الفلسفة والدين: هل يتجاذبُ قُطْبَا الحِكمةِ والشَّريعة؟

الحكمة صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المُصْطَحِبَتَانِ بالطَّبْع، المُتَحَابَّتَانِ بالجوهر والغريزة(1).

قبل أن تثور ثائرتُك عزيزي القارئ من المقولة السابقة، أو يأخذك الحماس الذي يشعر به المرء عندما يسمع أو يقرأ شيئا  مُتَّسِقًا ومُنْسَجِمًا مع معتقداته، وأخيرا… حتى يستقيمَ نقاشُنا، دَعنا في البداية أن نُعَرِّف الفلسفة.

ماهي الفلسفة؟ 

كلمةُ الفلسفة مشتقة من مصطلح يوناني “فيلوسوفيا“، وهي تعني حبَّ الحكمة، والسعيَ وراء الحقيقة. وأوَّل من استخدم هذه اللفظةَ الفيلسوفُ اليونانيُّ فيثاغورس. 

الفلسفةُ نَشَاط فكريٌّ قائم على البرهان المنطقي أو العقلي، وهي تمتاز بمناقشة مسائل ومواضيع وجودية وميتافيزيقية مثل الفنّ والوجود وغيرها من الموضوعات التي تُؤثر على حياة كلِّ فرد في المجتمع كالدين والسياسة(2).

تَعَارُض العقل مع الشريعة: حقيقة أم سوء فهم؟ 

يُصَنِّفُ ابنُ رشد -أحد أشهر فلاسفة الإسلام- الناسَ إلى ثلاث فِئَات: خطابيين وجَدليين وبرهانيين. وهذا ما يُفَسِّرُ تبايُنَ واختلافَ أساليبِ الدعوة إلى الله حسب فطرةِ وقدراتِ كلِّ فئة؛ {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). ويرى ابنُ رشد أنَّ معظمَ الناس تنتمي إلى أوِّل فئتين، “القليل جدا منهم يصدقون بالبرهان”. ويُقسم ابنُ رشد تلك الفئاتِ بين مَن يُؤمن بالمعنى الظاهريِّ للشرع، وبين مَنْ يبحث عن معناه الخفيِّ الذي يستلزمُ إعمالَ العقلِ والاجتهاد؛ لاستخراجه (الفئة الأخيرة)، وقد طغت الفئةُ الأولى على الثانية؛ لذلك نجد أنَّ الشرعَ جاءَ مُتَّسِقًا في غالبه مع فطرةِ الفئة الغالبة، ولكن… هذا لا يُسْقِطُ حقَّ التَّأويلِ عن فئة البُرهانيين؛ مِمَّن يستوفون شروطَ التأويل، وأهمها العلم و الخبرة(3). وهذا ما يوافق قولَه تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. (آل عمران: 7). والمقصود بالتأويل هنا كما عَرَّفَه ابنُ رشد: “إخراج اللفظ من الدلالة المجازية من غير أن يخلَّ في ذلك بعبارة لسان العرب(4).  

حَثَّ اللهُ -سبحانه و تعالى- في القرآن الكريم على التدبُّر في موجودات الكون، ومعرفتها والاستدلال عليها من خلال العقل؛ فقال:

إعلان

{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ} (الحشر: 2)

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (آل عمران 191)

{كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف 32).

ومن هنا… نجد أنَّ الفلسفةَ والدين مَهْمَا تفرَّعتْ واختلفتْ مناهجُهما في الوصول إلى الحق أو الحقيقة؛ فإنهما يتقاطعان عندها في النهاية.

الفلسفة ليست سوى النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أما الشرع فيدعو إلى معرفة هذه الموجودات بواسطة العقل(5).

هل الفلسفة كفر وزندقة؟ 

اتَّهَمَ الكثيرُ من علماءِ المسلمين الفلاسفةَ بالكفر و الإلحاد، وعلى رأسهم الإمام الغزالي الذي خصص كتابا كاملا؛ ليُبَيِّنَ فيه بطلانَ ما يدعو إليه الفلاسفةُ، وأطلق عليه اسمَ “تَهَافُت الفلاسفة”؛ أي تَسَاقُطُ الفلاسفة وضعفهم.

والمقصود: أنَّ الفلاسفة تساقطوا موتًا إثر الطعنات القاتلة التي وجهها الغزالي لآرائهم(6)

وكثيرا ما يُشَاعُ بأنَّ الضربة التي وجهها الغزالي بكتابه هذا قد قضتْ بالفعل على الفلسفة في المَشْرِق العربي، إلا أنَّ هذا الادِّعاءَ ليس سليما تماما، وفيه مغالاة و مبالغة؛ ذلك أنَّ الغزاليَّ لم ينتقد الفلسفةَ برُمَّتِها، بل الفلاسفة، وشتان ما بين الاثنين. ولعل عنوان كتابه “تهافت الفلاسفة” يوضح ذلك بصورة أدقّ؛ فهو لم يقل الفلسفة بل حصر العنوانَ فيمن ينقلها، وَصَبَّ جُلَّ نقدِه على مسائلَ إلهيةٍ اعتنقها، أو خاض فيها فلاسفةُ الإغريق، و تبناها بعضُ فلاسفة الإسلام، مثل ابن سينا و الفارابي و أهمها: قدم العالم، والقول بأنَّ الله لا يعلم إلا الكليات [تعالى اللهُ عن ذلك]، وإنكار بعث الأجساد. بالإضافة إلى أنَّه من غيرِ المعقول أن يقضيَ شخص واحد مهما بلغ من العلم و البراهين على علم أو مجال كامل كما يقول المستشرق ديبور:

