كل الفنون خطيرة- مراجعة فيلم “Velvet Buzzsaw”
رجل يؤدي مع عصاه رقصة روحية، يبث همومه وأفكاره إلى رمل الشاطئ صانعًا دوائر وأشكال أخرى؛ كان هذا هو المشهد النهائي للفيلم السريالي Velvet Buzzsaw. لم تكن عشوائيةً تلك الأشكال التي يرسمها، كل ما يخطه هو جزءٌ من هذا العالم، ولكن العشوائية كلمة مضللة جدًّا، فهل نحن نفهم منها شيئًا ذا معنى؟ ماذا لو كانت العشوائية هي قمة النظام؟ ففي قلب الأشياء توجد متناقضاتها
لقد حمى نفسه من الوقوع في مستنقع الزيف. لم يكن نقاؤه الداخلي يحتمل تقافز المصالح الذي يمر أمامه، كان السكْر مخدرًا للوقت، ولكنه فيما بعد اختار الفرار بروحه إلى الشاطئ، ليحاذي الطبيعة في أبهى صورها، ويصب جل إبداعه لتبتلعه الأمواج إلى اللاعودة. لا وجود لمكان تمحى فيه أية معلومة للأبد، ما يحدث هو أن كل ذلك انتقل من روحه إلى روح البحر، تلك هي الوصفة المثالية كي لا تدهس الفنانَ عربةُ المادية ودفع الأثمان
كل الفنون خطيرة، كلها تضعك على شفا حفرة من السقوط، قد يتجلى الإبداع في أبهى صوره ليقتلك أنت، ليقذفك إلى اللوحة الأخيرة، إلى آخر إبداع سيعري نفسك من الداخل، ربما أمام حشد من المشاهدين يمرون على جثتك فلا يسمعون لك همسًا. نعم الفنون خطيرة؛ فهي تحمل أرواحًا انتهكتها الحياة وأرهقتها، هي عصارة قلوبهم الملونة بدمائهم النازفة.
تمتد الخطوط التي نسجتنا لتتفنن في طرق إلصاق أجسادنا ببعضها، أو ربما تنسل لتفقدنا أجزاءً من ذواتنا نحو الخارج، فتحولنا إلى منسوجات دافئة يتمتع بها آخرون إلى حين، ثم تحرقهم بنار التفاعل بيننا وبينهم.
ربما ما هو مطلوب هو ألا نعبّر عن آلامنا ولا نحاول أن نجسدها، الصمت والتجاوز هما الفنّانِ اللذان لا يتقنهما الجنس البشري، وهذا ما يجعله يحفر قبرًا استراتيجيًّا لنفسه، يختار تابوتًا مخادعًا، يبث السم للآخرين حتى لو لم يرفقه بوصية، فكيف لنا أن نعلم أنى يحين توقف الإبداع بصورته الخالدة؟
الكلمات التي تخطها أقلامنا، واللوحات التي نلونها بحمرة دمائنا، ستتجسد أمامنا روحًا حرة. إشباع الفن بالروح ومزج الخيال بالحياة لن تمر أمامنا صامتة الى الأبد، ستتفتق عن آلامها التي لا ذنب لها بها، بأي ذنب نقذف أرواحنا المعذبة إلى تلك الأوراق البريئة؟ ألم تكن رمال الشواطئ أولى بقاذوراتنا؟!
وفي تلك اللحظات التي ينتصب بها الناس أمام صرح الأسى والألم، يجدون مرايا تعكس أرواحهم هم، فتغدو الأوراق وحيدة بما هي محملة به، لا يمكن لآلامها أن تسيل بسهولة إلا بانتزاع راحة الأعين السطحية التي لم تر إلا انعكاس أنفسها، لن ترى ما الحقيقة ولن تراها، وما الدافع لنحمّل أنفسنا فوق أحمالنا أحمالًا؟! أجسادنا لا تحتوي على تجويفات تتسع للآخرين؛ فهي ممتلئة حد التقيؤ، وكل منا حريص على إفراغ أجزاء منه إلى ورقة، أو يقذفه في جسد آخر، أو يتركه بضاعةً رخيصةً في العلن تلعنه كلما داسها أحدهم.
عن ماذا يتحدث فيلم Velvet Buzzsaw؟
ربما تكون العادة كتابة مراجعة شارحة للفيلم توضح تأويلًا ما لمشاهده، لكن هذا الفيلم الاستثنائي قد يحتاج لنص يشبهه في كيفية التعبير عن الفن، ذلك المجال الذي يميز الإنسان عن غيره، المجال الذي يجعله يتسامى على لحظاته الآنية ورغباته الصارخة للإشباع؛ فيكفي أن يحرص أحدهم على اقتصاص جزء من وقته للتركيز في رسم لوحة أو كتابة شعر أو نحت تمثال. قد نبرر الفن على أنّه رغبة في البقاء عن طريق تخليد الاسم، أو قد يكون وسيلة للتعبير عن مكنونات النفس، وبالتالي نشر تلك الأفكار، لكن يبقى الشيء المحير بالأمر هو انفتاح أي إبداع على التأويل، يعني أن المتلقي سيرى الإبداع بعينيه لا بالفكرة الأصلية التي كانت برأس الفنان نفسه، كما أن أعظم الفنانين لم يكسب فلسًا واحدًا ولم يشاهد أحدهم صنعه في حياته.
