الربيع البكر “the virgin spring”: بيرجمان في المرحلة الانتقالية
كان بيرجمان يعيش أسعد فترات حياته عندما كان يصور فيلم الربيع البكر عام 1960. فعلى الصعيد الشخصي كان يعيش في استقرار وسعادة في زيجته الرابعة من عازفة البيانو كابي لاريتي.
أما على الصعيد المهني فكان سعيدًا بالعمل مع المصور الجديد سفين نيكفيست( حيث كان بيرجمان يتعاون دائمًا مع المصور جونار فيشر، لكن الأخير كان مشغولًا بتصوير فيلم لشركة ديزني أثناء الشتاء ولم يكُن متاحًا لمرحلة تحضيرات ما قبل الإنتاج). وكانت تلك هي الفرصة الأولى لنيكفيست للعمل باستفاضة مع المايسترو (كان نيكفيست قد قام ببعض التصوير الخارجي معه من قبل في فيلم sawdust and tinsel عام 1953)، وعلى الفور شعر الاثنين بالتقارب من بعضهما حيث أضاف نيكفيست إلى سينما بيرجمان نظرة جديدة تمامًا ترتكز على تصوير مواقع ثلاثية الأبعاد أكثر طبيعية، وأعمال أقل تعبيرية.
لم يعتبر بيرجمان أبدًا فيلم “الربيع البكر” إنجازًا كبيرًا. فالفيلم يُذكر بالكاد في كتب سيرته الذاتية مثل كتاب ” الفانوس السحري” و”الصور: حياتي في فيلم”. ومع ذلك فهو يعتبر أن جائزة الأوسكار التي فاز بها عام 1961 ساعدته في مسيرته المهنية من الناحيتين: المالية وكسب الاعتبار لأفلامه. وبالرغم من تحفظ المخرج، وبعد أربع عقود، فنقاء رمزية الفيلم المطلقة وسرديته القوية أكدا على أن الربيع البكر ”the virgin spring” أحد أعلى القمم في مسيرة بيرجمان.
فيلم الربيع البكر هو أحد الأفلام القليلة التي أخرجها بيرجمان وكان السيناريو مكتوبًا بواسطة شخص آخر غيره. وهي أولا إيساكسون، التي كتبت له فيلم شفا الحياة ” Brink of Life” قبل عامين، وكانت أولا روائية تحظى باحترام كبير، وتخلق في رواياتها توترًا داخليًا -والتباسًا أخلاقيًا- لما بدا كقصص سويدية بسيطة من القرن الثالث عشر.
قصة فيلم الربيع البكر
يروي هذا الفيلم قصة شابة عذراء تم اغتصابها وقتلها بينما كانت في طريقها إلى الكنيسة، وكيف انتقم والدها انتقامًا قاسيًا من المعتدين.
السويد بين المسيحية والوثنية
يحافظ فيلم الربيع البكر على الإطار والفترة التي كانت فيها السويد تتحول على مضض من الوثنية إلى المسيحية. فكانت إنجيري وهي الفتاة التي تبنتها العائلة تعبد أودين –الإله الأكبر لآلهة الشمال الذي يمثل الحرب والموت- في السر، أما عن توري (ماكس فون سيدو) وزوجته ماريتا (بيرجيتا فالبيرج)، فكانا ملتزمين بالدين المسيحي الجديد. حتى أن بعض الخدم لم يروا كنيسة من قبل، بينما يصف آخرون تلك المباني بالهيبة والخشوع.
كانت فكرة الصدام بين الروح الكريمة للعهد الجديد والوحشية الوثنية المكبوتة تهيمن على الفيلم بأكمله. حيث مثّل العالم الوثني وخرافاته ذلك الرجل العجوز المتواجد عند معبر النهر، والذي كان محتفظًا بصندوق به رفات جثة ظَلّ يرعب بها إنجيري، ومثّله أيضًا سحق المغتصب بغضب للشموع البيضاء المتلألئة التي وقعت من حقيبة كارين.
وقد برز مدلول الوثنية عن النار، الأرض، والماء في عدة مشاهد: من اللقطات الافتتاحية لإنجيري وهي تشعل النيران في المزرعة صباحًا، وصولًا للقطات القريبة من التيار المتدفق في الغابة، وأخيرًا المياه التي تدفقت من تحت جثة كارين عندما رفعت ماريتا -والدة كارين- رأسها في حزن.
