أَمْوَاجُ الألوهة في العَالَم
الله الواحد الكثير (2/2)
لقراءة الجزء الأول للمقال اضغط: هنا
تناولنا في المقال السابق فكرةَ كثرتِه تعالى في مخلوقاته، وتجلِّيه في العالم على صور عديدة، وأشكال شتَّى، وهيئات مُخْتَلِفَة. وفي هذا المقال نتناولُ بالشَّرح فكرة كثرتِه سبحانه في الأفهام والعقول. هذا هو المقال الثاني إذن، وسميتُه أمواج الألوهة في العالَم، وأعرض فيه رأي القائلين بوَحْدَة الأديانِ في ذاتها وإنِ اختلفت في ظواهرها وخوارجها، وأنَّ الشرائع وإن تخالَفَتْ فإنَّ التجارب الدينية لا يمكن أن تختلف في باطنها وجوهرها.
العين واحدة والحكم مختلف
يقول ابنُ عربي:
فالعينُ واحدةٌ، والحُكْمُ مختلف، .:. وذاكَ سِرٌّ لأهلِ العِلْمِ يَنْكَشِفُ
يرى أصحاب هذا القولِ أنَّ الأديان تتخالف في العبادات والأسماء والطقوس والميثولوجيا، التي تُعَدُّ بمثابة القشور التي من ورائها تَتَّحِدُ في الجوهر الداخلي من حيث أنَّها توجُّه نحو الذات الإلهية؛ فإذا اعتبرنا الله نهرا جاريا، فإنَّ الدين هو الإناء الذي احتوى بعضَ هذا الماء الجاري، ولا شكَّ أنَّ الماء داخل الإناء يتشكَّل حسب صورة الإناء الذي اشتملَ عليه، ويختلف باختلافه كذلك. ولعل هذا معنى قول ابن عربي بوَحدة العين مع اختلاف الحُكم؛ فهو يُطلِق على الله اسمَ العين، وهذه العين لا تنفكُّ تَتَعَيَّنُ في الموجودات في عمليَّة إعلان ذاتها. ومن صُورِ تَعيُّناتها أنها تظهر وتُعلِن عن نفسها في الأديان العالميَّة المُتَعَدِّدة التي ينبغي أنْ تتكامل، لا أنْ تتشاكَس. ولنأخذِ الآن في بيان معنى ظهوره في العالَم وعلاقة هذا بتنوُّع الأديان والمذاهب، واختلاف العقائد والمشارب المُطَوِّفَة جميعها حول الكعبة الإلهيَّة.
ظهوره في العالَم
(أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا). (الفُرْقان: 45)
يقول الألوسي في معرِض تفسيره الآية السابقة: “قيل: ألم ترَ كيف مدَّ ظِلَّ عالَمِ الأجسام، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً في كَتْمِ العَدَم؟! ثم جعلْنا شمسَ عالَمِ الأرواحِ على وجودِ ذلك الظِّلِّ دليلا؛ بأنْ كانتْ مُحَرِّكَةً لها إلى غايتِها المخلوقَةِ هي لأجلها؛ فعُرِفَ من ذلك أنَّه لولا الأرواح لم تُخْلَقِ الأجسادُ”. وهذا تأويلُ ابنِ عربي أيضا؛ إذ يقول: “( أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)… اعلم أنَّ ماهياتِ الأشياء وحقائقَ الأعيانِ هي ظِلُّ الحَقِّ…؛ فَمَدُّهَا إظهارُها باسمِه النُّور. (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا)؛ أي: ثابتا في العدم الذي هو خِزَانَةُ وُجودِه”. يقول ابن عربي: “فما يُعْلَمُ من العالم إلا قدر ما يُعْلَمُ من الظِّلال، ويُجْهَل من الحقِّ على قَدْرِ ما يُجْهَلُ من الشَّخْصِ الذي كان عنه ذلك الظِّلِّ”، يشرح القاشانيُّ هذا الكلام؛ فيقول أنَّه لا يُعلَم من حقيقة العالَم إلا قدر ما ظَهَرَ عنها في نور الوجود من آثارها وأشكالها وصُوَرِها وهيئاتِها وخصوصيَّاتها الظَّاهرة بالوجود، وما هي إلا ظلالها لا أعيانها وحقائقُها الثَّابتة في عالَم الغيب.