في الفيلم انتقاد واضح للرأسمالية وتوغلها في كل تفاصيل حياتنا، حتى الفن تم استغلاله بصورة تجارية، “فما أسهل الحديث عن المال مقابل الحديث عن الفن”، فها هي لوحات أشهر الفنانين تباع بمليارات الدولارات بينما كان يعاني راسمها مرار الفقر، فبأي حق يتم استغلال الفن للتكسب من وراءه؟ أليس للفن رسالة إنسانية من حق أي شخص رؤيتها؟ والأهم، من حقه تأويلها؟
من يفهم الفن؟
يناقش الفيلم شخصية النقاد الذين يحكمون على الأعمال الفنية بالشهرة والانتشار الواسع، أو بالموت والمثوى الأخير في أحد المعارض المنسية، فما هي الميزة الخارقة التي قد يملكها أي شخص لتصنيف الجيد والرديء من الفن؟ وهل الفن يمكن الحكم عليه موضوعيًّا؟ والسؤال الأهم من الذي سينتقد الناقد؟
اختلاف زوايا نظر البشر يؤدي لتنوع في مصادر الإبداع، وهذا بدوره يؤدي إلى اختلاف في الآراء بهذا الإبداع، فمن الناس من تفرض عليهم عقلانيتهم، وربما تفضيلهم للقصد المباشر، حبًّا للأعمال الفنية الكلاسيكية التي تكون أشبه بصور فوتوغرافية، وأعتقد أن هذه الفئة بالتحديد لن يستهويها هذا الفيلم. وآخرون من البشر يعشقون التأويل؛ فيميلون للفنون الأكثر غموضًا بحيث يرون بها أشياء لا يراها غيرهم، وهذا ما يميز الفن عن العلم مثلًا، لا يوجد منهجية موضوعية للحكم على العمل (مفيد أو صحيح)، فلا أهمية لهذه الصفات.
هل ينتقم الفن لنفسه؟
“الاعتمادية تقتل الإبداع، الإبداع يلهو مع المجهول، لا توجد استراتيجيات قط تحد العالم الأبدي للابتكار. ثقتك بنفسك فقط هي تلك التي ستدعمك لتجاوز مخاوفك وكل ما أصبح معروفًا لك”.
كانت هذه الكلمات التي قرأها أحد الفنانين في الفيلم، حيث شعر بعدم قدرته على الرسم في مرسم في وسط المدينة والضجة ووسط مخططاته للمشاركة في المعرض، كأن موهبته تعانده لأنه يريد استغلالها للشهرة والمال، بينما نجده قد فتحت قريحته للرسم على شاطئ البحر حيث ستمحي الأمواج كل رسوماته، فما دلالة هذا؟
المحور الرئيسي للفيلم يتحدث عن فنان مغمور توفي موصيًا بالتخلص من لوحاته، لكن إحدى القاطنات في نفس البناية والتي تعمل في أحد المعارض استغلت الفرصة لعرض تلك اللوحات وبيعها بأغلى الأسعار، وخاصة أنها حظيت بانتقاد إيجابي، كانت فحواه ستكون حرفية بشكل مرعب “كأن هذه اللوحات تمتلك روحًا”، وهذا ما لاحظه فعلًا كل شخص حاول التحديق فيها أو بيعها واستغلالها، ولكن هل هي مجرد فكرة مرعبة ساذجة؟
هذا السؤال أربطه بالسؤال السابق حول الرسم على الشاطئ، فالإبداع شيء يتعالى بالإنسان على واقعه المادي، فكيف قمنا بتحويل هذا الإبداع إلى مادة تباع وتشترى ويتاجر بالآراء عنها؟ إذا ما اكتفى المبدع بانطلاقته الروحية سينتقم الفن لنفسه بالصمت ربما أو بالقتل
وتبرز هنا العلاقة مع فيلم Nightcrawler؛ حيث نوقش به استغلال أحداث القتل والعنف لصنع مادة إعلامية مبهرة تتلوها الشهرة والثروة، دون أدنى اعتبار للإنسان وروحه أو خصوصيته، فالفن أيضًا واجهة لاستغلال الإبداع البشري من أجل تحقيق الشهرة والمال.
مفارقة النقد
من المثير للنقاش أن هذا الفيلم حصل على انتقاد لمحتواه وقد قيل بأفضلية Nightcrawler عليه، مع العلم بأن أسلوب معالجة القضايا كان مختلفًا تمامًا؛ ففي حين أن الأول درامي بحت، جاء الثاني بقالب سريالي فوق واقعي بمشاهد لا تخلو من الرعب. فهل يحق للنقاد انتقاد فيلم ينتقد من يوقف الإبداع على كلمةٍ ورأي من أحدهم؟