مفارقة الإرادة الحرة: الإبحار في تقاطع الاختيار والمصير والحتمية

كان مفهوم الإرادة الحرة موضوعاً للنقاش الفلسفي لعدة قرون، ومفارقة الإرادة الحرة هي التي لا تزال تحير وتبهر المفكرين من جميع التخصصات. تكمن المفارقة في جوهرها في التناقض الواضح بين إيماننا بقوة الاختيار البشري وخاصة أن هذا هو جوهر الأديان، فلو لم يملك الإنسان الإرادة الحرة فقد سقطت العلة من الدين ولا داعي أيضاً لمبدأ الثواب والعقاب، ولكن حتى الأديان تنص على فكرة أن كل شيء محدد مسبقا في النهاية بواسطة قوة أكبر، سواء كان ذلك الإله أو القدر أو قوانين الفيزياء.. وهنا يبدأ التعارض.

هل العلم يقف في أحد الصفين؟

حديثاً، أدى التقدم في العلوم وفهمنا المتزايد للكون إلى استنتاج مفاده أن الكثير مما يحدث في العالم، بما في ذلك السلوك البشري، هو نتيجة لأسباب خارجة عن سيطرتنا. من حركات الكواكب، إلى الجسيمات دون الذرية التي تشكل أجسامنا، يبدو أن كل شيء يحدده مجموعة من القوانين الطبيعية التي تحكم سلوك المادة والطاقة. تم تأسيس هذه الحتمية من خلال الفيزياء والكيمياء والمجالات العلمية الأخرى، وتشير إلى أن كل شيء، بما في ذلك أفكارنا وأفعالنا، محدد مسبقا بأسباب سابقة.

وبذكر الفيزياء وخاصة الكلاسيكية منها التي تبنت السببية، وبما أن السببية تؤدي إلى “الحتمية” فيجب علينا التطرق قليلاً للحتمية. فالحتمية هي الاعتقاد الفلسفي بأن كل ما يحدث في الكون، بما في ذلك السلوك البشري، يتم تحديده في النهاية من خلال الأسباب والظروف السابقة. بمعنىً آخر، إنها فكرة أن كل ما يحدث له سبب، وأنه بالنظر إلى معلومات كافية حول الظروف الأولية وقوانين الطبيعة، يمكن للمرء أن يتنبأ على وجه اليقين بكل ما سيحدث في المستقبل.

في سياق السلوك البشري، تشير الحتمية إلى أن كل ما نقوم به ونفكر فيه ونشعر به هو نتيجة لأسباب سابقة، بما في ذلك الوراثة والتربية والبيئة وعوامل أخرى. وفقا للحتمية، فإن خياراتنا وأفعالنا ليست نتيجة الإرادة الحرة، بل هي نتيجة لسلسلة من الأسباب والظروف التي قادتنا إلى هذه النقطة.

مفهوم الحتمية عن طريق الأمثلة

ولتفهم الفكرة أكثر، ركز بدقة في هذين المثالين اللذين سأحاول فيهما تقريب الصورة قدر الإمكان:

إعلان

فلنعطِ مثالاً مبسطاً على ذلك أولاً، إذا رميت سهماً بقوة معلومة وبزاوية معلومة مع علمنا بوزن السهم وكثافة الهواء ومقدار الجاذبية وسرعة الريح واتجاهها (وأي معطيات أخرى قد غابت عني) فحتماً يمكننا التنبؤ بمكان وقوع السهم، ولو أنني أعدت التجربة ملايين المرات بنفس المعطيات فسيقع السهم بنفس المكان تماماً ولا حتى بفارق بلانك واحد (وهي أصغر وحدة قياس في الكون من المستحيل تخيل صغرها).

الآن دعنا نجعل المثال أعقد قليلاً: إذا طلبت منك رفع إحدى يديك ولنفترض أنك رفعت اليسرى، فتقول الحتمية أن هذا ليس قرارك، بل هو قرار جيناتك وتفاعلها مع محيطك منذ ولادتك، وهذه الجينات هي مزيج من جينات أبويك اللذين بدورهما ورثاها عن مزيج من أبوي كل منهما وجينات أجدادك وآبائهم وتفاعل كل هذه الجينات مع محيطها، إذن أنت تعتقد أنه قرارك، لكن هذا القرار كان حتمياً ومشفرأ في جيناتك.

ولكن هنا أنا متأكد أنك ستقول لو أعدنا التجربة فسأرفع يدي اليمنى، نعم ذلك صحيح، ولكننا هنا أدخلنا عاملاً جديداً على المعادلة لم يكن موجود مسبقاً وهو خبرتك من التجربة السابقة عندما رفعت يدك اليسرى.

فلو أننا اخترعنا آلة الزمن وعدنا للوراء خمس دقائق إلى ما قبل أن تكتسب هذه الخبرة، ففي كل مرة سترفع أيضا بدك اليسرى حتماً. ولكن يبقى كل ذلك في إطار الفرضيات ولا سبيل لتجربته وإثباته على أرض الواقع.

الحتمية ما لها وما عليها!

ولكن من المنصف ذكر أنه في حين إن الحتمية مقبولة على نطاق واسع من قبل العديد من العلماء، إلا إنها أيضا فكرة مثيرة للجدل للغاية تم تحديها من قبل العديد من الفلاسفة والأديان. فيجادل منتقدو الحتمية بأنها تقوض مفهوم الحرية البشرية (التخيير) والمسؤولية الأخلاقية، وأنها تجعل من الصعب تفسير سبب اتخاذ الناس لخيارات مختلفة واتخاذ إجراءات مختلفة.