يُناجِي أبو حيَّان التوحيدي ربه في مقابساته قائلا: “اللهم طهِّر قلوبَنا من ضروب الفساد، وحبِّب إلى أنفسنا طرائقَ الرَّشاد، وكُنْ لنا دليلا، وبنجاتِنا كفيلا، بمَنِّكَ وَجُوْدِكَ اللذين ما خَلا منهما شيء من خَلْقِكَ العلويِّ والسفلي، يا من الكُلُّ به واحد، وهو في الكُلِّ موجود”.
اعتمادا على تلك الرُّؤية الصوفية لله والعالَم؛ يقرٍِّر ابنُ عربي نسبيَّة المعرفة الإلهيَّة؛ فيقول: “فإنَّ الحقَّ معلوم لنا من وَجْه، مجهول لنا من وجْه”، ويُعَقِّب القاشاني: “أي نعلمه مُجْمَلًا من جهة الظُّهُور في المقيَّدات، لا من جهة الإطلاق واللاتناهي في التَّجَلِّيات”؛ فالله على هذا يُدرَك إدراكا مقيَّدا ما دام المُدرِكُ محصورًا بالأشكال والصُّوَر الظاهرة في المقيَّدات، ولا يقاربُ الحقَّ والحقيقةَ إلا إذا حاول إدراكَ اللهِ في ذاتِه بعيدا عن مظاهره في موجوداته؛ ذلك لأنَّ صلة الله بالعالَم لا تزيد عن كونها صلة ذاته بأسمائه؛ فوجود الأعيان كوجود معقولاتها، هو وجودُ هذه الأسماء بأعيانها في العالَم، وفي الإنسانِ بصورة خاصة. والآن، ماذا نعني بالذَّات؛ بتلك الروح التي تسري العالَم وتظهر فيه وتُعلِن عن نفسِها من خلاله؟ فلنحاولْ مُقاربَة حقيقتِها.
حقيقة الروح
يقول سوامي فيفيكاناندا “Swami Vivekananda”:
إنَّ الكونَ الباطِنَ؛ الحقَّ، أعظم بكثير من هذا العالم المنظور.
انتهي مقالُنا السابق بقَبس من نار ابن عربي لا تضيء الطريق لنا فحسب، ولكنها تذهلُنا أمام تشعُّب الموضوع وتَشَظِّيه؛ فالأمر مُعَقَّد ومُلْغَز. يقول:”وتَنَوَّعتِ المشاربُ، واختلفتِ المذاهبُ، وتميَّزَتِ المِراتِبُ، وظهرتِ الأسماءُ الإلهيَّةُ والآثارُ الكونيَّةُ، وكثرتِ الأسماءُ والآلهةُ في العالَم”، ماذا يريد أن يقول هنا؟ أفهم أنَّه يريد أنْ يقول أنَّ الأسماءَ الإلهية عندما تتكشَّف في العالَم في صورة الآثار الكونيَّة المنظورَة، فإنَّ الآلهة تظهر في العالَم بظهور الذَّات على صور مُتَعَدِّدة. وإذا عبَّرنا عن الذَّات بالرُّوح التي تسعى نحوَ التحقُّق والتعيُّن والظُّهور؛ فلنا أن نسأل عن كُنه هذه الروح وطبيعتها ما هي؟ إنها ذاتُ طبيعة مُتحَرِّرة.
وإنْ كانتْ طبيعةُ المادَّة هي الثِّقَل، فإنَّ طبيعة الرُّوح على العكس من ذلك. طبيعتُها أنَّها حُرَّة ليس لها مركز ترجع إليه وتستقِرُّ فيه، وكل صفاتها لا تظهر إلا في حريتها، أما المادَّة فلأنها ثقيلة فهي لا تستطيع أن توجد إلا عن طريق الميل نحو المركز، وكما أنَّ المادة تعتمد في وجودها على شيء خارجي، فإنَّ الروح لا تعتمد في وجودها إلا على ذاتها؛ فاستقلالها عينُ ذاتِها. والروح لا انقسام فيها؛ فهي لا تَتَثنَّى بين عارف ومعروف، وذات وموضوع؛ لأنها الذات والموضوع معا، والعارف والمعروف كلاهما. وليس تاريخُ العالَم إلا محاولات ظهورها فيه؛ هذا مسار الروح من أجل الوصول إلى مرحلة تَعِي فيه ذاتَها، وتتكشَّف مستحوذةً على العالَم في محاولة منها التعرُّف عليه على أنَّه مِلْك لها. والسؤال الآن: ما علاقة هذا التكشُّف والظهور بتعدُّد الأديان الإلهية والمذاهب الدينيَّة؟
ظهورُه في الأديان
يقول الربَّانيُّ: الدَّاءُ مشاركةُ اللهِ في الجَبَرُوت، والدَّواء: توحيده حقًّا.