أما عن المنظور المسيحي بالفيلم، فتمثله عدة مشاهد مثل إيماءة زوجة توري في خشوع وهي تقدم له الطعام، وصلاة الطعام التي تلتها الساذجة كارين بينما كانت تشارك الخبز والماء مع الرجال الذين هم على وشك اغتصابها.
دور الأزياء في الربيع البكر
أكدت الأزياء التي صممتها ماريك فوز على الفارق بين الطرق القديمة والحديثة في الحياة والدين. فإنجيري ترتدي ثوبًا خشنًا مفكوك الأزرار، بينما ترتدي كارين ثوبًا نسائيًا حريريًا ( “تمت خياطته بواسطة خمسة عشرة عذراء”، كما تقول والدتها بفخر)، تكريمًا لمهمتها المسيحية حيث تحمل الشموع إلى الكنيسة في يوم الاحد، ذلك اليوم المنذر بالسوء في القرون الوسطى.
أما عن توري -الوالد- الوثني الذي تحول (على مضض) إلى المسيحية، فقد ارتدى في البداية ملابس رسمية ثم ملابس همجية فيما بعد كإشارة إلى موقفه المبهم من الإيمان.
نظرة قريبة على شخصيات الربيع البِكر
استطاع الممثل ماكس فون سيدو الذي كان مذهلًا بالفعل في فيلمي الختم السابع “the seventh seal(1957)” والساحر”the magician (1958) أن يخلق شخصية توري المتعجرفة منذ البداية. فهو رب الأسرة الذي سيجعله عناده في النهاية يركع على ركبتيه.
أما عن شخصية إنجيري التي جسدتها الممثلة جونيل ليندبلوم فهي تمثل التهديد المظلم والشهواني لفترة بزوغ الفضيلة المسيحية، في حين تحاول والدة كارين -التي تجسدها الممثلة بيرجيتا فالبيرج- في صمت ضبط النفس تجاه إنجيري والافتتان بابنتها كارين باعتبارها الأمل المشرق للعائلة ولإيمانها.
تعطي بيرجيتا باتيرسون (ماريتا) لكارين لمحة خطيرة عن الغرور والنفاق الديني. فالفتاة مدللة من قِبل والديها، ومع ذلك فهي توصل شعورًا مروعًا وتستدعي الشفقة أثناء مشهد الاغتصاب.
تم تصوير هذا المشهد بحرص لتبرير وحشية انتقام توري. محبوسة في غابة ومحاطة بثلاثة من رعاة الماعز، تم تثبيت كارين على الأرض واغتصابها من الأخوين الأكبر سنًا، ثم التعامل الأخرق معها من أصغرهم.
الانتقام وطلب المغفرة!
طبقًا لمعايير السينما الحالية، لا يبدو هذا المشهد خطيرًا أو مؤثرًا، ولكن عندما عُرض الربيع البكر لأول مرة أثار ضجة كبيرة (في فبراير 1960 في سكندنافيا، ثم عُرض بعد ذلك في نوفمبر بأمريكا). وبالرغم من عدم وضوح المشهد، إلا أن الشعور الواضح الذي جسده المشهد بفقدان الجمال والبراءة لازال يرعبنا جميعًا.
فبيرجمان عديم الشفقة، يُجبر الجمهور على مشاركة كارين في معاناتها، كما هو الحال عندما أدارت رأسها لتحدق في خاطفيها قبل أن تلقى مصرعها. ولهذا قد يتقبل المرء حق الأب في ذبحه للرجال الذين اغتصبوا وقتلوا ابنته الحبيبة، وهنا ستتفاجأ عندما يتم التخلي عن أخلاقيات العهد القديم بعد قتل الطفل الصغير، إلى الإدراك المفاجيء للحاجة إلى المسيحية في التكفير عن خطايا المرء والسعي في طلب المغفرة من الله. فموقف توري المحيِّر في نهاية الفيلم يعكس ارتباك الإنسان المعاصر أيضًا عندما يواجه الخيار بين غرائزه الطبيعية وطموحاته الروحانية.
