هل يجوز الخروج على الحاكم؟

رُوي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) عدة أحاديث تأمر بالصبر على الحكام إن أخطأوا، ففهم البعض منها أنها تمنع الخروج على الحاكم الظالم، وترفض نقده، وتُحرِّم الثورات!

الأحاديث:

  • قال النبي: “إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها”. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: “أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم”([1]).
  • عن عبادة بن الصامت: “بايعنا رسول الله على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان”([2]).
  • وقال: “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس”، قلت: كيف أصنع يا رسول الله، إن أدركت ذلك؟ قال: “تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع”([3]).
  • وقال: “من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، إلا مات ميتة جاهلية”([4]).
  • وقال: “يكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب، وتقشعر منهم الجلود” قال رجل: أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال : “لا، ما أقاموا الصلاة”([5]).

تحرير المصطلحات

يجب أولًا تحرير المصطلح وتحديد ما المقصود بالخروج على الحاكم. وهو لا يخرج عن معانٍ ثلاثة:

1. معارضة الحاكم

يعتقد البعض أن مقصد الأحاديث هو تحريم معارضة الحاكم، أو الاعتراض على قراراته، ووجوب طاعته مهما أمر ومهما فعل!

لكن هذا الفهم يتعارض مع ثوابت يقينية في الدين، منها:

– وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثبت يقينًا بآيات وأحاديث يقينية الثبوت والدلالة، وهو يستلزم بالضرورة الاعتراض على ما يرتكبه الحاكم من منكرات، وإلا سيسقط هذا الفرض ويتحقق المنكر!

إعلان

– كما أن المسألة لا تقف عند حد أن الحاكم قد يفعل المنكرات، ونحن نرضى ولا ننكر، بل قد يأمر الحاكمُ الشعبَ بفعلٍ محرَّم ومُنكر، فهنا عدم الاعتراض يعني أننا أنفسنا سنفعل المنكرات، ونرتكب المحرمات، دون اعتراض، وهو قول لا يقول به مؤمن!

– نهى الله تعالى عن الطاعة في المنكر، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾([6])، ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾([7]).

 – كما نهى النبي صراحةً عن طاعة الحاكم إن أمر بمنكر، فروى مسلم أن رسول الله بعث جيشًا وأمَّر عليهم رجلًا، فأوقد نارًا، وقال: ادخلوها. فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها. فذُكر ذلك لرسول الله، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: “لو دخلتموها، لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة”. وقال للآخرين قولًا حسنًا، وقال: “لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف”([8]).

– وقال النبي: “السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية، فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة”([9]).

– وقال النبي: “سيليكم أمراء بعدي يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله”([10]).

وبذلك فالأمر بالطاعة جاء مطلقًا، وقيَّدت أحاديث أخرى هذه الطاعة، لتصبح الطاعة في الخير فقط. 

– وأباح النبي الاعتراض على الحاكم الظالم، بل شجع على ذلك وأمر به، فقال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله”([11]).

– وقال: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعُمَّهم الله بعقاب”([12])

– وقال: “إذا رأيت أمتي تهاب، فلا تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم”([13]).

– وقال: “سيكون أمراء يظلمون ويكذبون، فمن أعانهم على ظلمهم وصدَّقهم بكذبهم، فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدِّقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأنا منه وهو مني”([14]).

– وقال: “ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”([15]).  

– إن دعت الأحاديث إلى الصبر على الظلم، فالصبر نتيجة العجز عن التغيير شيء، والرضا به شيء آخر؛ فالأحاديث تعتبر الصبر على الظلم لجوء اضطراري وقهري ومؤقت، ولا يمكن بأي حال اعتباره رضا وموافقة وتأييد وتعاون مع الظالمين، فهذا الرضا بالظلم لا نقول مخالف للدين، بل هو ضد الدين وهدم لمبادئه بالكلية.

يقول سفيان الثوري: “من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يُعصَى الله”([16]).

وقد صرَّح الخلفاء الراشدون على أحقية الشعب في تقويم الخليفة ونقده ومعارضته إن أخطأ.

قال أبو بكر في خطبة البيعة: “إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم”([17]).

وقال عمر بن الخطاب: “أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمر، ما كنتم فاعلين؟” فقال بشير بن سعد: “لو فعلت، قومناك تقويم القدح”. فقال عمر: “أنتم إذن أنتم”([18]).

لم يكتفِ القرآن بإباحة معارضة الظالمين، والجهر بفضائحهم، بل حصَّن المظلومين والمعارضين إن جهروا بالسوء، فقال تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾([19]).

إذن فمعارضة الحاكم إن أخطأ، وإنكار خطأه، ونهيه عن المنكر، لم تنهَ عنه الأحاديث، بل هو واجب طبقًا للاستطاعة.

2. عزل الحاكم سلميًا

يعتقد البعض أن هذه الأحاديث تمنع الشعب من عزل الحاكم مهما ارتكب من فسق وظلم، حتى لو تم العزل بطرق سلمية!