تناولنا في المقال السابق معنى التَّوحيد عند المتصوِّفَة، وأنَّ من معانيه عندهم أنَّه ما ثم في الوجود إلا الله، وأنَّه ما من معبود في الحقيقة إلا هو، وإن تعدَّدَتِ الطقوسُ، وتخالفتْ صور العبادة وأشكال التقديس والتَّوَجُّه إليه؛ فالتَّوحيد لا لسان له، والألسنة كلُّها لسانه. ينتقد ابنُ تيميَّة هذه الرؤية التَّوحيديَّة فيقول: “إِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ لِسَانَ الشِّرْكِ لَا يَكُونُ لَهُ لِسَانُ التَّوْحِيدِ”. يقول الرُّومي: “وانظر إلى لا إله إلا الله، فمن وقف عند لا؛ فقد أنكر، ومن وقف عند إلا؛ فقد أثبت التَّوحيد، وظفر بالبقاء والخلود، أما ذلك الذي يقول: أنا وأنتَ؛ فهو واقف على الباب مردود عن الدخول، محروم من العَطاء”.
إنَّ الذات/الروح في محاولات ظهورها في العالَم تظهر وتَتَجَلَّى في صور متعدِّدة، والسَّاعِي تُجاهها يدركها في صورة من هذه الصور الظاهرة، أو في شَكل من أشكالها المُتَجلِّيَة. يعبِّر القاشانيُّ عن هذا المعنى بلغة صريحة فيقول: “إنَّ الحقَّ المُتَجَلِّي في صورة المُعْتَقَدات يسعُ الكُلَّ ويقبلُها جميعًا؛ فإذا تَقَيَّدْتَ بصورةٍ مخصوصَة؛ فقد كَفَرتَ بما سواه، وهو الحقُّ المُتَجَلِّي بتلك الصُّورة؛ إذ لا شيء غيره، فإذا أنكرتَه فقد جهلتَه وأسأتَ الأدب معه وأنتَ لا تدري”. ومن أجل هذا المعنى كان قلبُ الصوفي وحده هو القادر على إدراك تنوُّع الحقيقة في الصور المختلفة مع ثباتها في عينها ووحدتها الذاتية؛ فالصوفيُّ يؤمن بكل العقائد، ويرى نسبتها من الحقيقة المطلقة، وذلك لأنَّ معتقدَه فوق كل الاعتقادات ويسعها جميعا. يشرح ابنُ عربي هذا المعنى فيقول: “الحقُّ وإنْ كان واحدا، فالاعتقادات تُنَوِّعُه وتُفَرِّقُه، وتجمعه وتُصَوِّرُه وتَصْنَعُه، وهو في نفسِه لا يتبدَّل، وفي عَيْنِه لا يَتَحَوَّل”، فابن عربي لا ينكر أنَّ الحقَّ واحد لا يتعدَّد، ولكنه ينكرُ حصرَه في صورة واحدة بعينها لا يتعداها إلى غيرها، ومعنى إدراك الحقيقة الإلهية عنده أنْ تحتارَ فيها! لا أنْ تقيدَها وتحصرَها في صورة واحدة لا تتعدَّى إلى غيرها.
يُصوِّرُ ابنُ تيميَّة مذهب القائلين بوحدة الأديان ويُشَنِّع عليهم في الوقت نفسِه؛ فيقول: “حقيقة مذهبهم أنَّ الحقائق تتبع العقائد؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ شَيْئًا أَوْ اعْتَقَدَهُ؛ فَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ هَذَا الْقَائِلِ الْمُعْتَقِدِ؛ وَلِذَا يَجْعَلُونَ الْكَذِبَ حَقًّا وَيَقُولُونَ: الْعَارِفُ لَا يَكْذِبُ أَحَدًا؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ هُوَ أَيْضًا أَمْرٌ مَوْجُودٌ، وَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِ الْكَاذِبِ؛ فَإِنِ اعْتَقَدَهُ كَانَ حَقًّا فِي اعْتِقَادِهِ وَكَلَامِهِ… وَلِهَذَا يَأْمُرُ الْمُحَقِّقُ أَنْ تُعْتَقَدَ كُلُّ مَا يَعْتَقِدُهُ الْخَلَائِقُ”. وفي هذا المعنى يقول ابنُ عربي: عَقَدَ الخلائقُ فى الإله عقائدا .:. وأنا شهِدْتُ جميعَ ما عقدوه. ولأنَّ الله لا بد أن يُعْرَف في شكل من الأشكال أو صورة من الصور كانتِ الأديان والمذاهب؛ وبلغة ابن عربي: “فلا بدَّ أن يعرفُوه إما كشْفًا، أو عقلًا، أو تقليدًا لصاحب كَشْفٍ أو عَقْل”.
