنوصي، وبالتالي لا نستطيع القول بأن المغرب العربي متخصصٌ في العقل والعقلانية كما قال الجابري، أي أن التيار الغنوصي سائد في الشرق والغرب، ولذلك فتلك التقسيمة غير صحيحة.
رابعًا: الفكر والتكفير
· بالنظر لحملات التكفير الموجّهة للمفكّرين العرب، من طه حسين مرورًا بأمين الخولي ونصر أبو زيد وإسلام البحيري وسيد القمني، كيف نواجه تلك الحملة؟
بتجريم التكفير.
أي إصدار قانون يجرّم فعل التكفير نفسه؛ لأن التكفير دعوة للقتل وتصريح بالقتل.
عند إصدار الحكم بالكفر فهو يستوجب التنفيذ من أي مسلم، فالتنفيذ ليس مشكلة، وهذا هو عين الإرهاب، مثلما حدث مع “فرج فودة” عندما كَفَّره “محمد الغزالي”.
وهذا شبيه بما كان يحدث في العصور الوسطى وعصر النهضة بأوروبا والمسمّى بـ “Auto da fé” بمعنى “فعل الإيمان”، وهو ليس من الإيمان في شيء، وإنما كان المصطلح الشائع لمحاكم التفتيش في أوروبا، كانت محكمة التفتيش تُصدر قرارًا أو حُكمًا بأن هذا الشخص مهرطق أو كافر، فيخرج الناس أو العوام قاصدين قتله، وبالتالي يعتبر عملًا إيمانيًا مخلصًا “Act of Faith” يخلّص البشرية من شخص كافر، ولكن هذا بناءً على قرار من محكمة التفتيش التي أصدرت الحكم.
إذن لابد من منع التكفير بقانون دستوري.
وأيضًا منع مشتقات التكفير مثل:
¬ القول بالارتداد.
¬ مقولة “أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة”، لأن الاتهام بإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة هو اتهام بالخروج عن الدين، وهو أحد معاني الكفر.
¬ هدم الثوابت.
كل ذلك تلاعب بالألفاظ من أجل توصيل معنى للعامة أن هناك شخصًا ما كافر، ومن هنا، لا بد من قانون يحكم الشيوخ، بل لابد من محاكمة كل من يقوم بتكفير الآخر لأن ذلك يعتبر تحريضًا على القتل.
مثل هذا القانون يحتاج إلى دولة جريئة جدًا وحاسمة في المواجهة وتنطلق من أساس أيديولوچي مختلف.
أما السائد الآن فهو قانون ازدراء الأديان!! وهو القانون الذي يحاكَم به المُبدعين والمفكّرين، ومحاولة إلغاء هذا القانون معناه عند العامة أنك تريد أن تزدري الدين بحرية وبدون عقاب، ولحل تلك الإشكالية لابد من إصدار قانون في المقابل لمعاقبة فعل التفكير ومعاقبة المكفِّرين.