اختيار الحاكم يتم بالبيعة الحرة؛ إذ يختار الشعب وكيلًا ينوب عنه في إدارة البلاد، وهو عقد يلتزم فيه الطرفان؛ فيلتزم الشعب بطاعة القانون العام وقرارات الحاكم، ويلتزم الحاكم بالعدل والمساواة وتحقيق مصالح المواطنين.

وبذلك يحق للأصيل (الأمة) أن يفسخ عقد الوكالة، ويستبدل الوكيل (الحاكم) متى شاء، كما يُعتبر العقد لاغٍ إن خالف الحاكم شروط العقد، وحكم بالظلم والجور.

يقول د. حاكم المطيري: “إذا ثبت أنه لا إمامة بلا عقد البيعة، ولا عقد لا برضا الطرفين، وأنه عقد وكالة: الأمة فيه هي الأصيل، والإمام هو الوكيل عنها في القيام بمهام محددة، إذا ثبت ذلك كله، فإنه لا يوجد عقد في الشريعة يقتضي الاستدامة ولا يمكن فسخه، بل جميع العقود التي تقبل الاستدامة وطول المدة كالإجارة والوكالة والنكاح يمكن فسخها ورفعها، خصوصًا عقود الوكالة، إذ لكل من طرفي العقد فسخه، فإن للأصيل الحق في عزل الوكيل متى شاء، إذ هو صاحب الحق”([20]).

ويقول ابن حزم: “الواجب إن وقع شيء من الجور، وإن قَلَّ أن يُكَلَم الإمام في ذلك، ويُمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقصاص، ولإقامة الحد عليه، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان، لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه، ولم يُراجع، وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق، لقوله تعالى ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾([21])، ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع”([22]).

ويقول الإيجي: “للأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه، مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين، كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها، وإن أدى خلعه إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين”([23]).

ويقول الماوردي: “واجبات الأمة نحو الخليفة: إذا قام الإمام بحقوق الأمة، فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغير حاله.

والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته. والثاني: نقص في بدنه”([24]).

ويقول الجويني: “إذا جار والي الوقت، وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر حين زُجِر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه، ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب”([25]).

ويقول القرطبي: “الإمام إذا  نُصِّبَ ثم فسق بعد انبرام العقد فقال الجمهور: إنه تنفسخ إمامته ويُخلع بالفسق الظاهر المعلوم؛ لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود واستيفاء الحقوق، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها. فلو جوزنا أن يكون فاسقًا أدى إلى إبطال ما أقيم لأجله، ألا ترى في الابتداء إنما لم يجز أن يعقد للفاسق لأجل أنه يؤدي إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله”([26]).

ويقول محمد عبده: “الخليفة مطاع ما دام على المحجة ونهج الكتاب والسنة، والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموا عليه، وإذا اعْوَجَّ قَوَّمُوه بالنصيحة والإعذار إليه، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه، فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه”([27]).

ويقول محمد رشيد رضا: “لا نعرف في الإسلام أقل حق يمتاز به أكبر خليفة عن أصغر واحد من الرعية، وليس الإمام إلا حافظًا ومنفذًا للأحكام العادلة المأخوذة أو المستنبطة من النصوص الشرعية العامة تحت مراقبة أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد والشورى في الإسلام، ويبقى له هذا الأمر، وتجب طاعته فيه، وإعانته عليه مدة استقامته كما أُمِر، فإذا اعوج وجب تقويمه بالكلام أو بحد الحسام، فإذا لم يرجع إلى الحق وجب خلعه، ما لم تترتب على ذلك مفسدة أكبر من مفسدة بقائه”([28]).

ويقول راشد الغنوشي: “الحاكم الذي بدأ عهده السياسي ببيعة حرة، وبعقد التزم فيه بتطبيق الشريعة وإقامة العدل والشورى، حريّ أن يظل على وعي أن استمرار سلطته مرهون باحترام تعهده وكسب رضا المحكومين، فإن سقط الشرط سقط المشروط، وفَقَدَ حقه في الطاعة، وأصبحت كل وسائل المقاومة مشروعة ما دامت تهدف إلى إخراجه من الخلافة بعد أن أصبح بقاؤه فيها غير شرعي”([29]).

ويقول محمد المختار الشنقيطي: “مجمل القيم السياسية الإسلامية تتجه وجهة واحدة: وهي تحكُّم الأمة في حكَّامها، ومنع تحكُّمهم فيها، واعتبار الأمير أجيرًا للأمة لا جبَّارًا عليها، ومنع الظالم أن يكون حاكمًا، ومنع الحاكم أن يكون  ظالمًا، واستحثاث الحاكم على حسن الأداء، ومراقبته الدائمة، والأخذ على يده إن ظلم، وعزله إذا عجز أو خان”([30]).

إذن فعزل الحاكم سلميًا لم ينهَ عنه الشرع، بل هو حق أصيل للأمة متى أرادت، خاصة إن حاد الحاكم عن الحكم الرشيد العادل.