جوهر الديانات
عباراتُنَا شَتَّى وحُسْنُكَ وَاحِدٌ .:. وكُلٌّ إلى ذاكَ الجمالِ يُشِيرُ
يرى القائلون بالوَحدة أنَّ كلَّ عابد ما عبد إلا الإله القائم في عقله وهواه، والعارف المُكَمَّل هو من رأى كلَّ معبود مجْلًى للحق؛ فالحقُّ هو المعبود مطلقا، جمعا وفرقا، فلا معبود في الحقيقة إلا الله الحق. ينتقدُ البقاعي هذه الرؤية؛ فيقول أنَّ الهوى هو رب الصوفيَّة الأعظم، ويحطُّ عليهم قائلا أنَّ كل معبود إله وإنِ اختلف اسمُه الخاصُّ بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو ملك أو كوكب. لعلَّ هذا يأخذنا أخذًا إلى سؤال بعينه؛ ما هو جوهر الديانات وأصلها، وهل يمكن أنْ نردَّها جميعها إلى أصل ومركز؟ يحاول الجيلي الإجابة عن هذا السؤال.
موج في مُحِيط
يقول يوسف زيدان: “يرتفع الصوفيُّ بحسٍّه المُرهَف فوق المظاهر الفانية للأشكال، وتغوص بصيرتُه في قلبِ الأشياء؛ لتشهد باطنَها المُحْتَجِبَ وراء الشكل الظاهر، ويشعر الصُّوفيُّ أنَّ العالم المُتناهِي قد امتدَّ أمام عينِ قلبِه، وَغَدَا مَرْئِيًّا على نحو لا مثيل له من الوضوح”.
يرى عبد الكريم الجيلي أنَّ الديانات المختلفة المُتَخَالِفة جوهرُها الأصليُّ يتعلَّق بالله، وأنَّ أفعالَ أصحابِها شكل من أشكال تسبيح البشر للإله، على اعتبار أن كلَّ شيء في الوجود يسبح لله، ولكنَّ عقولنا ذهلتْ عن تسبيحهم لوقوعها على ظاهر هذا التسبيح، وليس على حقيقتِه البعيدة. فالجيلي يرى أنَّ عقولنا لا تفهم توجُّه أصحاب الديانات المختلفة نحو الإله الواحد، لأننا ننظر إلى أشكال العبادة لا إلى جوهر هذه العبادة المُتَوَجِّهة إلى الله تعالى.
فإذا نظرنا مثلا إلى الديانات غير السماوية وتعدُّدها، وأمعنَّا النظر في حقيقتها وأحوال أهلها، وجدناهم يعبدون الله تعالى على الحقيقة؛ لأنَّ الله ما خلق الخلق جميعهم إلا من أجل العبادة، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، (الذارايات: 56)، يفهم الجيلي هذه الآية على أنَّه لا يوجد مخلوق إلا وهو يعبد الله؛ فكل إنس عنده وجان، بل كل ما في الوجود عابد لله بالضرورة، ولكن تعدَّدَتْ أشكالُ العبادة حتى تظهر حقائقُ الأسماء والصفات الإلهيَّة، فيكون الله متجلِّيًا على جميع خلقِه. فعبدَة الأوثان إنما عبدوا الله في الوثَن الذي له يسجدون، وإن ظنُّوا بأنَّ الوثن هو الإله، فإنَّ ظنهم هذا لا يغير من حقيقة أنَّ الله تعالى موجود في كل ذرة من ذرات الموجودات، وأنه سبحانه ظاهر في كل الأشياء، ومُتَجَلٍّ على كل الجهات.