من ناحية، يبدو من المنطقي أن نفترض أن لدينا القدرة على اتخاذ خياراتنا الخاصة وتشكيل حياتنا الخاصة، مسترشدين بقيمنا ورغباتنا ومعتقداتنا. فكرة الإرادة الحرة هذه ضرورية لإحساسنا بالذات وإحساسنا بالمسؤولية الأخلاقية. إذا كان كل ما يحدث لنا محدداً مسبقاً، يصبح من الصعب محاسبة الناس على أفعالهم، ويصبح من المستحيل التحدث بشكل هادف عن القرارات الجيدة أو السيئة.

الحتمية لا تنفي الحاجة إلى ردود الأفعال؟

وهذا سيدعم اعتراض يقول: إذا كانت الحتمية واقعاً، فلا داعي إذن لعقاب المذنب لأن ذنبه حتمي الوقوع وليس له خيار، أو مثلاً لا داعي للعتاب على حبيب أو قريب لأن الخطأ أو التقصير أيضاً حتمي الوقوع وليس خياراً.

لو أخذنا الأمر من جانب منطقي مجرد، فإن الأمر صحيح، فلا داعي للعقاب والعتاب والشكر والامتنان وكل تلك الأمور بعد وقوع الفعل، ولكن نحن كبشر لسنا أدواتٍ ميكانيكيةً ولسنا ذكاءً اصطناعياً، و ما يميزنا عنهم هي العواطف، لذا فإن العتاب مثلاً هو ضرورة لاستمراري وبقائي وهو حاجة لي من الحاجات النفسية كالحب والشعور بالأمان وهو مهم كالحاجات الفيزيولوجية تماماً، وأما عقاب المذنب فالهدف منه ليس تصحيح الذنب بل هو إضافة عامل لمعادلة الآخرين لتغيير مسارها، والعامل هنا هو الخبرة ومفادها بأن المذنب سيعاقب وهذا ما سيغير معطيات معادلاتهم ويوصلها إلى نتيجة أخرى وهي: “لا تفعل هذا لأنك ستعاقب”.

إذن ما الذي نستخلصه من هاتين الفكرتين المتعارضتين على ما يبدو؟ كيف نوفق بين المفارقة الظاهرة بين الإرادة الحرة والحتمية؟

التوفيق بين الحتمية والإرداة الحرة؟

أحد الأساليب هو القول بإن الإرادة الحرة والحتمية لا يستبعد أحدهما الآخر، بل إنهما وجهان لعملة واحدة. قد يجادل مؤيدو هذا الرأي بأن قوانين الفيزياء والطبيعة المحددة للكون تترك مجالا لدرجة معينة من الاختيار (التخيير وليس التسيير) أو مفهوم الوكالة البشرية من قبل الإله، حتى لو تأثرت هذه الخيارات في النهاية بشبكة معقدة من الأسباب والشروط. بعبارة أخرى، في حين أن كل شيء قد يكون محدداً مسبقاً بمعنىً ما، لا يزال لدينا القدرة على اتخاذ قرارات ذات مغزى وتشكيل حياتنا بطرق تتماشى مع قيمنا وتطلعاتنا.

نهج آخر هو تحدي فكرة الحتمية نفسها، والقول بإنه لا يوجد تناقض متأصل بين الإرادة الحرة وقوانين الفيزياء. اقترح بعض الفيزيائيين والفلاسفة أن مفهوم الحتمية محدود بفهمنا الحالي للكون، وأنه قد تكون هناك جوانب من الواقع تتجاوز معرفتنا وفهمنا الحاليين. يجادلون بأن المستقبل قد لا يكون محدداً مسبقاً، وأن هناك مجالاً للاختيار البشري في عالم غير محدد بشكل أساسي، فكما ذكرنا سابقاً في الفيزياء الكلاسيكية، السببية هي مفهوم راسخ، ولكن في ميكانيكا الكم، يصبح مفهوم السببية غامضاً إلى حد ما. وهذا يبرز كثيرا في مجال فيزياء الكم، ففيزياء الكم مثلاً جعلتنا ندرك أن ما دون المستوى الذري لا يخضع للسببية، وأنه لديه منطق خاص به يختلف عن منطقنا.

فمثلاً ينص مبدأ عدم اليقين للعالم هايزنبرغ على أنه كلما قمنا بقياس موضع الجسيم بدقة أكبر، قلت معرفتنا بسرعته، والعكس صحيح. هذا يعني أن فعل القياس لدينا يمكن أن يزعج حالة النظام ويؤثر على سلوكه المستقبلي، وهذا ينطبق على نظرية الشق المزدوج والاتصال الشبحي وغيرها ولا مجال هنا للتفصيل.

الخلاصة؟

بغض النظر عن النهج الذي يتخذه المرء، من الواضح أن مفارقة الإرادة الحرة هي قضية معقدة وصعبة لا تزال تأسر الفلاسفة والعلماء وعامة الناس على حد سواء. إنه يثير أسئلة مهمة حول طبيعة الاختيار البشري، والعلاقة بين الفرد والكون، ومعنى حياتنا. إن الإبحار في تقاطع الاختيار والمصير والحتمية ليس بالمهمة السهلة، ولكنه جزء أساسي من التجربة الإنسانية، وهو جزء سيستمر في تشكيل فهمنا للعالم لأجيال قادمة.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أسماء رضوان

اترك تعليقا