3. عزل الحاكم بالسلاح

هذا تحديدًا هو المعنى المقصود بالخروج على الحاكم في الأحاديث، وهذا تحديدًا ما نهت عنه الأحاديث، ونتبين ذلك بمعرفة سبب ورود هذه الأحاديث ودراسة الواقع التاريخي لعهد النبي.

لم يكن للعرب قبل الإسلام حكومة مركزية تحفظ حقوقهم، ولا شرطة مركزية تردع المخالفين، لذا لم يوجد سبيل أمامهم سوا اللجوء إلى القبيلة، فهي الحمى عند الخطر، وهي مصدر العزة والفخر، لذلك يستحيل أن يعيش العربي وحده مبتورًا دون سند، بل يذوب في قبيلة تحميه وتحفظ قدره، ومن هنا تمكَّن التعصب القبلي من العرب، ونتج عن هذا التعصب غارات واعتداءات بين القبائل، ونصرة القبيلة ولو على الباطل، والمبالغة في الثأر.

كما نتج عن هذا التعصب القبلي اعتبار كل خضوع واتباع لغير القبيلة هو ذل وعار، لا يفعله العربي إلا بعد هزيمة نكراء، لذلك لم يعرف العرب حاكمًا مركزيًا تدين له البلاد وتخضع له القبائل كلها.

ويصف زهير بن أبي سلمة حال العرب قبل الإسلام، فيقول:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه     يُهدم ومن لا يظلِم الناس يُظلَم

حتى جاء الإسلام وأنشأ حكومة مركزية تجمع العرب والمسلمين جميعًا تحت خليفة واحد. وظل النبي r طوال حياته يحذر العرب من التعصب القبلي، والتفرق شيعًا، والتباهي بالقبيلة، فيروي البخاري أنه “لما ضرب غلامٌ من المهاجرين غلامًا من الأنصار، واستغاث الأول: يا للمهاجرين، ونادى الآخر: يا للأنصار، سمع ذلك رسول الله فقال: “ما بال دعوى الجاهلية”، فحكوا له ما جرى، فقال: “دعوها فإنها منتنة”([31]).

وفي حجة الوداع حذَّر النبي من هذه الفرقة، فقال: “لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض”([32]).

من هنا كان من الحكمة السياسية أن يحاول النبي والخلفاء الراشدين من بعده بكل الطرق الممكنة الحفاظ على الجماعة والوحدة والتماسك، والالتزام بقانون عام يخضع له الجميع، وطاعة الحكام، مهما كانت قبائلهم، ومهما كان نسب الحاكم وأصله، حتى لو كان عبدًا. ولو صدر عن الخليفة خطأ أغضب قبيلة، فليس مبررًا لحمل السلاح وسفك الدماء؛ لأن الانقلاب على الحكم وقتئذ هو مخاطرة ببناء الأمة كله، فربما ينفرط العقد ولا يتمكن أحد من تجميع العرب والمسلمين مرة أخرى تحت راية واحدة، ويحدث المحظور وتستقل كل قبيلة كما كانت، ويعود العرب لعهد الجاهلية من جديد، يضرب بعضهم رقاب بعض.

لذلك حين مات النبي وتمردت قبائل على الحكومة المركزية، وطالبت باستقلالها، واجههم أبو بكر بأقصى حزم، وقال مقولته الشهيرة: “والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه رسول الله لحاربتهم عليه”.

ومما يزيد الأمر صعوبة وحذرًا أن المسلمين أُضطُروا لمواجهة أعداء خارجيين لم يكن لهم عهد بهذه الحروب المنظمة والجيوش المرتبة، ولنا أن نتصور كيف كانت تتم التعبئة العامة للجيش، وأخذ شباب القبائل إلى حروب قد يغيبون فيها لشهور أو سنين أو لا يعودون أبدًا، كل هذه الصعوبات كانت تستلزم حزمًا وشدة، واجتماعًا تحت راية واحدة وحاكم واحد، حتى لو أخطأ مرة أو تجاوز في قرار.

يقول ابن خلدون: “العرب أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع الأهواء”([33]).

ويقول ابن حجر: “كانت قريش، ومن يليها من العرب، لا يعرفون الإمارة، فكانوا يمتنعون على الأمراء، فقال النبي r: “ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني”، يحثهم على طاعة من يؤمرهم عليهم، والانقياد لهم إذا بعثهم في السرايا، وإذا ولَّاهم البلاد، فلا يخرجوا عليهم لئلا تفترق الكلمة”([34]).

