الانتحار… هل المنتحر على حق؟
١- مقدمة: الانتحار
كان بودِّي أن أفتتح مقالي عن موضوعٍ حسّاس للغاية كالانتحار ببدايةٍ تليق به؛ كأن أبحث -مثلًا- عن الأصل اللغوي لكلمة (انتحار)، والفعل (انتحر)، واشتقاقهما وتطورهما، متبعًا خطى ومشاعل فلاسفة اللغة، أولئك التحليليون العظماء، حيث أنهم يرون أن كل مشكلاتنا في الأصل زائفة، وبمجرد أن ندقق في أصلها اللغوي، ونفتش عن أصل ألفاظنا وفصلها، ستنتهي في الحال، من تلقاء نفسها، هكذا!
ولكنني سأختصر كل هذا وأدخل في صلب الموضوع مباشرة بدون حذلقة لغوية.
يعد من البديهيات -في بيئتنا وثقافتنا- أن الشخص المنتحر أو الذي يقدم على الانتحار، أو الانتحار عامة، هي حالة هروب جبان من تحمل الحياة، أو حل مؤقت لمشكلةٍ دائمة، وإلى آخره من العبارات العظيمة التي تستحق الاحترام وعدم الالتفات إليها. ويعدُّ بداهةً أيضًا أن نجلس ونحلل حالة المنتحر، وندرس دوافعه وتطور سلوكه، ونفتش في يومياته الخاصة أو الانطباعات التي تركها على المحيطين به، ثم ننتقل من الخاص إلى العام، كي نفهم ظروف مجتمعه، ونستخلص نتائج، وهكذا.
كل ذلك ليس لفائدة الشخص المنتحر بصراحةٍ شديدة، فما الذي نفعله لأجله؟ إنه قد ذهب وانتهى الأمر، إنه من أجلنا نحن، كي نقي أنفسنا نحن، عظيم جدًا؛ خلاصة القول أن هذه الأبحاث غرضها إثبات أن هناك (خطأ ما) قد حدث، جعل الشخص ينتحر!
ما رأيكم -والحال هكذا- لو كان هذا الـ(خطأ ما) الذي حدث، هو بالنسبة لبيئةٍ أخرى وثقافة أخرى هو (عين الصواب)؟
ما رأيكم أن مسألة إنهاء الفرد حياته طوعًا، يعد في ثقافات أخرى شرفًا وبطولة؟!
٢- الانتحار في ثقافة الشرق الأقصى:
إنني لا أهذي أبدًا، إنه أمر واقع، لقد كان فرسان الساموراي، ورهبان (الزن) يعتبرون الانتحار عملًا يضفي عليه الشجاعة:
أن يحدد الرجل مع الموت لقاء، بدلًا من أن يباغته… يعتبر شرفًا، بل إنهم كانوا ينتحرون ويتركون ورائهم قصيدة كأنشودة وداع أخيرة، تسمى قصيدة موت، تعطي انطباعات مختلفة، منها مثلًا: انطباع بالحكمة:
هذا هو اليوم الأخير
الذي سأرى فيه البط
يصيح على بحيرة أبوار
بعدها سأتلاشى في الغمام
أو انطباع بالرضى:
أتمنى الموت في الربيع
أدفن تحت أزهار رائعات
والقمر الربيعي بدرًا
في طور الكمال
أو بانطباع عن خلاصة القول:
كلا المنتصر والمهزوم
قطرات ندى!
صواعق برق!
هكذا ينبغي أن نفهم الكون
أو:
لو حان وقت موتك
ورحلت هذا خير
لو بقيت
هون عليك
فالأمر كله خير
أو بشجاعة:
طوال حياتي وأنا أشحذ السيف
الآن أقف والموت
وجهًا لوجه
وقد جردته من الغمد
وأسفاااه
أو:
أن أرحل جالسًا أو واقفًا سيان
فلن أترك خلفي
سوى كومة عظام!
أتيت إلى العالم صفر اليدين
وسأتركه حافي القدمين
مجيئي، ذهابي
أمور ساذجة
أنا لم أولد
فأنا لم أموت!