ويعتمد ابن عربي في تأكيد مثل هذا التصوُّر على قوله تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، وقضى بمعنى حكم؛ فكل عابد أو مُعتَقِد ما عبد إلا الله في الحقيقة، وما اعتقد إلا فيه أيًّا كانتِ الصورة التي عبدها أو اعتقد فيها الألوهية، فهو لم يعبد الصورة من حيث طبيعتها الذاتيَّة، بل عبدها لاعتقاده فيها الألوهيَّة؛ فقد عبد في الحقيقى اعتقاده الألوهيَّة في تلك الصورة. فالديانات جميعها إذن ما هي إلا أمواج الألوهة في هذا العالَم؛ هي الأنهار المؤدِّية إلى محيط الله، فكما أنَّ المحيطَ هدفُ الأنهار، فإن الله الحقَّ هدفُ أفهام الخلق عنه. كل إنسٍ إذن وجانٍّ عابد لله بالضرورة؛ فما بال الأمر بالنسبة إلى الملاحِدَة؟! يقول الجيلي: كلهم عابد لله، والله تعالى يهدي ويضلّ، فلا بدّ من ظهور تجليات الهداية والضلال في خلقه. وبتعبير ابن عربي الموجَز: “فالكُلُّ طَائع، وإنْ كانَ فيهم من ليسَ بمُطِيع مع كونِه طائِعًا”! وعلى هذا يكون الملحد رائيًا ربَّه تعالى في طَوْرٍ من خفائه واستتاره في المظاهر؛ فكما أنَّ الله هو الظاهر، فهو الباطن أيضا والخفيّ؛ والمؤمن يرى الله ظاهرا في خفائه، والملحد يراه خفيًّا في ظهوره!
الحب كأصل للعبادة
إنَّ الحب عند ابن عربي هو أصل العبادة وسرها وجوهرها؛ إذ لا معبود إلا وهو محبوب، ولولا الحب ما عُبِدَ شيءٌ من إنسان أو شجر أو كوكب أوصنم؛ لأنَّ الشيء لا يُعبَد إلا إذا خلع عليه العابد لباسَ التَّقديس، وهو لا يُقَدِّسُه إلا بعد أن يحبَّه ويتفانى في حُبِّه. فالمعبود والمحبوب إذن عين واحدة وإن اختلفتِ الأوصاف… فالمحبوب على الإطلاق هو عينه المعبود على الإطلاق. يقول في (ترجمان الأشواق):
لقد صَارَ قلْبِي قابلا كلَّ صورةٍ؛ .:. فَمَرْعًى لغزلانٍ، وديرٌ لرُهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبةُ طائفٍ، .:. وإنجيلُ توراةٍ، ومُصحف قرآنِ
أدين بدينِ الحب أنَّى تَوَجَّهَتْ .:. ركائبُه؛ فالحبُّ ديني وإيماني
يرى البقاعي أنَّ شُرَّاح ابن الفارض أجمعوا على أنَّه يخاطب الله في تائيَّتِه بضمير المُؤنَّث من أوَّلِها حتى آخرها؛ فالصوفي قادر على رؤيتِه تعالى في مخلوقاته وتعشُّقِه في موجوداته، حتى ولو كان الموجودُ امرأةً؛ يقول الرومي: “ومنَ العشق يعرج هذا الجسد الترابي ويسمُو إلى الأفلاك”! وفي هذا المعنى يقول ابنُ الفارِض في تائيَّتِه:
وَتَظْهَرُ للعُشَّاقِ في كُلِّ مَظْهَرٍ .:. مِنَ اللَّبْسِ في أَشْكَالِ حُسْنٍ بديعَةِ
فَفِي مَرَّةٍ لُبْنَى، وأُخْرى بُثَيْنَةَ .:. وآوِنَةً تُدْعَى بعَزّةَ عَزَّتِ
ولَسْنَ سِواها، لا، ولا كُنَّ غيرَها .:. وما إنْ لها، في حُسْنِها، من شريكَةِ.
وحدة التجربة الروحية واختلاف الشرائع
يقول سيد حسين نصر:
لو عاش المرءُ دينَه بكمالِه؛ فقد عاش كلَّ الأديان.
يرى نصر حامد أبو زيد أنَّ ابنَ عربي يفصل بين التجربة الروحية وبين الإيمان بالشرائع، أو العمل بها. ينطلق ابن عربي في هذا التمييز من فهمه لوَحدة التجربة الروحية رغم اختلاف الوسائل والأدوات وأساليب الرياضة والمجاهدة الروحيَّة، بل يمكن أن تقوم المجاهدات الروحية على غير شريعة مُنَزَّلَة، وتظلُّ رغم ذلك مجاهدات مشروعة قادرة على إنجاز درجات من العرفان.
إنَّ ما يجذب الاهتمام -في رأي سيد حسين نصر- بمذهب ابن عربي إيمانه بوحدة المحتوى الديني الباطن في كل الأديان، ولقد سعى إلى دراسة تفاصيل بعينها من الأديان الأخرى مع تفصيل المعاني الكلية الخبيئة وراء هيكلها البراني بمدى استطاعته. كانت محاولتُه التَّعَالِي على الصُّوَر الظاهرة للدين تعاليًا على البرَّانيَّة ونفاذًا إلى قلبها في شعائرها ومجاهداتها التي لا زالتْ شطرا متكاملا منها كوحي سماوي. وقد أمضى ابن عربي جُلَّ حياتِه في الصَّلاة الشرعيَّة وقراءة القرآن وذكر الأسماء الحسنى، وكان أنْ وصل بهذه المجاهدات إلى كشْفِ الطرق التي تؤدِّي إلى القمة الواحدة ذاتها.
إنَّ القول بأنَّ كلَّ ما في العالَم ليس إلا مظاهر وظواهر للحقِّ تعالى أدَّى إلى نتائج من أبرزها القول بالرحمة الإلهيَّة الشاملة التي سيؤول إليها البشر جميعا؛ مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم؛ فالوجود وإنْ تكثَّرَتْ مظاهره؛ فإنه يرتدُّ إلى مَبْدَأ واحد هو الله، وهو الخير المَحْض، ومن هذا التَّصوُّر للوجود يتَّسِعُ قلبُ ابن عربي وغيره من أهل التَّصوُّف لِيَسَعَ جميعَ المُعْتَقَداتِ؛ لأنهم يدينون بدين الحب، والحبُّ جوهر كلِّ عبادة، وأساس كلِّ عقيدة، وأساس الأديان وجوهرها.
واحديَّة الديانات الثلاث أنموذجًا
(أَنَا الرَّبُّ مُتَكَلِّمٌ بِالصِّدْقِ، مُخْبِرٌ بِالاسْتِقَامَةِ)، (سفر إشَعياء 45: 19)،
(لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ)، (إنجيل مَتَّى 5:17)،
(قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، فاسْتَقِمْ)، (حديث نبوي).
يرى يوسُف زيدان في (اللاهوت العربي) أنَّ تسمية هذه الأديان باسم الأديان السماوية وصف غير صحيح؛ لأنَّ كلَّ دين سماويٌّ بالضرورة، ولعل الأصح -في رأيه- إذا أردنا تمييز الديانات الثلاث عن غيرها، أن نصفها بأنها ديانات رساليَّة أو رسوليَّة؛ لأنها أتتْ إلى الناس برسالة من السماء عبر رسل من الله وأنبياء يدْعُون إليه تعالى ويخبرون النَّاس عنه. ينتقل زيدان بعد ذلك إلى محاولة إثبات أنَّ هذه الأديان الثلاث ليست في الحقيقة إلا ديانة واحدة، ولكنها ظهرتْ بتجلِّيات عدَّة، عبر الزمن الممتدّ بعد النبي إبراهيم، فكانت نتيجة هذه المسيرة الطويلة هي تلك التجليات الثلاثة الكبرى (الديانات) التي تحفل كلُّ ديانة منها بصيغ اعتقادية متعددة.
ولجمال الدين الأفغاني مقال بعنوان (وَحْدَة الأديان وانقسامات تُجَّارِها)، ينظر فيه إلى الأديان الرساليَّة نظرة فيها واحديَّة. ورغم عدم إمكان القول أنَّه يراها بهذا المنظور السابق إلا أنه حاول الجمع بين الأديان الثلاثة؛ الموسويَّة والعيسويَّة والمُحمَّديَّة في رؤية تتوسَّل وَحدة المُحتوى توسُّلا ظاهرًا؛ فيرى أنها لا يصحُّ أن تتباين في جوهرها؛ لاتفاقها في المقصد والغاية، ثم يُجادل بعد ذلك عن فكرة الدين الخالص، والدين الخالص عنده ليس دينا واحدا أو دينا بعينه، ولكنَّه الدين الذي تتمُّ له الغلبة والظهور الموعود به، لا دين اليهود أو النصارى أو الإسلام إذا بقوا أسماء مجرَّدة.
يرى جون هيك “John Hick” أنَّ أتباع الأديان الثلاثة يرون لأنفسهم حظوة خاصة عند الله، ليست لدى الآخرين، لكن، إذا كان كلُّ دين من هذه الأديان الثلاثة يرى نفسه الحقَّ المطلق والحقيقة المحضة، ألا يعني هذا أن يتحوَّل العالَم إلى جحيم لا يُطاق؟ يتابع هيك “Hick” قائلا أنَّ هذه الأديان عبارة عن ظهورات وصور وتجليات لإله واحد؛ فلعلَّ الله تجلى لأفراد البشر بطرق متفاوتة وأنحاء مختلفة. إنَّ يهوه، والله، والأب السماوي للمسيحيين؛ كل واحد منهم يمثِّل شخصيَّة إلهيَّة تاريخيَّة في رأيه، وتمثِّل حصيلة مشتركة من الظهور الكلي للذات المقدَّسة مع تدخُّل القوة المُصَوِّرة للإنسان في ظروف تاريخيَّة خاصَّة.
الأديان بين أهل الحَصْر والتَّعَدُّد
يقول نجم الدين كبرى:
الطُّرُقُ إلى اللهِ، على عددِ أَنْفَاسِ الخَلائِق
إنَّ التعدُّديَّة الدينيَّة نظريَّة معروفة في باب حقَّانيَّة الأديان، وهي تقف في مقابل الحصريَّة الدينيَّة. ماذا نعني بالتعدُّديَّة؟ إنَّ القول بالتَّعدُّديَّة تتجاذبه مدارسُ كثيرة، ولكن، ما يجمعها هو الاعتراف بحقَّانيَّة الفرق والأديان الأخرى، والابتعاد عن القطعيَّة والانحصاريَّة داخل دائرة الدِّين الواحد، والتَّمحوُر حول الذات والحقيقة الواحدة؛ بسبب تطوُّر المعرفة البشريَّة.
يبدأ عبد الكريم سروش كتابه (الصراطات المستقيمة) بتعريف نظرية التعددية، ثم ببيان الفرق بين القائلين بالحصر والتَّعَدُّد؛ يرى التعدُّديُّون أنَّ الواقع ذو أبعاد والحقيقة ذو بطون، ولذلك يتعدَّد الحق ويتنوَّع، ويرون الحقيقة الدينيَّة بها من الغموض ما يجعل الذهن واللسان يقع في دوَّامة من التناقضات، ويرون أن الحق هو ما توصَّلتْ إليه عقولنا، وأنَّ دائرة مدعياتنا تتَّسع بقدر ما تدركه عقولنا من الحق. استند التعدُّديون إذن على مقولة أنَّ الواقع ذو بطون، وعلى حيرة اللسان، وتنوُّع التفاسير للتجارب الدينيَّة، وقبول النص لتفاسير متعددة.
والآن ماذا يرى الحصريُّون؟ يجادل أهلُ الحصر؛ أنَّ الحق من الأديان يمكن تعيينُه ومعرفتُه بالذَّات، وأنَّه إذا ما تخلَّص الفردُ من الهوى ونوازع النفس فإنه يقبل الحقَّ لا محالة ويذعن له، ويرون أنَّ الأدلة العقليَّة تؤدِّي بالضرورة إلى أحقيَّة دين بعينه على سائر الأديان، ويردُّ عليهم القائلون بالتَّعدد؛ أنَّ عقلاء كل دين يرون الحق في دينهم ليس إلا، وإذا ما نظرنا إلى كل مخالف على أنَّه صاحبُ هوى؛ فمعنى هذا أنَّ سوء الظن سيشمل جميع العقلاء ومنهم الحصريون أنفسُهم. يرى عبد الكريم سروش أنَّ تعدُّد التفاسير يمثِّل في الواقع وجوها متعددة للحقيقة، وبتعبير ديني معروف: إنَّ لله ألف اسم واسم؛ فالحقيقة لا تتمثَّل في مظهر واحد ولا تتمتَّع بوجوه متعددة فحسب، بل إنَّ رؤيَة الناظرين لهذه الحقيقة بمناظر متعدِّدة لها دخل بتنوُّع التفاسير لها، ويشير المولويُّ إلى هذا المعنى بقوله: أنتَ لستَ واحدا أيها الرفيق، بل دوامات وبحر عميق.
مَنْشأ التَّعدُّد وبَسْطُ الأَعْذَار
ما من مُجَدِّف إلا ويستندُ إلى نصٍّ.
يذكر سبينوزا “Spinoza” هذا المثل الهولندي في معرِض حديثه عن الإيمان وأركانه، ويُعلِّق حسن حنفي: “يرمي سبينوزا “Spinoza” من ذكره هذا المثل إلى التَّقليل بقدر الإمكان من العقائد؛ لأنها ظنيَّة”. إنَّ العقائد لا يمكن أن ترتقي إلى اليقينيَّة إلا عن طريق التجارب الخاصة غير المُلزِمة للآخرين. ليس المُجَدِّفُ وحده الذي يعتمد على نصٍّ، ولكنَّ كلَّ أحد يقول رأيًا ويومن بفكرة يعتمد على نصٍّ يراه صحيحا وينحو مَنْحاه.
ما منشأ التَّعدُّد وعلَّتُه إذن؟ يرى عبد الكريم سروش أنَّ هناك سببين رئيسيَّين أَوْجَدا التَّعَدُّديَّة؛ الأول: قصور المعرفة البشريَّة وتدرُّجِها وعجزها عن الإحاطة بالواقع الواسع والمُعَقَّد من جميع جوانبِه، يعبِّر أبو حيانِ التَّوحيدي عن هذا العَجْز فيقول: “والصورة الإلهيَّة أبعدُ منَّا في التَّحصيل إلا بمعونةِ الله، فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلا على التَّقريب”. وقد ذكرنا قبل أنَّ معرفة الله تعني أن نحتار فيه، وليستِ الحيرة تسليما بالعجز عن المعرفة، بل هي تسليم بعجز الوسائل والأدوات، هذا إلى جانب تداخل الأشياء في هذا العالَم وامتزاجها لدرجة يصعب فيها فصلُ شيء وتخليصه مما عداه؛ فلا يوجد لذلك حق خالِص وباطل خالص، بل يمتزجان ويتداخلان. أما السبب الثاني -في رأي سروش- فهو أصالة الفردية والتَّوَحُّد لدى الإنسان حتى كأنَّ كلَّ إنسان يُمَثِّلُ عالَمًا قائما بنفسِه؛ مما يُوجبُ الاختلاف في التجربة الروحية وتفسيرها لزوما مثلما يوجب الاختلاف في فهم المتن الدينيّ. إنَّ التجربة الدينيَّة هي عِلَّة الإيمان الحقيقيَّة، وإذا عبرنا عن التجربة بالكشف فيمكن القول أنَّ كلَّ كشف ديني ما هو إلا حقيقة أو سر ينكشف لصاحب التجربة، ولا شكَّ أنَّ هذه التجربة الدينيَّة تتنوَّع وتختلف حسب الشخص والبيئة والمكان.
يُلَمِّحُ المراغي إلى هاتين المشكلتين؛ فيقول: “إنَّ تجريد النفس والملاحظة والتجربة والموازنة والاستنباط كلمات سهلة؛ لكنَّ الإنسان الرازحَ تحت أحمال الوراثة في دمه وعقله، وأحمال البيئة في البيتِ والقرية والمدينة والدولة والمدرسة، وأحمالِ المعتقدات والمزاج والصِّحة والمرض والشهوات، كيف يسهل عليه تطبيق القانون؟ هذا هو موضع الداء قديما وحديثا، وهو سبب تعدُّد المذاهب والآراء وسبب تبدُّلها وتنقُّلِها من قطر إلى قطر، ومن أمَّة إلى أمة”.
ويشير الرومي إلى ضرورة التَّعَدُّد؛ فيُفَرِّق بين أهل الظَّن، وهم أصحاب علوم الظاهر، وأهل الرؤية أو الصوفيَّة العارفين، ولا تزال الحرب سجالا بينهم، وكل منهم له أدواته وله حججه، وكل منهم ينتصر فترة من الفترات، والله يَهَب لكلِّ جماعة حججها وأسانيدها؛ لكي تستمرَّ هذه الحرب فيما بينهما، ولو شاء الله تعالى لحسمها.
يلخِّص سروش هذه الرؤية؛ فيقول: “ونظرية التعددية تكشف الستار عن هذه الحقيقة؛ وهي أن الكثرة في عالم الأديان (وغير القابلة للاجتناب بحسب الظاهر) حادثة طبيعية تعكس في طيَّاتها حقانية كثير من الأديان، وأنَّ كثيرا من المتديِّنين مُحِقّون في اعتناقهم لدينهم، وأنَّ ذلك مُقْتَضَى الجهاز الإدراكيِّ للبشر، وتعدُّد أبعاد الواقع، ومُقْتَضى كون الله هاديا ويريد الخير والسعادة للبشر، وليس بسبب سوء فهمهم، أو مؤامرة قوى الانحراف والباطل، أو اتِّباع الهوى والشهوات، أو سوء اختيار الإنسان، أو غلبة قوى الشيطان”. قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ؛ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ)، (هود 118:119)، وقال: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ؛ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)، (الحج 40).
ونختم بقول ذي النُّون المصري: أعرفُ النَّاس بالله تعالى، أشدُّهم تَحَيُّرًا فيه.