ويقول حاكم المطيري: “لقد أدى فهم أحاديث السمع والطاعة دون الإحاطة بالسياق التاريخي ومعرفة الظرف الاجتماعي التي وُلدت فيه إلى أسوء أثر في واقع حياة المسلمين في عصور التخلف والانحطاط، فأدى إلى قبولهم أسوء صور الظلم، والاستئثار بالثروة، والاستبداد بالسلطة، بذريعة أن الشارع أمر بالسمع والطاعة، مع أن الشارع إنما كان يخاطب العرب الجاهليين الذين لم يكن لهم دولة توحدهم، ولا سلطة تحكمهم، بل ولا يرضون بذلك، لشدة اعتزازهم بأنفسهم، وأنفتهم من الخضوع لغيرهم، مما أدى إلى فرقتهم وتشرذمهم، وتقاتلهم، وتظالمهم. حتى جاء دين التوحيد فوحَّدهم، وجمع كلمتهم، وساوى بينهم، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (عليكم بالسمع والطاعة وإن وُلِّي عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله)”([35]).

وبالتالي فهذه الأحاديث قد نهت عن الخروج المسلح على الحكام وقتلهم رغبةً في الانقلاب على السلطة، أو رفضًا للخضوع لسلطة موحدة، أو استكبارًا على الحاكم، أو دعوة للتفرقة. ومما يدل على ذلك:

– بعض هذه الأحاديث كان إجابة على سؤال عن قتل الحكام الظالمين، وبالتالي فنهي النبي عن هذا الخروج هو نهي عن الخروج المسلح، فقد روى البيهقي قول النبي: “يكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب، وتقشعر منهم الجلود”. قال رجل: أنقاتلهم يا رسول الله؟ قال: “لا، ما أقاموا الصلاة”([36]).

– وعن أبي ذر قال: قال النبي: “كيف أنت وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء؟” قلتُ: إذن والذي بعثك بالحق، أضع سيفي على عاتقي، ثم أضرب به حتى ألقاك أو ألحق بك. فقال النبي r: “أَوَلَا أدلك على خير من ذلك؟ تصبر حتى تلقاني”([37]).

– وفي الحقيقة لا نحتاج من السائل في هذه الأحاديث أن ينص على القتل لنتبين أن مجال السؤال عن حمل السلاح، بل كل سؤال عن الخروج على الحاكم في ذلك العصر مفهوم منه أنه خروج مسلح؛ لأنه لم يكن عندئذ أي وسيلة سلمية متاحة للخروج على الحاكم سوى السلاح، وبالتالي فكل هذه الأحاديث بداهةً يجب أن تُصنف تحت باب الخروج المسلح.

– ونهي الفقهاء القدامى عن الخروج على الحاكم هو نهي عن الخروج المسلح؛ لأنه لم يُعرف في عهدهم وسيلة للخروج على الحاكم سوى الخروج المسلح.

يقول القرضاوي: “الخروج الذي يُنكَر هو الخروج بالسلاح لقتال الحاكم”([38]).

ويقول د. محمد عمارة: “مصطلح (الخروج) في التراث الإسلامي خاص بالخروج المسلح .. والذي عارضه أهل الحديث هو (الخروج المسلح)، وذلك مخافة الفتنة وتعطيل مصالح الأمة، ولم يعارضوا (التغيير السلمي) الذي نسميه (الثورات البيضاء)”([39]).

ويقول د. محمد العبد الكريم: “الخروج المعهود في كلام الأئمة والمفسرين يقصدون به الخروج المسلح، ومنهج العنف ورفع السلاح في جور الحاكم قد أبدلنا الله به الوسائل السلمية المتعددة، التي ثبت أثرها في دفع جور الحاكم، وبأقل الخسائر والمفاسد، فلا حاجة للأمة باستعمال السلاح”([40]).

ويقول الشريف حاتم العوني: “المظاهرات السلمية التي لا تُشهِر السلاح، ولا تسفك الدماء، ولا تخرج للاعتداء على الأنفس والممتلكات ليست خروجًا مسلحًا على الحكام، ولذلك فلا علاقة للمظاهرات السلمية بتقريرات الفقهاء عن الخروج وأحكامه؛ لأنها ليست خروجًا، ومن أدخلها في هذا الباب فقد أخطأ خطأً بيِّنًا. والمظاهرات السلمية هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، ومن وسائل التغيير، ومن وسائل الضغط على الحاكم للرضوخ لرغبة الشعب”([41])

– نصت بعض هذه الأحاديث على علة التحريم وسبب المنع، وهو منع العودة لعصر الجاهلية، وانهيار الوحدة، والدعوة للعصبية والفرقة؛ فقال النبي: “من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عِمِّيَة يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقُتل، فقتلة جاهلية. ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه”([42]).

يقول القرضاوي: “والمراد بالميتة الجاهلية: أن يكون حاله في الموت: كموت أهل الجاهلية على ضلال، وليس له إمام مطاع؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك، وليس المراد أنه يموت كافرًا، بل يموت عاصيًا. ويُحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره؛ ومعناه أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن جاهليًا”.

– نصت بعض هذه الأحاديث على عدم الخروج عن الجماعة، وفي ذلك تفريق بين حالتين:

1. حالة تتمرد فيها جماعة أو حزب على الحاكم والقانون والأمة، وتريد أن تنقلب على الحاكم وعلى الشرعية الدستورية وعلى الانتخابات الحرة وتستولي على السلطة، وهذا الانقلاب العسكري هو تحديدًا ما نهت الأحاديث عنه. وهنا قال النبي r: “من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه”([43]).