قد تسود المسيحية -وعندما كانت إنجيري تغسل وجهها في “الربيع البكر“، قد يبدو الأمر وكأنه تحول بقدر ما هو تطهير- لكن مازال بيرجمان يعترف بظلال الإيمان المظلم.
وكما برهن في الختم السابع “the seventh seal” ، يشارك بيرجمان الأستاذين اليابانيين أكيرا كيوروسوفا وكينجي ميزوجوتشي الميل في استحضار العالم في العصور الوسطى بلا ضجة أو مبالغة. فعندما كانت كارين تتهيأ للرحلة، ظهر غرور الشباب كما جرى العرف في ذلك الوقت من خلال لقطات الكاميرا وهي تحدق في انعكاس صورتها على سطح المياه في برميل خشبي. وعندما جلس توري على المائدة تظهر أدواته في جراب صغير يتدلى من حزامه. حتى طريقة انغلاق الباب تبدو حقيقية وأصلية كما كان يحدث في تلك العصور، وأيضًا ذُكر في العديد من المؤلفات، أن رأس ماريتا المائل في ذلك المشهد وهي تصلي في بداية الفيلم، يشبه الأسلوب الفني الذي اتُبع في رسم رأس السيدة العذراء في اللوحات الدينية الإيطالية في القرن الخامس عشر ميلاديًا (من عام 1400م إلى 1499م).
الربيع البكر أقل أفلام بيرجمان شهرة
لم تحقق أفلام بيرجمان نجاحًا على الإطلاق في السويد موطنه الأصلي، لذا كان يقوم بتصوير كُل فيلم جديد له بميزانية دقيقة وصارمة. كان طاقم “الربيع البكر” وفقًا لمعايير هوليوود طاقمًا متواضعًا: فقط إثنين وعشرين ممثلًا وفنيًا، ينتظرون فترة مناسبة للطقس كي يقوموا بإعداد لقطات متقنة تشبه لقطات كيوروسوا عبر الأشجار المتشابكة المتراصة. وكما هو الحال في جميع أعماله، كان أسلوب صناعة الفيلم حميميًا وغير رسمي. حيث كان بيرجمان يُلزم الطاقم بالارتجال من يوم لآخر. كانت أوراق الأشجار تبدو كثيرة مقارنة بالنص السينمائي الذي يتطلب وجود براعم على وشك التفتح لذا كان من اللازم استكشاف أماكن أبعد في الشمال للتصوير بها.
كان لابد من زرع شجرة البتولا التي اقتلعها توري بينما كان يستعد لذبح الرعاة -قتلة ابنته- صناعيًا في حقل مفتوح لأنهم لم يستطيعوا إيجاد مكان في الأرض يحتوي على شتلة أو شجرة. وبالطبع كانت هناك صعوبات في تسجيل الصوت، خاصة في ضوء الليل في بعض المشاهد.
وفي أحد أيام التصوير، كما ذكر بيرجمان فيما بعد، حلق طائران كبيران من فصيلة الكركية بصورة جنونية فوقهم في السماء. وعندما حدث ذلك أسقط الطاقم كُل المعدات واندفعوا على المنحدر ليحظوا برؤية أفضل. ثم اختفى الطائران في الأفق الغربي، وبعدها عاد بيرجمان وزملاؤه إلى العمل وقد شعروا بالتجدد والحماس مما قد شاهدوه: “لقد شعرت بسعادة وارتياح مفاجئ” ثم أضاف:”شعرت بالأمان كأنني في المنزل.”
لقد كان “الربيع البكر” نقطة تحول حاسمة في مواقف بيرجمان تجاه الحياة والسينما. ففي أوائل العقد الذي تلا ذلك، كان يلجأ إلى القضايا النفسية على حساب القضايا الأخلاقية. وكان يتخلى عن البيئة التاريخية كما في the seventh seal، the magician، وthe virgin spring، وكان يصور أعماله بأسلوب أصعب وأقل تكلفًا. لذا كان هذا الفيلم القاسي يمثل وداع بيرجمان للماضي وتمهيدًا للمستقبل، تمامًا مثلما مهدت الخمسينيات الطريق للستينيات بطرق متعددة.
نرشح لك: 15 سرًّا صادمًا من خلف كواليس أفلامك المفضلة