أو بسخرية من كتابة قصيدة موت نفسها:
قصائد موت
لا تعدو عن كونها وهم
فالموت هو الموت!
أو بسخرية وفكاهة:
سواء أكان ينتظرني هناك فردوس
في التخوم البعيدة في الغرب
فهذا لا يعننيي في شيء!
أو بنكتة:
قم بدفني
في حانة… عندما أرحل
أسفل برميل
من النبيذ المعتق
بقليلٍ من الحظ الطيب
سأحظى ببعضه إذا
تسرب
إن شرف الانتحار، يمنح لذلك الذي لم ينتحر ساخطًا على الحياة، كالعبد المجلود، ولا أرادها أن تكون على غير ما هي عليه، كشخصٍ حالم وفنان ساخط، أو لأنها لم تمنحه فرصة، فلقد نال فرصةً بالفعل، أو انتحر لأن فرصته ستتوافر بعد الموت، فهذا هو التوق للحياة؛ فلماذا انتحر؟
إنه ينتحر في ذروة قوته، مبلغ يقظته، هادئ الانفعال، معلنًا بجسارةٍ احتقاره للحياة، بما فيها من لذة وألم سويًّا، وما فيها من أفراحٍ وأتراح!
باختصارٍ شديد: إنه أنجز كل شيء ممكن.
إن هذه القوة وتلك الرصانة، تضعنا (نحن) في موقفٍ حرج، إنها تكشف وتعرِّي جبننا الغريزي: إذ كيف انتحر طوعًا؟ ونحن ترتعش أقدامنا على الأسطح، ونشعر بألمٍ في أسفل المعدة ونحن نشاهد عمال البناء والمحارة يقفون على ألواح السقالة، ونصرخ حين نرى إبرة حقنة، نرتعب من مس تيار كهربائي، ونبحلق حين يُكسر ذراع لنا غير مصدقين أنه كُسر، ومشهد المشنقة كفيل بجعل كل سيداتنا الرقيقات يغمى عليهن؛ فما بالك لو مثلنا لهم كيف كان دق العنق في قصص التاريخ وقطع اليد! كل هذا، استهان به إنسان واحد؛ كيف يسخر منا ومن ضعفنا بهذا الشكل؟ لابدَّ أن ننتقم!
إنه ليس نحن من ننتقم، إنها الغريزة التي تتكلم.
إنها نفس الوسيلة القديمة التي لا نستطيع تغيرها: إسقاط جبننا ومخاوفنا على شخصٍ آخر، نقول عنه إنه جبان، إنه غبي ومتهوِّر (وحدِّث ولا حرج عن الذين يقولون عنه كافر).
إن أول شخص يسخر منا بحدَّة، ويسألنا: متى ارتدى الناس ثيابهم وكانوا عرايا؟ ينال مالًا يرضيه في الحال!
٣- الانتحار من ناحية المنطق: من الذي يحتاج تبرير موقفه؟
فلنأتي إذن للناحية المنطقية -التي يحبها تلك العنكبوتات المريضة التي تجلس أمام شاشات الكمبيوتر وتحضر الندوات الثقافية-:
من الناحية المنطقية لا يحتاج المنتحر لتبرير موقفه إطلاقًا، إن الموت حتمي وهو لم يؤجله.
بل على العكس، ومن الناحية المنطقية أيضًا، نحن المطالبون بتبرير موقفنا (وهذا بالمناسبة ما يفعلونه غريزيًّا حين يفتشون في حياة المنتحر ليثبتوا أنه مختل ومريض!).
ما جعل الانتحار شيئًا عجيبًا، هو نفس خطأ تفاحة آدم، هو جعلها محرَّمة، فأصبحت لذيذة. أنا لا أشجع على الانتحار؛ الناس ستنتحر سواء قرأت مقالي أو لم تسمع به نهائيًّا، أنا أقصد امنحوا الناس حقهم في الانتحار، قولوا لهم أنتم لستم عالقين هنا، إنها حياتكم أنتم، في أي وقت تحبون المغادرة فهذا بين أيديكم، أنتم، مرة أخرى، لستم مسيرين ولا عالقين هنا.
حتى الآن… كل هذا الكلام كنت أتناقش فيه مع إنسان جميل -وكما قال تشيخوف (إذا كانت الكتب هي النوتة فالحوار هو الموسيقى)- وكان يعمل صول في وزارة الداخلية، وكان رجل متواضع للغاية، وحكيم، يحب الرشاوي والفياجرا ويحب أن يعيش في هدوء، قال لي:
– يا أخي، لا تتكلم هكذا، ولا تحدثني عن أصحاب العيون الضيقة القصار هؤلاء اليابانين الملاعين، والرهبان القرع هؤلاء عبدة الأصنام الزنادقة، ربما كانت شوربة الزواحف والسحالي والأبراص التي يكرعونها، قد نقلت عدوى الاكتئاب من تلك الزواحف الكئيبة، وأفخاذ الكلاب المحلية التي يشوونها ويأكلونها مصابة بالسوداوية، كلمني عن مجتمعنا هنا، هل يوجد انتحار هنا؟
نعم، وتذكرت ساعتها، تحت تأثير (النوتة الموسيقية) التي خرجت من فم هذا الرجل، وأنا أنظر في كرشه تحت البلوفر الأزرق، متى كانت أول مرة لي أحتقر فيها الحياة، وأرغب في الموت.
٤- متى كانت أول مرة أحتقر فيها الحياة:
كان عمري آنذاك خمسة عشر عامًا، وكانت الآلة الإعلامية الجبارة في التلفاز والمدارس مشتعله بقضية فلسطين، وغسيل الدماغ على أشده، والأغاني والصور والمهانه التي نراها في الاحتلال، وتخلب عقولنا تلك البطولات التي يؤديها الشباب -ليس العجائز الذين يقرعون كؤوس الشامبانيا مع إسرائيل منذ أربعين عامًا، ويديرون خارطة الطريق أو محادثات السلام، أو أولئك الذين يشاهدون التلفاز ويجلسون في المقهى-.
كان كل واحد منا يتمنى لو كان مكان الشاب الذي فجر نفسه في كمين، مرتديًا حزامًا ناسفًا، أو الفتاة الجميلة جدًا التي ضحت بزهرة شبابها في سبيل (القضية)، جمالها وحده يجعلك تحتقر نفسك، كيف تعيش أنت أيها القبيح بينما هذه تضحي بنفسها؟ أقسم أن هذا المسح الأيدولوجي من قبل المغنين ومنتجي الأفلام -أمد الله في أعمارهم في المنتجعات، وحفلات الجنس الجماعي، وأعانهم على استكشاف المواهب الشابة في غرف الفنادق- كان يخلب عقولنا أكثر من قصص الحب والروايات الرومانسية، إنه معنى الحياة وغايتها أمام أعيننا، أن نصبح شهداء! ويبدو أن الحكومات وقتها كانت تطبق سياسة التخلص من الزيادة السكانية.
يومها قلت لنفسي: إذا كنت سأموت على أي حال، في التسعين أو الآن، لماذا لا أموت بطل؟!
إمعاناً في السادية، كانت الأمهات تزغرد بعد الانفجار، أو تحضر جنازات بنتها بلبس أبيض وفرحة مستبشرة، والهتاف يعلو، أنا متأكد أن أي إنسان في العالم، سيتعرض لهذه المواقف أيًّا كانت الدولة التي ينتمي لها، لم نكن نعلم أن هناك ما يسمى -عدم المؤاخذه- جيوشًا، ما هي مهمتها؟ لم يجيبنا أحد، ولم نريد تلك التسويات السياسية، الثأر الثأر، خطب مساجد، أفلام، قصص، مدرسون، هياج جماعي، هستيريا يعرفها الصيني في عهد ماو، والألماني في عهد النازية، انضم للجموع!
أقسم لكم بشرفي أنني عرفت طالبًا في المرحلة الإعدادية، ترك بيت أهله وقال لي: أنا ذاهب لأحرر فلسطين. ولم يعرفوا عنه شيئًا بعد ذلك اليوم!
ها قد وضعت يدي على مشهد انتحاري بامتياز -عزيزي الصول- عندما تنتحر من أجلهم، من أجل قضيتهم، أرضهم، تاريخهم، وطبعًا طبعًا رفاهيتهم، تصبح بطلًا، صنديدًا، ملاكًا، عظيم جدًا.