2. وحالة أخرى: أن الأمة قد اجتمعت على عزل الحاكم، فعندئذ عزل الحاكم لا يكون خروجًا عن الجماعة، بل هو تحرك جماعي ترتضيه الأمة، وعندئذ يكون التمسك بالحاكم الظالم هو العمل الشاذ الخارج عن الجماعة.

– نصت بعض هذه الأحاديث على أن الأمر بالصبر خاص بالحكام الذين يرتكبون مخالفات بسيطة وليست جرائم جسيمة، فقال: “ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون”، وقال: “لا تقاتلوهم، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان”، وقال: “لا تقاتلوهم إلا أن يأمروكم بإثمٍ بواح”، وقال: “لا تقاتلوهم ما أقاموا فيكم الصلاة”، وقال: “لا تقاتلوهم ما صلوا”.

يقول محمد الغزالي: “احتاط الإسلام احتياطًا شديدًا في قضية (الخروج على الحاكم)؛ فلم يدع لأحد تصيد مقدماتها من أعمال متشابهة تضطرب فيها وجهات النظر، ولا من أخطاء يمكن الرجوع عنها، أو يمكن تحمل العنت الخفيف فيها.

وللإسلام عذره في هذه الأناة، وهي لمصلحة الأمة لا لمنفعة الحاكم، فإن عواقب الفتن وخيمة على مستقبلها.

إن المسلم قد يُلِمُ بسيئة، أو يفرِّط في واجب، ولا يكون بذلك مرتدًا، لكن البون بعيد بين اقتراف محظور، تعقبه توبة من قريبٍ أو بعيد، ورجل يصرف شئون الدولة على أسس تجعل الحرام متداولًا ومستساغًا كالطعام!

إن الجريمة خروج على القانون، فإذا جاء حاكم ليجعل الجريمة نفسها قانونًا يحتكم الناس إليه، فمن العبث وصف هذا العمل بأنه إسلام!”([44])

ويقول راشد الغنوشي: “إن الإطار الاجتماعي والسياسي الذي تتنزل فيه النصوص المنفرة من استعمال القوة هو إطار إسلامي اعترته بعض الانحرافات الجزئية من دون أن يمس النظام العام، فالأمراء المتحدث عنهم في النصوص هم أمراؤنا “من رأى من أميره”، “خيار أئمتكم”، “شرار أئمتكم”، ولا يمكن عدُّ الحكام الديكتاتوريين المفسدين المتمردين على شريعة الرحمن وإرادة شعوبهم، ومنهم من هو أدنى إلى قطَّاع الطرق وعصبات الإجرام وجماعات الحشاشين، هؤلاء لا يمكن عدهم أمراءنا وأولياء أمورنا، وإلا لزمت لهم الطاعة، مع أن النصوص مجمعة على أنه لا طاعة في معصية الله، ولا طاعة لمن عصى الله، فالإنكار الذي تحث عليه النصوص الآنفة إنما لتصحيح انحراف في إطار المشروعية الإسلامية، أي ما ظلت تعاليم الإسلام محترمة، ومنها حكم العدل والشورى”([45]).

هل كل خروج مسلح على الحكام حرام؟

اختلف الفقهاء حول حكم الخروج بالسلاح على الحاكم الظالم، فأباحه علي بن أبي طالب، وعائشة، وطلحة، والزبير، وعبد الله بن الزبير، والحسن بن علي، ومالك بن أنس، وأبو حنيفة، وسعيد بن جبير، وابن البحتري، والحسن البصري، والجصاص، والشعبي، وابن أبي ليلى، وابن حزم([46])، والجويني، والماوردي، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا.

ومنعه آخرون كابن كثير، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، والنووي، والشوكاني، وغيرهم، وهو رأي جمهور الفقهاء.

لكن حين ننظر في سبب فتاوى الطرفين، نجد المؤيدين يعتمدون على أن ظلم الحاكم أسوء وأخطر من الخروج عليه بالسلاح، ونجد المانعين يعتمدون على أن الخروج المسلح أكبر فتنة وسفكًا للدماء.

فانظر مثلًا لنموذج من المانعين، وهو ابن كثير، فيقول: “الإمام إذا فسق لا يُعزل بمجرد فسقه، على أصح قولي العلماء، بل ولا يجوز الخروج عليه؛ لما في ذلك من إثارة الفتنة، ووقوع الهرج، وسفك الدماء الحرام، ونهب الأموال، وفعل الفواحش مع النساء، وغير ذلك مما كان واحدة فيها من الفساد أضعاف فسقه”([47])

وانظر لنموذج من المؤيدين، وهو الجويني، فيقول: “إذا تواصل من الإمام الفاسق العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وتعطلت الحقوق والحدود، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منصفًا ممن ظلمه، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم .. وترك الناس سدى، ملتطمين لا جامع لهم على الحق والباطل أهون عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين”([48]).

كلا الطرفين يعترف بأن حمل السلاح ضرر، والحاكم الظالم ضرر، والجميع بحثوا عن الأقل ضررًا، وهذا بالتأكيد يختلف باختلاف العصر والبلد والحاكم وقدرات المعارضة ووسائل الثورة، لذا اختلفت مواقفهم، أو بمعنى أدق: اتفقت رؤيتهم واختلف واقعهم.

لذلك الإمام الداودي يضع قاعدة عامة يطبقها الجميع طبقًا لواقعهم، فيقول: “الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قُدِر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر”([49]).

ويقول د. محمد عمارة: “أجمعت مذاهب الأمة على وجوب خلع ولاة الجور، الذين لا يحكمون بالشورى، والذين لا يقيمون العدل، حتى الذين تولوا الحكم بالشورى والبيعة الحرة، إذا طرأ الجور والظلم والاستبداد على سياستهم للأمة.

أما الذين اغتصبوا الحكم بالقوة أو بتزوير إرادة الأمة فلا شرعية لهم أصلًا، والخروج السلمي على سلطانهم من باب تغيير المنكر، وهو موضع إجماع علماء المذاهب الإسلامية.

والمختلف فيه فقط هو الخروج المسلح، الذي تجب فيه الموازنة بين المصالح والمفاسد التي تترتب على هذا الخروج المسلح، فإن رجحت كفة المصالح على المفاسد في هذا الخروج المسلح على أئمة الجور كان باب المشروعية أمامه مفتوحًا”([50]).

مناقشة بعض الأحاديث

نقف عند بعض الأحاديث التي أُسيء فهمها، وانحرف البعض عن مقصدها ..

  1. أطعِ الحاكم وإن أخذ مالك وجلد ظهرك!

روى مسلم عن أبي سلام عن حذيفة بن اليمان، أن النبي قال: “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس”، قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: “تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع”([51]).

يعتقد البعض أن المقصود بالحديث: مهما ارتكب الحاكم من مظالم، فاسمع وأطع، حتى لو جلد ظهرك وأخذ مالك ظلمًا وعدوانًا!

من حيث السند ..

يقسِّم الإمام مسلم كتابه (الصحيح) إلى أصول ومتابعات، وهذا الحديث لم يذكره في الأصول، بل ذكره في المتابعات، الذي لا يدقق في صحته كالأصول.

روى الشيخان نفس الحديث عن أبي إدريس الخولاني عن حذيفة, وليس فيه زيادة: “وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك”.

أما الحديث الذي وردت فيه الزيادة، فورد فيه أن أبي سلام سمع من حذيفة بن اليمان، ويقول الدارقطني: “هذا عندي مرسل؛ أبو سلام لم يسمع من حذيفة”([52]).

إذن فالحديث ورد بطريق صحيح دون هذه الزيادة، وورد بطريق آخر مرسل، وبه هذه الزيادة، مما يضعف من صحتها.

من حيث المتن ..

حتى لو صح سند الحديث، فهل يعني النبي: أطع الحاكم وإن أخذ مالك وجلد ظهرك ظلمًا وعدوانًا؟

هذا المعنى يتعارض مع أحاديث كثيرة تأمر برد العدوان، وقتال السارق، فقال النبي: “من قُتِل دون ماله فهو شهيد”([53])

وجاء رجل إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال النبي: “فلا تعطه مالك”، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال النبي: “قاتله”. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال النبي: “فأنت شهيد”، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال النبي: “هو في النار”([54]).

إذن فيستحيل أن يكون المقصود: أخذ مالك وجلد ظهرك ظلمًا وعدوانًا، بل المقصود: أخذ مالك وجلد ظهرك تطبيقًا لحد من حدود الله، وعقابًا مستحقًا.

ومما يؤكد هذا المعنى، ورود هذا الحديث بطرق أخرى تقول: “اسمع وأطع وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك، إلا أن يكون معصية”([55])، فزيادة (إلا أن يكون معصية) تثبت أن أخذ المال والجلد هنا ليس بمعصية، بل استحقاقًا.

وهو المعنى الذي أقره كثير من الشراح، فيقول ابن حزم: “أما أمره (صلى الله عليه وسلم) بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر، فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق، وهذا ما لا شك فيه أنه فُرض علينا الصبر له، وأما إن كان ذلك بباطل، فمعاذ الله أن يأمر رسول الله بالصبر على ذلك. برهان هذا قول الله عز وجل: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾([56])، وقد علمنا أن كلام رسول الله لا يخالف كلام ربه تعالى. فيقين لا شك فيه أن كل مسلم يدري أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام، قال رسول الله: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم”.  

فمن يسلِّم ماله للأخذ ظلمًا وظهره للضرب ظلمًا، وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه، فهو معاون لظالمه على الإثم والعدوان، وهذا حرام بنص القرآن”([57]).

2. الخروج على الحاكم حرام إلا أن تروا كفرًا بواحًا!

عن عبادة بن الصامت: “بايعنا رسول الله على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعُسرنا ويُسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان”([58]).

يعتقد البعض أن معنى الحديث: لا يجوز عزل الحاكم، مهما ارتكب من مظالم وجرائم، ما دام لم يكفر بالله جهرة وعلانيةً!

لكن ورد الحديث بطرق أخرى ولم يُذكر فيها (كفر بواح) بل ورد فيها (معصية) أو (إثم)، مما جعل الشراح يفسرون الحديث بأن المقصود: لا يجوز الخروج المسلح على الحكام الذين يرتكبون أخطاء بسيطة، لكن يجوز الخروج عليهم إن ارتكبوا كفرًا عظيمًا، أو إثمًا عظيمًا، أو معصيةً عظيمة، المهم أنه يجوز الخروج إن كانت جرائمهم عظيمة واضحة، لا تحتمل التأويل والظن.

يقول ابن حجر: ” وقع في رواية حبان أبي النضر: “إلا أن يكون معصية لله بواحًا”.

وعند أحمد: “ما لم يأمروك بإثم بواحًا”.

وعند أحمد والطبراني والحاكم: “سَيَلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله”.

وعند ابن أبي شيبة: “عندكم من الله فيه برهان”، أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل.

ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل”([59]).

ويقول النووي: “المراد بالكفر هنا: المعاصي، ومعنى (عندكم من الله فيه برهان): أي تعلمونه من دين الله تعالى. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك، فانكروا عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم”([60]).

كما ورد في حديث آخر استخدام لفظ (كفر) للدلالة على المعاصي الكبيرة، مثلما ورد في الحديث: “سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر”([61]).

ويقول ابن حزم: “ما تقولون في سلطان حمل السيف على أطفال المسلمين، وأباح المسلمات للزنا، وحمل السيف على كل من وُجِد من المسلمين، وهو في كل ذلك مقر بالإسلام، معلنًا به، لا يدع الصلاة؟

فإن أجازوا الصبر على هذا، خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه!

وإن قالوا: بل يُقام عليه ويُقاتل.

قلنا لهم: فإن قتل تسعة أعشار المسلمين، وسَبَى من نسائهم، وأخذ من أموالهم؟

فإن منعوا من القيام عليه، تناقضوا!

وإن أوجبوا القيام عليه، سألناهم عن أقل من ذلك، ولا نزال نحيطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد، أو على امرأة واحدة، أو على أخذ مال، أو على انتهاك بشرة بظلم، فإن فرَّقوا بين شيء من ذلك، تناقضوا وتحكموا بلا دليل، وهذا ما لا يجوز. وإن أوجبوا إنكار كل ذلك، رجعوا إلى الحق”([62]).

ويناظر ابن حزم أصحاب الفهم السقيم للحديث ويقول: “نسألهم عن رجل غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم، أهو في سعة من تسليم نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة، أم فُرِض عليه أن يدفع من أراد ذلك؟

فإن قالوا: فُرض عليه تسليم نفسه وأهله، أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم!

وإن قالوا: بل فُرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل. رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك”([63]).

هل أباح الفقهاء ولاية الحاكم المتغلِّب؟

بالفعل أباح كثير من الفقهاء ولاية الحاكم المتغلِّب الذي تمكَّن وتغلَّب وسيطر على الحكم بالسلاح، حتى لو لم يرتضيه الشعب، لكن السؤال الأهم: لماذا أباح الفقهاء ذلك؟ هل ارتضوا هذا الوضع واعتبروه موافق للشرع؟

الفقهاء يفرقون بين الحكم الطبيعي في الحالات الطبيعية للوصول لحالة الكمال التي قصدها الشرع، وبين حالة الضرورة التي يُخيَّرون فيها بين اختيارين كلاهما ضرر، فيُضطرون لاختيار أقل الأضرار.

ومن أمثلة ذلك:

ماذا لو تم زواج فاسد لم يكتمل أحد أركانه، مثلًا زواج تم بغير صداق؟ فالفقهاء يحكمون بفساد النكاح، ويفرقون بين الرجل والمرأة قبل الدخول. لكن ماذا لو تم الزواج بالفعل ودخل بها ونتج أطفالًا؟ هنا يُضطر الفقهاء لقبول الزواج، ليس لأنه زواج صحيح ومكتمل، لكن للحفاظ على المصلحة.

كذلك ماذا لو تم بيع فاسد؟ يحكم الفقهاء بحرمة البيع واعتباره لاغٍ وعودة المال لصاحبه. لكن ماذا لو تغيرت حالة المبيع أو انتهى وجوده؟ هنا يُضطر الفقهاء لتصحيح البيع وقبول نتائجه وآثاره، ليس لأنه كان بيعًا صحيحًا ومكتملًا، لكن للحفاظ على المصلحة.

