الإرادة الحرة بين ديكارت وسبينوزا
ضمن أعمال سبينوزا، وكذلك أعمال ديكارت، تأتي المشاكل المُتعلِّقة بالإرادة الحرة في المقدمة. وفي هذه المقالة، سأشرح أولًا مفاهيم سبينوزا وديكارت حول حرية الإرادة ووجودها ومجالها. ثم سأقوم بعد ذلك بوصف الاختلافات بين مواقفهم الفلسفية، وسأجادل لصالح وجهة نظر سبينوزا في هذه المسألة. وأخيرًا، آمل أن أوضّح أنّ موقف سبينوزا الأكثر حتمية في هذه المسألة يتجاوز مجموعة المشكلات التي تنتج من توافقية ديكارت.
الإرادة الحرة لدى سبينوزا
بحسب سبينوزا فإنه لكي يكون الشيءُ حرًا تمامًا فإنه يجب أن يكونَ غيرَ مُسيّر من كُل النواحي وأن يكون أيضًا عِلّة لنفسه. بالإضافة إلى ذلك، ولأنه يعتقد أنه لا يوجد سوى جوهر واحد يُسَبِّب نفسه، والذي هو الله أو الطبيعة، وبما أنه يَنُصُّ على أنه غير مُسيّر لأن وجودهُ مُطابقٌ لجوهَره، يترتب على ذلك أنه بسبب أن جوهره ذو طبيعة مُسيّرة-ذاتيًا، فإنه بالضرورة يوجد بدون الاعتماد على أي كائن آخر. وأيضًا، ولأن الله غير مُسيّر، فإن كل الأشياء التي تُستَمَدُ منه تكونُ حالات modes لصفاته. ولا يجب فهمها على أنها بنفس المستوى من الحرية مثله. وهذا بحسب سبينوزا لأنه، لا يمكن أن يوجد سوى جوهر واحد، وهو الله، وما يأتي من صفاته اللامتناهية الكثيرة، مثل الناس، ليسوا أحرارًا بالكامل ولكنهم بالأحرى يعتمدون فيزيائيًّا وعقليًّا على وجوده من أجل استمرارهم.
وبعبارة أخرى، بما أن الجوهر هو وحده من يستطيع أن يكون حرًا وغير مُسيّر، فيعني ذلك أن الله -ولكونه عِلّة لنفسه- هو وحده من يُمكِن أن يُنسب إليه بأنه الجوهر الواحد المُستقل، بينما الناس، والذين هم بمثابة امتداد له وكائنات عاقلة أيضًا، فإنهم مُقيّدون بقوانين العقل والجسد، وهم كذلك لأنهم حالات modes من صفات الفكر والامتداد عند الله. وبناءً على ذلك، لكونهم حالات modes من صفات الفكر والامتداد عند الله، فإنهم بمثابة تعبيرات محدودة عن الله لأن الله وحده هو من يمتلك الكثير من الصفات اللامتناهية، بينما الناس لا يملكون أيًا منها، ولهذا فما يتصوّرونها على أنها إرادتهم الحرة ليست سوى طريقة محدودة وضيّقة لِتَمَثُّل إرادة الله.
هذا لأنّ الناس لا يستطيعون تصور الله إلا بطريقتين وبالتالي فإنّ قدرتهم على التعبير عن صفة الحرية عند الله محدودة بالقوانين العقليّة، وكذلك الفيزيائيّة التي تَتَسَبَّب في فهم المرء لله على أن يكون ذلك فقط من خلال صفتَي الفكر والامتداد. وأخيرًا، يمكن أن يفهم المرء أنّ هذا نتيجة لمحدوديّة الطبيعة البشريّة، ولأن المرء لا يستطيع تصور كلّ صفات الله بشكل كافٍ، فهو/هي ليس حرًا بلا حدود، وليس على المستوى نفسه من الحرية مثل الله.
بالإضافة إلى ذلك، يدّعي سبينوزا أنّ الطرق التقليدية في فهم الإرادة الحرة كانت خاطئة، لأنها ليست مَلَكَة مُستَقِلة للعقل، بل هي فكرة تساعد المرء على الاستمرار في وجوده، حتى لو لم يكونوا مدركين لها تمامًا. وهو يعتقد أن الإرادة الحرة ليست مَلَكَة مُستَقِلة للعقل لأنها متساوية في حقيقَتِها مع أي مصطلح محمول على ذاته يمكن للمرء أن يصنعه، ولهذا، فلا يمكن للمرء أن يدّعي أنها تأخُذُ الأسبقيّة على باقي المَلَكات العقليّة المُفترضة.
وبالتالي، بما أن كلّ المَلَكات حقيقيّة بشكل متساوي، فهو يدّعي أنّ العقل هو في الواقع مُفرَد في الطبيعة، وأن مَلَكات العقل ليست في الحقيقة مُنفصلة، ولكنها بالأحرى، تكونُ واحدة ونفس الشيء. وأخيرًا، يمكن للمرء أن يستنتج أنه لأنّ كل مَلَكات العقل حقيقيّة بشكل متساوٍ، فضلًا عن أنها ذات قوة متساوية، فإنها ليست مَلَكات حُرّة ومستقلة للعقل ولكنها وِحدة مُتَشابِكة.
ويدّعي سبينوزا أيضًا، أنّ وهم الإرادة الحرة يأتي من رغبة المرء في الحفاظ على وجوده بقدر ما يفهمه في تلك اللحظة. وبكلمات أخرى، فإنّ الإرادة الحرة هي خطأ في التسمية تُعطى إلى ما يتصوره المرء بشكل مُضطرب على أنه قُدرتُه على الاختيار بِحُرّية، لأن وهم الإرادة الحرة هو جزء لا يتجزأ من عملية الحفاظ على من يكون المرء في أي وقت مُعيّن، وبالإضافة إلى ذلك، لأن المرء يسعى بشكل طبيعي للاستمرار في الوجود، فإنه يتبع من ذلك أنّ حرية الإرادة لا تعتمد على الرغبة فقط، بل هي أيضًا دافع يرتبط بما هو جيّد أو سيئ بالنسبة إلى كل شخص.
بالنسبة إلى سبينوزا، عندما يظنّ المرء بشكل خاطئ بأنه يختار القيام بفعل شيء جيّد، فإنه في الحقيقة يتبع فقط ما يؤدي إلى الحفاظ على من هو طالما أنه يفهم نفسه في تلك اللحظة. وبطريقة مماثلة، عندما يفهم المرء نفسه على أنه يختار ما يُعتَبرُ سيّئًا، فإنه يَرجِعُ إلى أنه يُخطئ في الاعتقاد بأن اختياره سيساعده في الاستمرار، بينما هو في الواقع سَيَضُرّ بوجوده. وبالتالي، يُخطئ المرء عندما يعتقد أنه يختار بِحُرّية، لأنه في الحقيقة لا يختار، لأن ما يُزعم أنه جيد هو في الواقع مجرد تحقُّق لرغبة يمتلكها المرء لكي يستمر في الوجود، وما يُزعم أنه ضارّ هو نتيجة لفكرة خاطئة مفادها أنّ إحدى الأفكار ستكون مفيدة لتلك الاستمرارية. وأخيرًا، وبسبب هذا، فإنه يمكن للمرء أن يستنتج بأن هنالك رابطًا بين الإرادة الحرة والمعرفة، طالما أنّ الفهم الخاطئ للاختيار يستمر بسبب الجهل.
ولقد تناول سبينوزا أيضًا مشاكل تتعلق بالمعرفة وبعلاقتها بالإرادة الحرة. ووفقًا له، كلما زادت معرفة المرء، كلما تحسّن فهمه لنفسه، وبالمقابل، تزيد قدرته على التعبير عن حرية الله في أساليبِهِ المحدودة. وبالنسبة إلى سبينوزا، فإن هذِهِ هيَ حُرية الإنسان، وهو يعتقد بأنها ليست حرة بالكامل، ولكنها مع ذلك ما يستطيع الناس أن يستخدموه من أجل مُحاذاةِ أنفسهم مع إرادة الله، بقدر ما تسمح بذلك معرفتهم بطبيعتهم المجهولة. وبالإضافة إلى ذلك، على الرغم من أنه يدّعي أن الإرادة الحرة عبارة عن وهم، إلا أنه يمكن أن تكون المسألة في أن زيادة معرفة المرء بالعلل يمكن أن تساعد المرء على إلغاء تأثيرها، أو تقييد القوة التي تؤثر بها الانفعالات عليهم، أو بعبارة أخرى، فمن خلال تَنمية الفكر يمكن للمرء أن يمتلك قدرًا من السيطرة على حياته بقدرِ ما يكونُ إنسانًا، وليس جوهرًا غير مُسيّر، أو الله.
ويتناول سبينوزا كذلك الوسائل اللازمة لتنمية فكر المرء، من أجل تحسين أساليبهم في فهم قدراتهم للتعبير عن حرية الله. فهو يعتقد أن الناس يمكنهم أن يتأثروا بعلل خارجية، والتي يمكن السيطرة عليها أو إلغاؤها عن طريق تأثيرات أخرى أقوى منها. ومن المهم ملاحظة هذا، لأنه يُمكِنُ للمرء إذا قام بإخضاع هذه التأثيرات أن يستخدم عقله للتفكير في أفكار ذات طبيعة أفضل من تلك التي يمكن أن تمنع المرء من ملاءمة إرادته مع الله، وأيضًا، ولكونه يعتقد بأنّ المرء يمكنه تنمية فكره لأجل هذه الغاية، فبالمقابل، يُصبِحُ المرءُ أكثر وعيًا بمدى حريته، ويمكن للمرء عندئذ أن يستعمل هذا الوعي لكي يساعد نفسه على التغاضي عن تلك التأثيرات بشكل أفضل والتي تتعارض مع طبيعته في ذلك الوقت.
وبالإضافة إلى ذلك، يَنُصُّ سبينوزا على أنه يمكن للناس أن يتغلبوا على التأثير الذي يقع عليهم من التأثيرات الخارجية عن طريق ممارسة المنطق. وهذا كما يدّعي مُمكن من خلال معرفة المرء بطبيعة التأثيرات، وتذكُّر أن معرفة التأثيرات أفضل من الجهل بها، وفهم التأثيرات على أنها تستطيع مساعدة المرء في الحياة الأخلاقية، وأن العقل يمتلك القدرة لإعطاء الأوامر للتأثيرات وفقًا لأهميتها، أو درجة القدرة التي تمتلِكُها التأثيرات على العقل، وهذا لأنه، من خلال معرفة طبيعة التأثيرات يمكن للمرء أن يَتَعَرَّف عليها بشكل أفضل، فإما أن تؤدي إلى أو تضرّ حفاظه على نفسه. وأيضًا، فإنّ معرفة التأثيرات يكون أفضل من عدم معرفتها، بحيث يمكن للمرء أن يستخدم فهمه للتأثيرات لتشكيل أفكار واضحة ومتميزة، والذي يمكنه بالإضافة إلى ذلك أن يَجعَلَهُ يُمارِسُ منطِقَهُ، ومن خلال هذه العملية، يمكن للمرء أن يُطَوِرَ منطِقًا أفضلَ والذي يمكّنه من إدراك قدرته المتأصلة لمعرفة حقيقة الأشياء، أو تلك التي تتوافق مع طبيعة المرء، طالما يمكنهم فهم أنفسهم في ذلك الوقت.
تُمكّن معرفة الله أيضًا من مساعدة المرء للعيش في طريقة أخلاقية، وذلك لكونها أعظم فكرة يمكن للمرء أن يمتلكها، لأن الله بحسب سبينوزا، هو السبب وراء قدرة الناس على ممارسة المنطق والمعرفة في حياتهم من أجل غاية أن يكونوا قادرين على التغلب على التأثيرات التي من الممكن أن تعيقهم عن الاستمرار في وجودهم. وبالتالي، يمكن لهذه القدرة بدورها، أن تقود المرء إلى حُب الله فكريًا، وعند التفكير، يعتقد سبينوزا بأن المرء لا يمكنه احتقار الله حقًا. وهذا يرجع إلى أنه بحسب سبينوزا، فإن المرء يمتلك فكرة كافية عن الله، أو علة كل الأشياء، وهذه الفكرة عن الله لا يمكن أن تُنتِج الكراهية أو الحزن، وذلك لأن هذه المشاعر لا يُشعَر بها إلا عندما لا يمتلك المرء فكرة كافية عن السبب الذي جعلهم يشعرون بطريقة غير اعتيادية مقارنة بفهمهم العاطفي المنتظم لأنفسهم.
بالتالي، وعلى الرغم من أن الله يمكن أن يُساوى بالكائن الذي يُسَبِّب الحزن أو الكراهية في نهاية المطاف، إلا أن قوة هذه المشاعر تعتمد على كيفية سماح الفرد لنفسه بالتأثر بها، وهذا يعتمد على درجة المعرفة التي يمتلكها المرء لما يَجَعَلُهُ يشعُر بهذه الطريقة ولماذا. وأخيرًا، فإن الناس، عن طريق امتلاكهم للقدرة على تنظيم الانفعالات، اعتمادًا على قوتهم، والتي تأتي من قدرتهم الطبيعية على تنظيم الأفكار، بما أنهم جزء من سلسلة السببية التي تتتابع من وجود الله، يمكنهم حقًا إبطال تأثير بعض الانفعالات، ولاسيما تلك التي من الممكن أن يُطلق عليها بأنها شر، أو بحسب سبينوزا، تلك التي تُثَبِّط زيادة قدرة المرء على التفكير.
الإرادة الحرة لدى ديكارت
ووفقًا للفيلسوف ديكارت، فإنّ هنالك جوهر واحد لانهائيّ والذي يمكنه خلق أي شيء بسبب إرادته الحرة الكاملة. وهذا الكائن اللامادي بالنسبة له هو علة وجود العقول، والتي هي جواهر مستقلة وحُرّة مثله. وعلى الرغم من أن ديكارت يعتقد أن الأشياء المُفَكِّرة، مثل الناس، هم أحرار في طبيعتهم، إلا أنه يدّعي أنه لا يجب فهم قُدرَتهم ليكونوا أحرارًا على أنها في مُستوى مُساوٍ لحرية الجوهر، أو الله.
وهذا لأن عِلّتهُم، أي الله، هو على الأقل عظيم بقدر وجودهم، وهذا لأنه سابق عليهم. وبالتالي، يمكن للمرء أن يستنتج أنّ ديكارت يعتقد أن الله أكثر كمالاً من الناس، وبسبب هذا فإنّ صفات الله أكثر قوة من صفاتهم، والذي بدوره، يُمكِن أن يقود المرء للاعتقاد بأن الله أكثر حرية من الناس أيضًا. وعلى الرغم من أنّ هذا ما يبدو عليه الحال، إلا أنّ ديكارت يؤكد أيضًا على أنّ الناس كائنات مُسّتَقِلّة، ويمتلكون صِفاتًا، بما أنهم أيضًا جواهر. وهذا قاده إلى استِنتاج أن الناسَ يملكونَ إرادةً حرة، وأن هذه المَلَكَة هي واحدة من الكثير من الصفات، أو القدرات عقلية الأخرى التي يمتَلِكُها الناس.
وهو يعتقد بالإضافة إلى ذلك، أن المَلَكات العقلية مُستَقِلّة عن بعضها البعض، لكنها تعمل معًا، لأنه يمكن للمرء أن يدرك وبشكل واضح ومميز وجود كل واحدة، وهذا يرجع إلى أن الله قد أثّر في عقول الناس بأفكار فطرية، والتي تأتي من جوهره، وهذه الأفكار تظهر عن طريق استخدام المرء لمَلَكاته العقلانية. وبالتالي، ومن خلال الاستبطان، يمكن للمرء أن يمتلك معرفة بنفسه. وبقدر ما يسمح المنطق الإنساني، فإنه من خلال إدراك قِوى اللّه، يمكن للمرء أن يصل إلى فهم أفضل لنفسه على إنه انعكاس لتلك القِوى.
ولأن الناس جواهر حرة أيضًا، فإنه يترتب على ذلك من منظور ديكارت، أن الإرادة الحرة موجودة، نظرًا إلى انها ليست فقط مُتَضَمَّنة في عقول الناس لأنهم خُلِقوا مِن قِبَل الله، ولكنها تُعرف أيضًا عندما يستخدم المرء قُدُراته العقلانية. ومن خلال استعمال المرء لعقله والذي يدلّ على امتلاك المرء للقدرة على الاختيار، يتمكّن المرء بعد ذلك أن يبدأ في فهم طبيعة الإرادة الحرة بطريقة أوضح، إذا قرر القيام بذلك. وأخيرًا، وعلى الرغم من أنه يعتقد أن الإرادة الحرة موجودة، إلا أنها بحسب ديكارت، مُساء فهمها، وبالتالي، فهو يدّعي أن طريقة الناس في فهمِ هذا المصطلح، يحتاجُ إلى تصحيحٍ من أجل تحسين مساعدتهم في الحياة الأخلاقية.
وبحسب ديكارت، فإن الإرادة الحرة موجودة، وهي توصف بأنها تلك التي تؤدي إلى وجود المشيئة والقُدرة. وهو يعتقد بأن هذِهِ هيَ المسألة، لأن العقل يمتلك القدرة على الاختيار لنفسه طالما أنه يمتلك معرفة بعلة وجودها. وبالإضافة إلى ذلك كما يرى ديكارت، فكلما زادت معرفة المرء بطبيعة المبادئ التي يمكنها أن تؤدي إلى حدوث شيءٍ ما، مثل الأفعال الأخلاقية، فإنهم سيساعدون بذلك أنفسهم، عن طريق اختيار أسئلة أخلاقية بطريقة عقلانية وحاسمة.
يمكن للمرء أن يفهم ذلك باعتبار أنّ ديكارت يدعم فكرة أن الناس يستطيعون تحسين قدراتهم ليكونوا أحرارًا من خلال العقل، والذي سيؤدي في النهاية إلى امتلاك المرء لقدرة أكبر على الحرية. ولهذا، يمكن للمرء أن يستمرّ في استنتاج أن من وجهة نظر ديكارت، فإن الإرادة الحرة هي تعبير عن المعرفة التي تأتي من فهم المرء لأفكاره الفطرية، والتي بدورها تأتي من الله. وأيضًا، يدّعي ديكارت أن وجود الإرادة الحرة مدعوم من قبل الأشخاص المحتملين الذين يتعين عليهم الرفض، أو الامتناع عما كانوا يعتقدون بأنه مُخالف لطبيعتهم.
وبالتالي، بالنسبة له، عندما يؤكد المرء إرادته الحرة من خلال اختيار عدم القيام بما يبدو له أنه مخالف لمن هو عليه، فإنه يمكن للإرادة الحرة أن تُفهم بسبب ذلك على أنها مَلَكَة، وهي تكون في خدمة العقل، ولا تُمكِّن المرء من التَعَرُّف على الحقيقة فقط، ولكنها تُمكِّنه أيضًا من أن يُصبِحَ فردًا فريدًا ومُسيّرًا-ذاتيًا وأصيلًا. وأخيرًا، فإن هنالك حاجة للإرادة الحرة من أجل أن يعرف المرء بوضوح أنه مُمَيّز ومسّتقل. لأنه عن طريق معرفته بحريته، يُمكِنُ للمرءِ بسهولة أن يَشُقّ طريقًا خاصًا به طوال حياته يتوافق مع الحقيقة، والتي تأتي من معرفة المرء الكافية بِعِلَّة حُرّيته، والتي هي الله.
ويعتقد ديكارت بالإضافة إلى ذلك، أن الإرادة الحرة ليست مفهومة على نحو غير كافٍ، لأن ذلك سيؤدي إلى عدم قدرة المرء على تشكيل فكرة الحرية الخاصة به، وهذا كما يدّعي لا يمكن أن يكون واقع المسألة، لأن الناس يعرفون في الواقع أنهم أحرار، لأن لديهم القدرة على تكوين فكرة عنها.
وهذا لأن الله، الذي ترك بصمة في عقول الناس، لكي يفهموا بوضوح إرادتهم الحرة، قد مَكَّنَهُم من معرفة نطاق حُرّيتهم بما أنَّ المعرفة الفطرية التي يمتلكها المرء عن قدرته ليكونَ حُرًا تكفي تمامًا من أجل الحياة، لأنها نِتاج كَمال الله. وبالتالي، فإن كَمال الله الذي هو علة عقول الناس، ومن ثمَّ المَلَكة العقلية للإرادة الحرة، ليس ذا طبيعة ناقصة، لكنه بالأحرى مُوجِّه لما هو صحيح، وبما أنه يدّعي أنّ ما هو صحيح يكون جيدًا أيضًا، فإنه يجب فهم هذه المَلَكَة على أنها نقيّة وخالصة، طالما أنها تُستَخدَم بشكل صحيح. وبالتالي، فإنه يمكن للمرء أن يستنتج أنَّ من وجهة نظر ديكارت، فإن الإرادة الحرة مرتبطة بالعقل طالما أنها تزيد المعرفة التي يمكنها أن تقود الشخص لكي يصبح أكثر إدراكًا لقدرته على أن يكون حرًا. وأخيرًا، بحسب ديكارت، يتم تحقيق ذلك من خلال اختيار الشخص بنفسه لتنمية قدراته من أجل تأكيد حريته، ومن خلال التصرف المعتاد بطريقة تعبّر عن إرادتهم أخلاقيًا.
بين سبينوزا وديكارت
إنَّ الاختلافات بين مفاهيم “سبينوزا” و”ديكارت” حول الحرية، تأتي من طرقهما المختلفة في فهم الأفكار الفطرية وطبيعة الله. وأعتقد أن هذِهِ هيَ المسألة لأنه إذا أشار أحدهم إلى كتابات ديكارت، فيمكنه أن يستنتِجَ أنهُ يعتقدُ أنَّ الأفكار الفطرية سَبَّبَها الله كخالق، والذي ترك بصمةً أو توقيعًا على العقل في شكل هذه الأفكار، والتي تتضمن المعرفة الواضحة والمُتَميّزة التي يمتلكها المرء عن حريته. ومن ناحية أخرى، فأنا أعتقد أنَّ سبينوزا يرى الأفكار الفطرية كمرادف لما يمكن للعقل أن يعرفه بوضوح، فقط بقدر ما هو حال mode من صفة التفكير عند الله.
هذا لأنه بحسب سبينوزا، فإن الحال mode ليست بنفس المستوى من الكَمال مثل الصفات، ناهيك عن الجوهر الواحد اللامتناهي، أو الله. وبالتالي، يترتب على ذلك أنه ليس من طبيعة الحال mode أن يكون قادرًا على التعبير بالكامل عن إما الله، أو عن صفة من صفات الله. ولهذا أعتقد، بأنه يمكن فهم سبينوزا على أنه يدّعي أن الناس هم تعبيرات عن الله، وبما أن الله حرّ فإن الناس يمكنهم التعبير عن حرية الله، ولكن فقط بطريقة ضيقة ومحدودة لأن فهمهم للحرية سطحي. وهذا يرجع إلى محدودية معرفتهم، والتي تمنعهم من معرفة الحرية في-ذاتها، أو الفهم الكامل لصفة الحرية عند الله كما لو كان المرء هو الله بحد ذاته.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأفكار الفطريّة بالنسبة إلى ديكارت، وعلى النّقيض من فهم سبينوزا لها، تكونُ مَلَكاتٍ للعقل خالصة وقابلة للفهم تمامًا، تُعرف من النّاس بفضلِ أنهم خُلِقوا كجواهر مستقلة ومُتَميّزة، وبالتالي، يُمكِن أن يُنسب لهم أنهم يمتلكون قدرًا كبيرًا من الإرادة الحرة بِخلافِ ما يَعتَقِدُهُ سبينوزا. وهذا يعود إلى أن سبينوزا لا يعتقد بأن هذِهِ هيَ الحال، أي أن قدرة العقل على أن يكون حرًا تكونُ معروفةً بالبداية بشكلٍ كامل، إذ يَجِبُ على المرء أن يُنمي عقله من أجل إدراك قدراته. وأيضًا، فإن الأفكار الفطرية بالنسبة إلى ديكارت، يُمكِنُها أن تُستَخّدم كتبرير لوجود الله، وبما أن الحرية تأتي من الله، فإنه يمكن استخدامها لدعم وجود الإرادة الحرة أيضًا. وهذا يعود إلى أن ديكارت يعتقد بأن الأثر يَكشِف عن سببه، ويرجع هذا إلى اعتقاده بأنه يجب أن يكون الشيء ناتجًا عن شيءٍ آخر من أجل أن يوجد، وبما أنه خَلُصَ إلى أنه شيءٌ مُفَكِر، يعني ذلك أنه يجب أن يكون عقله قد نشأ من شيء مختلف عنه ولكنه قريب من لاماديته. وهذا كما يدّعي يرجع إلى مصدر واحد، وهو الله، وبما أن الله هو عِلّةُ نفسه، فيعني ذلك أنه حر تمامًا، وأنَّ الناسَ من خِلالِ كونِهُم صورة مصغرة عن الله فإنهم أحرارٌ أيضًا.
وعلى الرغم من ذلك يعتقد سبينوزا أن هنالك تناقضات حادة في هذه السطور. فبالنسبة له، فإن الأفكار الفطرية تُبرِّر في الواقع وجود الله، ولكن ليس بالضرورة الإرادة الحرة. وهذا لأنه كما يدّعي سبينوزا، على الرغم من أن الأثر يَكشِف عن مُسَبِّبه، إلا أن مُسَبِّبهُ يجب أن يكون أكثر قوة منه من أجل أن يكون قد تَسَبَّب به. وبالتالي، فإن هذا يقود سبينوزا للاعتقاد بأن الأفكار الفطرية توجد في طريقة محدودة بمقارنة مع مُسَبِّبِهِم، أو الله. وبالتالي، ولأن الله عِلّة نفسه، يعني ذلك أنه هو وحده من يمكن أن يُعزى إليه أن يكون حرًا، ولأن الناس أضعف من الله، فيمكنهم التعبير عن حرية الله فقط إلى الحد الذي تسمح به طبيعتهم، ويمكن للمرء أن يستنتج أن فكرتهم الفطرية عن الحرية تأتي في الأساس من طبيعة مُضطربة.
يُمكن للأفكار المتعلقة بحرية الإرادة عند ديكارت أن تدفع المرء لكي يتساءل كيف أن إيمانه بـ كَونْ ميكانيكي متوافق مع أفكاره عن وجود عقل لامادي، وإله حر تمامًا، وعن قدرة المرء الفطرية على التعبير عن حريته. لكن بحسب ديكارت، فإن وجود العقل اللامادي مُمكِن بسبب اعتقاده أن الله قوة تسبق قوانين الكون، وعن طريق التسبب بهذه القوانين بِحُرّيّة، فإنه يكونُ لامتناهيًا من جميع النواحي. ولكونه لامتناهيًا، فإن الله يمتلك القدرة على الخلق، ويمكن للمرء أن يستنتج بحسب ديكارت، أنَّ أشياء مثل المعجزات مُمكِنة بسبب قدرة الله على التدخّل في الطبيعة، لأن وجود الله خارج حدود الطبيعة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اعتقاد ديكارت بأن قدرة الناس على التعبير عن حريتهم مستمدة من كونهم جواهر مستقلة وهم بدورهم يعكسون جوهر الله، ولأن جوهر الله حر، فيعني ذلك أن الناس أحرار بطبيعتهم أيضًا. ولكن أعتقد أن عواقب التمسك بهذه المعتقدات، يمكن أن تقود المرء إلى إساءة فهم قدرته على أن يكون حرًا. ويرجع ذلك إلى أن مفاهيمه من الممكن أن تُفسِحَ مجالًا لأسئلةٍ من مثل: كيف يمكن أن يتحد عقل حرّ وغير مادي مع جسم تكون حركته مُسيّرة؟ وكيف يمكن لله أن يكون غير مُسيّر من جميع النواحي، إذا كانت جميع الكائنات خاضعة لقوانين الطبيعة؟ وأخيرًا، كيف يمكن أن تكون هذه هي المسألة، أي أنَّ الناس أحرار، حتى عندما يصرح ديكارت بصراحة أن الناس ليسوا مُسيّرين فيزيائيًّا بقوانين الطبيعة فقط بل ومحدودين عقليًا؟
إن طريقة سبينوزا في فهم العقل، والحرية في علاقتها مع الله، والحرية في علاقتها مع الناس، ليست فقط مختلفة عن طريقة ديكارت، ولكنها أيضًا أكثر منطقية، فضلًا عن نجاحها في تجاوز المشاكل التي تنشأ من معتقدات ديكارت حول هذه المسألة، وهذا لأنه، بحسب سبينوزا، فإن العقل اللامادي ليس سوى حالة mode من صفة الفِكرِ عند الله، وكما أنّ الجسد يتبع نمطًا محدّدًا من الحركة، والذي يأتي من جوهر الله الذي يُعبَّر عنه من خلال صفة الامتداد، فالأفكار أيضًا تتبع نظامًا، والتي توازي بالضرورة نظام الأشياء. وهذا لأن فكرة العقل عن الجسد كافية طالما أن المرء يحتاج الى أن يكونَ مُدرِكًا-ذاتيًا لجسده، من أجل الحفاظ على من يكون في طبيعته في أي وقت. وبالتالي فإن العقل اللامادي ليس حرًا، ولكنه بالأحرى مُسيّر لأنه يحتاج الجسد من أجل أن يصبح مُدرِكًا بكيفية تأثير التأثيرات الخارجية عليه. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الله بالنسبة إلى سبينوزا هو الطبيعة، وبما أن الله لا يوجد خارج النظام الطبيعي، فإن سبينوزا، كما اعتقد، يتخلص من التفرقة التي وضعها ديكارت بين الله والكون.
ولهذا، فإنه يمكن فهم القوانين الطبيعية على أنها جوهر الله، وإذا كان الله سيتدخل بهذا النظام، فإن الله سوف يتحدى طبيعته الخاصة، وهذا ما يتفق عليه الفيلسوفان بأنه غير منطقي، وأن أشياء مثل المعجزات، أو تغيراتٍ شاذة واستثنائية في القوانين الطبيعية، بحسب فهم ديكارت لها، تكون مستحيلة بالنسبة إلى سبينوزا. وايضًا، بالتخلص من هذه التفرقة، بين الله والطبيعة، فإنه يمكن فهم فكرة سبينوزا عن الله، على أنه الجوهر غير المُسيّر والذي جوهره يشمل كونه قوانين الكون، وهذا بدوره، يتجاوز مشكلة ديكارت حول كيفية تفاعل الله مع الطبيعة إذا كانا مُختلِفين. وبالتالي، يمكن للمرء أن يستنتج أنه بالنسبة إلى سبينوزا لا يوجد شيء غير الله أو الطبيعة يكونُ غيرَ مُسيّر، طالما أن كل الأشياء تأتي من نظامه، ولهذا، فإن طبيعة الله ليست طبيعة خالق حر، بل هي من طبيعة المُسبِّب الحر الذي تعتمد جميع الكائنات عليه من جميع النواحي.
وبالإضافة إلى ذلك، أنا أتفق مع رأي سبينوزا فيما يتعلق بمحدودية الإرادة الحرة عند الناس، بدلًا من رأي ديكارت، لأنني أعتقد مثله أنه من المبرر أكثر أنه يجب على المرء تطوير قدرته على توجيه حرية الله، على العكس من أن تكون الإرادة الحرة متحقِّقة بالكامل من بداية وجود الشخص لأنه من مخلوقات الله. أنا أقدم هذا الادعاء لأنه على سبيل المثال، إذا احتاج المرءُ أن يُحلِّلَ قدرته على الركض، فإنه يحتاج أن يستنتج في البداية أنه كان عليه أن يمشي قبل ذلك، وبالتالي، لا يمكنه أن يكون مُتأكِدًا تمامًا بأنه قد وُلِدَ مع تلك القدرة وهي في شكلها المُتَحقّق تمامًا. أنا أضع هذا القياس لأنه يبدو أن ديكارت بقوله أن الناس أحرار تمامًا منذ الولادة، يمكن أن يكون مفهومًا كمحاولة للدفاع عن موقف منطقي، الذي سيكون كما لو أن المرء يحاول الدفاع عن قدرته المفترضة والمتحقّقة تمامًا منذ الطفولة المبكرة (المهد).
وعلى عكس ديكارت، فإن سبينوزا بادّعائه أنه يجب على المرء أن يُنمّي عقله من أجل إدراك ماهية الإرادة الحرة في حقيقتها، فضلًا عن معرفة وتطوير استيعابه لها، هو قريب من القول بأنه يجب على المرء أن يتعلم كيف يمشي قبل أن يستطيع الركض، وهذا كما اعتقد ليس فقط مُبرَّرًا أكثر من ادعاءات ديكارت، ولكنه أيضًا يُلغي الحاجة إلى الدفاع عن موقف غير بديهي، مثل الموقف الذي يحمله ديكارت.
في هذه المقالة، كنت آمل إيصال المفاهيم الفلسفية لسبينوزا وديكارت بخصوص الإرادة الحرة. من خلالِ توضيح اختلافاتهما، وكنت آمل أيضًا إظهار أنه وعلى الرغم من تشابههما في بعض النواحي، إلا أنه لايزال هنالك اختلافات بارزة بين ادعاءات هذين الفيلسوفين حول مصطلح الحرية. وأخيرًا، ومن خلال المجادلة لصالح موقف سبينوزا، لقد أردتُ أن أنقل فكرة أنّه من خلال اتخاذ موقف أكثر حتميّة حول الحرية، فإن سبينوزا يتجنب بنجاح المشاكل التي تأتي من أفكار ديكارت التوافقية حول الإرادة الحرة.