عندما تنتحر لأسبابك الخاصة، تصبح كافرًا، أنانيًّا، جبانًا، ومصيرك جهنم، عظيم جدًا.
وهنا يأتي سؤال هام: هل يملك كل واحد منا أولًا حياته، قبل أن يقوم ثانيًا بالتفريط فيها؟ هل فكرت عزيزي المنتحر أو المقدم على الانتحار، أنك تمتلك حياتك أولًا؟
٥- هل تملك حياتك؟
لن أذهب بعيد جدًا هذه المرة، سأذكر أشياء قريبة من بيئتكم المحلية: هل سمعت عن الفتاة الجميلة التي تسكن في شارعكم الخلفي، التي انتحرت، لإن مجموعها في الثانوية العامة لن يمكنها من دخول كلية الطب، كما يرد والدها ووالدتها؟
سمعت عن ابن فلان الذي ضحى بنفسه لأجل الوطن؟ أو ابن علان الذي مات في مظاهرة أو انضم لجماعة دينية وقُتل؟ وبالطبع سمعت عن الرجل الذي لم يكن يُسمع له حِسًّا وقتل زوجته وأطفاله فجأة لأنه شك في خيانتها، وذلك الرجل الذي مات بالسكتة القلبية لأنه خسر ثروته في البورصة أو تحطمت سيارته الجديدة!
وإن كنتِ لم تسمعي يا سيدتي أن هناك مبشرين مسيحين، تركوا أراضيهم -في زمن ما- التي تقع في أقاسي الأرض، ليعبروا بحار وجبال وأنهار، كي يصلوا لليابان، كي يدخلوا اليابانين في المسيحية (وكان اليابانيون يخطئون في ترجمة كلمة إله من لغتهم، فدخلوا المسيحية على أساس أنها شيء آخر) وتحملوا التعذيب والقتل والحرق البشع، لأجل رسالتهم؟
كل هذه الشواهد تدلنا على أن هناك غريزة أقوى -وليس كما يظن العلماء البلهاء- من غريزة الحفاظ على البقاء، إنها غريزة القوة، وإرادة السيطرة.
قال رجل عصابات شرير، وسفاح محترم، ذات مرة يلخص حياته، حيث صرَّح بقولٍ فلسفيٍّ -لم يخرج من فم أحكم الحكماء-: “أنا لا أريد أن أكون عبارة عن مُنتج من بيئتي، أنا أردت أن تكون بيئتي، من إنتاجي”.
تعالوا نحلل الحالات بدقة: تلك الفتاة التي انتحرت مثلًا؛ لماذا لم يصبح أبوها أو أمها طبيبًا؟ هل جاءت كي تحقق أحلامهم التي فشلوا فيها؟
هل اختار الجندي، الإرهابي، المبشر؛ أرضه ووطنه، دينه، لغته، أسرته، جيناته، كل شيء وجد نفسه عليه؟ حتى مبادئه التي مات من أجلها؟
هل ذلك الرجل المليونير وأخوه القاتل لديهم مفهوم شخصي خارج الدعاية والإعلام عن السعادة؟ أليست السعادة في الغنى؟ لماذا نصبح أغنياء، طالما الأغنياء يعيشون تعساء؟
تلك المحرقة الجماعية، ذلك الهلوكوست، التي تتسلمنا بعض قص الحبل السري: الأسرة، العائلة، المدرسة، التلفاز، الإعلام، الديانات، الفلسفات، المذاهب التي تسعى للسعادة وتحسين الحياة، الدعاية، الخطب، الوعظ، الجامعات، التي تجددنا يومًا بعد يوم، حتى تصل إلى نخاعنا الشوكي، ونظن أنا نمتلك دينًا ووطنًا ولغةً ومصيرًا، بل هدفًا ومعنًى للحياة، بإرادتنا الحرة، نعتقد أننا نمتلك كل هذا، ونحن يمتلكنا كل هذا، نحن مستعبدون من كل هذا، حتى يصلوا إلى التشويش على أقوى الغرائز فينا، بلطفٍ ورقَّةٍ شديدة، فنائنا وحياتنا وموتنا يصبح في النهاية ملكهم!
كم كان (نيتشه) عبقريًا حين قال: “إنه لمشاهد رديء للحياة، من يغفل تلك اليد، التي تقتل برفق!”
كل تلك الأشياء التي تقول لنا أننا أحرار، ونمتلك إرادة، كل مصانع البويات التي تطلينا بنزين وألوان كي تجهزنا للحرق، على طريقتنا طبعًا هل امتلكنا حياتنا؟ من نحن؟
– لكي نغير ما نحن عليه، يجب أولًا أن نعرف ما نحن عليه. (بروس لي)
إننا نولد مرتين، مرة طبيعية، ومرة حين نسلخ جلدنا، ونهدم كل شيء، ونبنى من جديد، حين نفكر ونراجع كل شيء، ونفقده تمامًا، ثم نكتسبه من جديد.
طبعاً سيعترض على كلامي ميكانيكي سيارات مخضرم، وهو يضع السيجارة في طرف فمه، ويقول لي وهو يسخر مع أصدقائه المُشحمين بالزيت:
– معذرةً أيُّها المثقف المتحذلق!
-…
– ليس لدينا رفاهية ولا وقتًا كي نفكر في مثل تلك الأمور، هل لدى كل واحد منا وقت كي يراجع كل شيء سواكم أنتم يا أصحاب النظارات؟
– معذرة يا صديقي الميكانيكي: فكم مرة تعيش؟ وإذا لم يكن لديك وقت تفحص حياتك وأنت منبطح تحت شاحنة أو تذهب لمولانا كي يخرج الجن من زوجتك، فمتى سيكون؟ لكنني أهنئك على شجاعتك على أيِّ حال.
إن التغير الذى أنشده وإعادة امتلاك ذاتك، لا يعني أنك ستتحول من زنجي إلى أيرلندي -والعياذ بالله- أو أي من عناصر بيئتك سيتغير من حولك، أنت فقط سترتب العالم من جديد في رأسك، إن الكتب وجدت قبل المكتبة، هذا صحيح، ولكن في مرحلة ما ستكتشف أن المكتبة وجدت قبل الكتب!
إذا كنت مقدمًا على الانتحار فليس لديك ما تخسره، خذ حفنة من الحقائق، وقت قليل ستفكر فيه، وسأقص عليكم قصة.
كان هناك راهب صيني أو كوري، من آكلي الأبراص والسحالي المكتئبة، وليس لديه دستة أمشاط لأنه أقرع، ومصاب بالقولون والزكام، قال لتلاميذه إن راهبًا شابًا قد وصل إلى درجةٍ عاليةٍ من التنور، فضرب التلاميذ كفهم بكف وقالوا: أمعقول هذا، أتتكلم عن فلان!
فذهبوا وسألوا فلان:
– سمعنا أنك صرت مستنيرًا!
– بلى! إني كذلك!
– وكيف تشعر الآن!
– لم يتبدل الحال، لازلت بائسًا كما كنت من قبل!
لا شيء تغير، داخليًّا فقط.
فإذا كنت قد تخلصت أخيرًا، من أقسى نكتة تبلعها في حياتك: هي أن تموت بوعي مزيف، دعنا نعرف مقدار آلامك.
٦- ما هو مقدار الألم الذي تعانيه؟
يُحكى أن امرأةً في الأربعين من عمرها، أنجبت طفلًا جميلًا بعد سنوات طويلة من اليأس، مات زوجها بعدها، ولكنها أغرقت حزنها في حنان ترضعه لابنها حتى كبر.
للأسف تعرض الولد لحادثة، وأقعدته مشلولًا، في البداية كانت ترعاه، ولكن -وهذا أمر يعرفه كل من عاش طويلًا مع شخصٍ كهذا- تملكها اليأس واستبد بها الألم، حتى انتحرت، شفقة على آلام ولدها التي لم تتحملها؛ ولكن تم إنقاذها، ولم يعرف ابنها بالأمر.