ليس بإمكان شخص مهما كان، أن يكون حاسما في إنهاء حقل معرفي داخل سياق ثقافي ما. بل كان أساتذة الفلسفة وطلابها بعد الغزالي في المشرق بالمئات، بل الآلاف(7).

تصدى ابن رشد لهجوم الغزالي في كتابٍ أَلَّفَهُ ردًّا على التُّهَمِ التي وجهها الغزالي للفلاسفة في كتابه “تهافت التهافت“، وذكر في الكتابِ أنَّ الغزاليَّ يُقِرُّ في كتاب له “القسطاس المستقيم”  بأنَّ مستوياتِ عقول الناس تتباين. “الناس ثلاثة: عوام، وهم أهل السلامة البُلْهُ. خواصّ، و هم أهل الذَّكاء والبصيرة، ويتولَّد بينهم طائفة هم أهلُ الجدل”. وتبعًا لهذا القول: يجب مراعاة الخطاب الشرعي الذي يناسبهم، وهو القائل أيضًا: “خاطبوا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسوله؟!(8)“. و هذا كله يتوافق مع ما دعا إليه ابن رشد في مسألة التأويل، أو الاجتهاد العقلي.

بالنسبة إلى ابن رشد؛ فإنَّ مسألةَ التأويل مسألة خطيرة ومهمة، لها شروط محددة ينبغي استيفاؤها، مثل العلم البرهاني والخبرة. ويرى ابنُ رشد أنَّ ثمة أمور في الدين غير قابلة للاجتهاد أو التأويل، مثل أصول الدين “كالإقرار بوجود الله، والإقرار بالنبوءة، والإقرار بالسعادة والشقاء الأخرويين”. ولا يجب أن يُؤَوَّلَ الشرعُ كله، كما أنه لا يجب أن يُؤْخَذَ كُلُّه على ظاهره. “ومن ينكر أيَّ أصل من أصول الدين فهو كافر، أما من يؤمن بوجود هذه الأصول، و لكن يجتهد في تفسيرها عقليا -و هو من أهل العلم و البرهان- فلا ضير في ذلك”؛ فمن اجتهدَ وأصاب له أجران، ومن اجتهد و أخطأ؛ فله أجر، أما من ليس له حقُّ التأويل في مثل هذه المسائل إذا أخطأ فهو غير معذور، بل يُعْتَبَرُ كافرا آثما؛ إذ إنه تعاطى أمرا هو غير أهل له(9).

وأخيرًا… أختم المقالَ ببدايته:

الحكمة صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المُصْطَحِبَتَانِ بالطَّبْع، المُتَحَابَّتَانِ بالجوهر والغريزة(11).

وما قصده ابنُ رشد من هذه المقولة، هو أنَّ أيَّ خِلاف ظاهريٍّ بين الفلسفة و الدين يمحوه التوافقُ الباطنيُّ بينهما. و كما يقول الباحث والدكتور مونيس بخضرة:

على الرغم من الاختلاف الواضح بين الشريعة والفلسفة، إلا أنه يبقى اختلافا ظاهريا فقط، وليس باطنيا؛ فباطن كلٍّ من الشريعة والفلسفة متداخلان؛ لأنهما ينحيان المَنْحَى نفسه؛ ألا وهو معرفة الوجود التي تُفْضِي إلى معرفة مُوجِدِ هذا الوجود(12).

نرشح لك: الكِنْدِيُّ فيلسوف العرب: كيف حاول التوفيق بين الفلسفة والدين

المصادر :  
1) فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص 58، تعليق وتقديم الدكتور ألبير نصري.
2) الفلسفة الأسس، ص 24، ترجمة محمد عثمان. 
3) المصدر الأول، ص 18.
4) فصل المقال و تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، ص 24. 
5) من مقال: صدق ابن رشد في المصالحة بين العقل والإيمان للباحث الدكتور مونيس بخضرة. 
6) تهافت الفلاسفة للغزالي، ص 831، تعليق و تقديم أحمد فؤاد.  
7) من مقال: في تفنيد القول بأن الغزالي قضى على الفلسفة في المشرق العربي للباحث و الكاتب عبدالكريم الحجراوي.   
(8) تهافت التهافت، ص 27. 
(9) المصدر السابق، ص 29. 
(10) المصدر الأول، ص 22. 
(11) المصدر الأول. 
(12) المصدر الخامس.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: شيماء يوسف

تدقيق لغوي: عبدالعاطي طُلْبَة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا