قراءات في العلم الكئيب: لماذا لا تفقد الأفكار الاقتصادية جاذبيتها مع مرور الوقت؟
مراحل تطور علم الاقتصاد
إنَّ المتأمِّل في مراحل تطوُّر علم الاقتصاد. الراصدَ لزواياه التاريخية والعلمية، يجد مع مرور الوقت أنه من الصعب التخلُّص بالكلية من النظرية التقديرية (القيمية)، التي سيطرت لعقود طويلة على مناط التفكير في هذا العلم؛ إلَّا أنَّ هذا التفكير قد اختلف بعض الشيء في العقود الأخيرة، إذ اتسّٕعت رحابة العلم لتتضمن في الجانب الأكبر منها نظرة علمية وموضوعية. ونظرًا لصعوبة الفصل بين التأريخ والفكر والواقع الذي نشأت فيه الأفكار، فإنَّ الحديث عن خلو هذه الأفكار من التحيز في الأزمنة السابقة -وحتى في الأزمنة الحالية- أمر لا يزال يحتمل الكثير من الشك. إذ يرى العديد من الكتاب أن التحيز سمة أساسية من سمات العلم وما يحمله من أفكار اقتصادية، خاصةً تلك التي ابتعدت كثيرًا عن التجرد والحيادية، حتى حدثت قطيعة كاملة في فترة من الفترات بين ما هو واقعي وما هو علمي.
ومع وجود تاريخ حافل من الأفكار ذات البواعث المتعددة، والتي تكاد تدخل في نطاق ثلَّة من العلوم ولا تقتصر على نطاق علم واحد، بدا الفكر الاقتصادي وكأنَّه وحيد لا صلة له بالعالم المحيط، خاصةً مع وجود الأفكار النيوكلاسيكية التي جعلته علمًا بحتًا لا يخرج عن نطاق المعادلات الرياضية، بعد أن أفرغته من الظاهرة الاجتماعية وحوَّلت مساره من علمٍ اجتماعي إلى علم بحت يؤطر له عن طريق المعادلات والمنحنيات الرياضية. ومع الدخول في عصر الكوكبة أو العولمة وتنامي المشاكل الخاصة بصياغة النماذج وجدوى تنبواءتها، عادت الأفكار الاقتصادية لرحابة الظاهرة الاجتماعية مرةً أخرى، لتكون الجزء الأكبر منها في نهاية القرن العشرين.
وفي هذا المقال نبحث عن إجابة التساؤل المطروح أعلاه: لماذا لا تفقد الأفكار الاقتصادية جاذبيتها مع مرور الوقت؟ وتبدأ الخطوة الأولى للإجابة على هذا السؤال بإلقاء نظرة تاريخية حول علاقات السيادة، أو بالأحرى: علاقات السيطرة، التي توَّلدت في ظلها الأفكار الاقتصادية المختلفة. فتأسيسًا على أنَّ الفكرة وليدة البيئة التي نشأت وتطورت فيها، فإنَّه من الأولى بنا أن نتناول السياق الذي نشات فيه هذه البيئة، وكذلك مستوى التنظيم السائد في ذلك الوقت. ومن هنا فإنَّ السياقات التاريخية التي ظهر فيها الفكر الاقتصادي، سواء العلمي أو غير العلمي، أمر لا ينفصل البتة عما يحيطه من أحداث بيئته، بل العكس هو الصحيح؛ فقد غيرت الأفكار الاقتصادية في الأوقات العادية وفي أوقات الأزمات، العديد والعديد من البيئات والثقافات، تارة بإرادتها وأخرى رغمًا عنها.
ودون اختلاف حول نقطة البدء، فيما يتعلق بما إذا كانت البيئة هي التي تولد الأفكار أم أنَّ الأفكار هي التي تخلق البيئة، فإن الأمر يقودنا للقول بأنَّ التفاعل بين الأفكار الاقتصادية والبيئات الحاضنة والمولدة لها يجعلهما جسدًا واحدًا لا ينفصل، ويظلُّ يتموُّج بذات الأمور فيتحسن بتحسنها ويضطرب باضطرابها. إلَّا أنَّ الشاهد في ذلك لا يخلو من وجود سيطرة لإحداهما على الأخرى؛ فمثلًا: في العصور القديمة وما استتبعها من عصور وسطى، ظلَّت الأفكار الاقتصادية غير منتجة في حد ذاتها. وقد تكوَّن هذا الرأي في سياق نظرة فلسفية وسياسية لا تلقي بالًا للأمور الاقتصادية، خاصةً التي تكون في غير صالح الفئة المسيطرة، أو -بالأحرى- لا تعيرها أي اهتمام يُذكر. وقد مثلت هذه الفجوة مبرِّرًا رئيسيًّا، بل عاملًا حاسمًا في تكوين حضارات رثة، تخللتها أفكار لا تستند للواقع ولا تعمل على تغييره، بل تبقي علاقاته على حالها دون تغيير. إلى جانب ذلك، لم تكن من آلية لتقييم عدالة طرح الأفكار، سواءٌ في وجهها العام أو الخاص، واقتصارها على فئة بعينها دون غيرها. ناهيك عن عدم القدرة على تحمل ما يترتب على هذه الأفكار والمعتقدات الاقتصادية وما تؤول إليه من نتائج.
وهنا يذهب حازم الببلاوي في كتابه “دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي” إلى أن الطابع العام للأفكار الاقتصادية كان أخلاقيًّا، مهتمًّا -بالدرجة الأولى- بمبادئ العدل والأخلاق المسيحية؛ والذي من شأنه أن يُطلعنا -سواء من باب السيطرة أو باب النظرة القيمية- على أنَّ البيئة قد قوَّضت الأفكار الاقتصادية في أزمنتها، لكنها لم تستطع مد هذا التقويض للأزمنة اللاحقة لها. غير أنَّها قد أصابتها بعديد من العلل الفلسفية والسياسية، وربما الجوانب القيمية أيضًا. ومثال آخر في الوقت ذاته: حيث كانت الدولة الإسلامية في أوج عظمتها وفي قمة إشعاعها الحضاري والفكري، خاصةً الجوانب التطبيقية منه، إذ إنطلق هذا الفكر من واقع بيئة تؤمن به وتؤمّن له الازدهار في ظل عوامل شتى، كان أهمها الالتزام بمبادئ ومُثُل الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية، سواء من ناحية الفكر أو من ناحية التطبيق.
وبعد هذ العرض، وجب علينا التدقيق في الفكرة المطروحة حول عدم فقدان الأفكار الاقتصادية جاذبيتها أو رونقها مع مرور الوقت. وينبع هذا من وجود أسئلة واحدة لعلم الاقتصاد تكاد لا تختلف من عصر لآخر، إلا أن ما يختلف خلالها هو الأجوبة التي تُقترح لهذه التساؤلات وطبيعة البيئة التي تُطرح خلالها هذه الأجوبة. وإلى جانب ذلك عدد من العوامل التي ساعدت في بقاء الأفكار الاقتصادية ذات جاذبية ورونق، نستعرض منها ما يلي:
-ارتباط هذه الأفكار في بداية عهدها بعوامل قيمية ونظرات أخلاقية مستمدة من أديان سماوية كالمسيحية والإسلام، كتحريم الربا والعدالة والمساواة والشفافية.. وغيرها.
-اتصال هذه الأفكار بطبيعة العنصر البشري، وميلها إلى لمس جوانب عاطفية أو نفسية؛ فالمنتج يسعى دائمًا لتعظيم أرباحه وتقليل خسائره، في الوقت الذي يسعى فيه المستهلك لتعظيم منافعه نحو الإشباع الكامل لحاجاته ورغباته، حتى في ظل موارده المحدودة.
-بقاء الأفكار الاقتصادية رهنَ النظرة التفاعلية بين أحداث الماضي ووقائع الحاضر وتنبؤات المستقبل؛ إذ لم يعجز علم الاقتصاد ومفكروه عن تقديم رؤىً وأفكار تتسم ببعد النظر ودقة التحليل لما هو قادم. فقانون جريشام الذي يتلخص في أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، مثال حيّ للتجدد والاستخدام في كثيير من العصور والأزمنة.
-عنصر التسلسل، والذي يبدو جليًّا في عملية طرح هذه الأفكار وصياغتها مع مرور الوقت بصورة أكثر علمية، بحيث تزداد أهميتها وجاذبيتها.
-الانغماس في طور الظاهرة الإجتماعية، فالاقتصاد علم اجتماعي بالدرجة الأولى؛ على الرغم من وجود عديد من مدخلات رياضية من معادلات ومنحنيات وغيرها، إلا أن الطابع الاجتماعي للعلم لا يزال ساريًا.
-الاندماج والتزاوج مع العلوم الأخرى دون الخروج عن سياق علم الاقتصاد. إذ ليس ثمَّة من يجهل، من دراسي الاقتصاد ومفكِّريه، أنَّ علم الاقتصاد علم حديث النشاة لا يتعدى عمره قرنين من الزمان، ورغم هذا فدرجة التطور فيه قد فاقت الكثير من العلوم الأخرى. إلَّا أنَّ هذا لا يعني الانفصال البتة عن غيره من العلوم، بل العكس هو الصحيح؛ تتداخل علوم أخرى معه، سواء في سياقه الاجتماعي، كعلوم النفس والاجتماع والفلسفة؛ أو الرياضي، إذ العلوم الطبيعة قد اندمجت معه واستخدمها الفيزوقراط في تحليلاتهم حول مصادر الثروة وتوزيعها. وليس هذا التزواج من قبيل الصدفة التي ساعدت على استدامة الأفكار الاقتصادية، بل هي جزء لا يتجزأ من طبيعة علم الاقتصاد وشموليته، من جانب، وقدرته على التزاوج مع غالبية فروع المعرفة المختلفة، من جانب آخر.
-الانتقال من التحيز التام والتحيز شبه التام إلى العلمية والمنهجية الموضوعية، ولعلَّ هذا العامل أحد أهم العوامل التي ساهمت في بقاء هذه الأفكار دون طمس. ويذهب جلال أمين في كتابه “فلسفة علم الاقتصاد” إلى أنَّ التحيُّز في الأمور العلمية قد يكون باعثًا من بواعث البدء في البحث العلمي والاستمرار فيه، وأن المطلوب في البحث العلمي ليس غياب التحيُّز والأفكار المسبقة (بل إن هذا يكاد يكون مستحيلًا)، بل المطلوب فقط الأمانة والنزاهة. وبالسير على هذا الدرب يتبين لنا أن الصلة الوثيقة بين الأفكار والتحيز ليست بعيدةً عن التكرار، من ناحية، كما أنها مثلت جانبًا كبيرًا ومستمرًا من الحفاظ على استدامة هذه الأفكار، حتى وإن اتسمت بعدم العلمية أو ببعض الأخطاء (ككتابات آدم سميث). بما يعني أنَّ عدم خلو هذه الأفكار من التحيُّز قد أوجد لها مسارًا وجعلها محطَّ أنظار الآخرين، الذين وقفوا تارةً للتصدي لها وأخرى لتنقيحها وضبطها علميًّا.
-الاتصال بين الأفكار الاقتصادية ودرجة التقدم: وهذا الاتصال يُعول عليه الكثير عن طريق عقد المقارنة الأفقية (الأفكار المتولدة في ذات العصر)، أو الرأسية (المتولدة في أزمنة سابقة أو لاحقة). إذ مارس التقدم في مستويات الكتابة والتداول دورًا مهمًا في شيوع الأفكار وسهولة الاتصال بينها وبين مقدِّميها، ما عمل على استدامة الأفكار الاقتصادية وعدم فقدانها لرونقها.
-الأفكار الاقتصادية والدقة العلمية: فمع انتقال علم الاقتصاد من مجرد أفكار أو أطروحات إلى نظريات متماسكة الأركان متعددة الغايات، كان لزامًا مع هذا الانتقال أن تستمر الأفكار الاقتصادية برونقها، بل -أبعد من ذلك- أن تتنامى هذه الاستدامة بإشباعات وقدرات عالية الدقة، عبر استخدام أدوات وسياقات تحليلية ذات قدرات متطورة. ولعل أكبر مثال للتدليل على ذلك هو ما حدث لفرعي الاقتصاد القياسي واقتصاديات التنمية، اللذَيْن سرعان ما أخذا -خلال ما يقل عن نصف قرن- مكانةً متناميةً أذهلت كل مفكري ومنظري هذا العلم.
-الأفكار الاقتصادية والنظرة المجتمعية: بالانتقال من نظرات معللة بعلم، ربما يبدو هامشيًّا للبعض، إلى علم حياتي يتصل بجميع جوانب الحياة، ويستخدمه المواطن العادي على نحو يومي، ويتابع عبر الوسائل المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، بعضًا من أفكاره وتطبيقاتها بين الفينة والأخرى.
المراجع جلال أمين، (2008)، فلسفة علم الاقتصاد بحث في تحيزات الاقتصاديين والأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد، دار الشروق ، القاهرة، ص 22. حازم الببلاوي، (1995) ، دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الإقتصادي، دار الشروق، الطبعة الأولى، القاهرة،ص 24.