في اليوم التالي ذهبت أمه لزيارته، فقال لها: أمي هل علمت بما حدث؟ البارحة انتحرت ممرضة بسبب قصة حب؟ أتصدقي هذا؟ ألا يكفي أن لديها قدمين؟ أتعرفي أنا لو كان لدي قدمين كنت عشت عشر قصص حب وراء بعضهم مباشرة!
أتعرفون أنتم شيئًا؟ إن الذين يتألمون حقًا، العمي والخرس والعجزة، حتى الذين يتصورون حياة أخرى بعد الموت، لديهم شوق جارف ليعيشوا الحياة، من ينتحرون في الغالب متمركزون حول ذواتهم، أو مشفقون عليها كأم الولد المذكور!
هل أنتم في حالة متأخرة من السرطان؟ هل أنت حالة ميؤس منها وتتألم جسديًّا كل يوم؟ هل ولدت بغدد قزم؟ جرب أن تتخيل نفسك قزماً، أو ولدت ولك ذيل مثلًا، أو مجنونًا في العصور الوسطى، كي ترى كيف ستعاملك كنيسة الحب!
حين يحاصرنا العالم، نلجأ لأنفسنا، هذا صحيح؛ لكن حين تحاصرنا أنفسنا نفتح صدورنا للعالم.
أنا أكتب هذا المقال ولم تصيبني حتى الآن أي من أحزان الحياة الكبرى: لا موت عزيز ولا مرض شديد ولا كارثة مروعة، لكن، يطيب لي وأنا بكامل صحتي أن أتدرب على عذابات رياضة جسدية صعبة -أبدو لبعض سيدات المنازل أو لموظفي البنوك السمان مازوخيًا بالمناسبة- ولا أفوِّت فرصة أقرأ فيها أو أستمع لتجارب معاناة وألم، أقرأ في تاريخ البشر والحيوانات، كي أملأ صيدليتي الروحية، كي أعرف في الوقت المناسب أن أحتقر آلامي، وأعرف حجمها في العالم من حولي.
٧- ماذا عن فقدان المعنى؟
يقول شخص ما: ماذا عن فقدان المعنى؟ حسنًا، سأقص عليكم قصة…
في إحدى الأيام الشتوية، كانت تجلس معي فتاة جميلة ورائحتها كرنب بيتي ملفوف زكية، وتتفحصني من شحمة أذني حتى كعب رجلي كزوج محتمل، لتحسين جينات أطفالها، وبعد كلام معتاد سألتني:
– أخبرني… لماذا تعيش؟ ما الذي تعيش لأجله؟ ما هو هدفك في الحياة؟
ما الذي يجعلك تتحملها؟
فنظرتُ إليها وقلت:
– كنت البارحة في الجامعة لغرضٍ ما، ركضت وكنت أرتدي (ترينج) رياضي، وصعدت هضبة ورأيت الناس وهي تختبئ كما تختبئ السناجب في جذوع الشجر والنمل تحت الأرض، ولكنني أبصرت مشهدًا بديعًا من الضباب من تحتي، والشجر، وعلى مرمى البصر الجبال، والسماء الملبدة بالغيوم، فركت يدي ونفخت فيها، وقلت يا سلام، ياله من مشهد جميل جدًا، وددت لو عشت ألف عام!
فتفحصتني مرَّة أخرى، وشكت أنني مختل عقليًّا، وقالت:
– ما هذا الذي تقوله؟ أنا لا أفهم أي شيء، أنا أسألك عن أهدافك، مستقبلك، حياتك العملية، مستقبلك!
– بالطبع لي أهدافي العملية ومستقبل مشرق، لكن ماذا سأفعل بعدما أكون أقوى رجل في العالم، وأذكى رجل في العالم، وأحقق كل أهدافي وأصبح غنيًّا جدًا، رائعًا جدًا، ما الذي سأفعله بعد كل هذا؟ سوى أنني سأجلس فوق الهضبة وأستمتع بنفس المشهد!
– لا، ستصبح ساعتها سعيدًا!
– آه، هذا هو بيت القصيد!
– يبدو أنك تحتاج الذهاب لحلاق، لابد أن تحلق رأسك كلها!
– حسنًا، ولكنني متخاصم مع حلاقي؛ لكن سأذهب إليه كي يسعدني بمقصه.