بنفس المنهجية حين نسأل الفقهاء: ما حكم الشرع في رجل تمكَّن من الحكم بغير بيعة حرة من الشعب؟

يجمع الفقهاء على حرمة ذلك وفساد ولايته، وليس له سلطان على الناس، ولا سمع ولا طاعة له.

لكن ماذا لو نشبت حرب أهلية بين فريقين عظيمين، ثم تغلَّب أحد الفريقين على الآخر، وتمكَّن قائدهم من السلطة بالسلاح؟ هل نرفض هذا الحاكم؟

هنا رفض الحاكم يعني عودة الحرب الأهلية مرة أخرى، وإشعال القتال مرة أخرى! هنا أُضطر الفقهاء لقبول ولاية هذا الحاكم المتغلِّب، ليس لأنه حاكم عادل ووصل للحكم ببيعة أو انتخاب حر من الشعب، لكن قبلوه اضطرارًا بدافع المصلحة، واختيارًا لأقل الأضرار، وهو وضع اضطراري وقهري ومؤقت.

هل عندئذ نقول: إن الفقهاء اعتبروا ظلم الحاكم أو عدله مسألة غير مؤثرة؟! هل أسقط الفقهاء حق الشعب في اختيار حاكمه؟! هل أيدوا الحاكم المتغلِّب الظالم وشجعوه وناصروه وتعاونوا معه؟!([64])

وانظر لنموذج عملي لذلك وهو قول الغزالي، فقد قال: “السلطان الظالم عليه أن يكف عن ولايته، وهو إما معزول أو واجب العزل، وهو على التحقيق ليس بسلطان”، وفي نفس الصفحة يقول أيضًا: “السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة وعسر خلعه، وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تُطاق، وجب تركه ووجبت الطاعة له”([65])، فهو يرفض طاعة الظالمين في الوضع الطبيعي، لكن يقبلها اضطرارًا، إن لم نتمكن من عزله.

يقول الشنقيطي: “يتبين من أقوال الفقهاء والمحدِّثين – صراحةً وضمنًا – أن تسليمهم بسلطة المتغلب يدخل في باب الضرورات، حفاظًا على كيان الأمة في عصر إمبراطوري يتسم بحرب الكل على الكل، فأي أمة تنازعت أمرها السياسي آنذاك توشك أن تصبح لقمة سائغة للأمم الأخرى”([66]).

النتيجة

إذن فأمر النبي بطاعة الحكام، والصبر عليهم، والتحذير من الخروج عليهم، نفهمه كالتالي:

  • لم ينهَ النبي عن معارضة الحكام وانتقادهم إطلاقًا، بل على العكس، فاعتبرها من الجهاد، بل خير أنواع الجهاد.
  • الحاكم الذي نصبر عليه هو حاكم ارتكب بعض المخالفات التي يمكن تجاوزها، فلا يُعقل أن نترصد لكل حاكم خطأً فنعزله! أما الجرائم المغلظة كإبادة فئة، أو مذبحة دموية، أو بيع أرض من الوطن، أو خيانة الوطن، أو سرقة المال العام، أو تعذيب أبرياء، أو تزوير انتخابات، أو توريث السلطة، فهذا ما لا يمكن التجاوز عنه والصبر عليه، وإلا سيضيع الدين والدنيا والمال والعِرض والوطن، ونحن صابرون صامتون!
  • الصبر على الحاكم الظالم لا يعني الرضا به وبأفعاله وتأييده والتعاون معه، بل هو صبر على كرهٍ منا، وهو وضع اضطراري وقهري ومؤقت.
  • ما حرَّمه النبي تحديدًا: هو عزل الحكام بالسلاح وقتلهم.
  • وعلة التحريم: الخروج المسلح على الحكام غالبًا ما يتسبب في فتن ودماء أكثر من ظلم الحاكم.
  • ولما كانت العلة تدور مع الحكم وجودًا وعدمًا، علمنا أنه إذا تمكَّن الشعب من عزل الحاكم الظالم بلا فتنة ولا فوضى، أو بضرر أقل من ظلمه، فعزله واجب، إنكارًا للمنكر، وإحقاقًا للحق. أما إن كان عزله سيؤدي إلى فتنة أشد، وسفك للدماء، وحروب أهلية، وتمزيق للوطن، فهنا نضطر للصبر المؤقت.

[1]. (صحيح البخاري) ج9 ص47 رقم (7052)

[2]. (صحيح البخاري) ج9 ص47 رقم (7055)

[3]. (صحيح مسلم) ج3 ص1476 رقم (1847)

[4]. (صحيح البخاري) ج9 ص47 رقم (7054)

[5]. (شعب الإيمان) ج10 ص14 رقم (7100)

[6]. الشعراء: 151-152

[7]. المائدة: 2

[8]. (صحيح مسلم) ج3 ص1469 رقم (1840)

[9]. (صحيح البخاري) ج4 ص49 رقم (2955)

[10]. (المستدرك على الصحيحين) ج1 ص401 رقم (5582)

[11]. (المستدرك على الصحيحين) ج3 ص215 رقم (4884)

[12]. (سنن أبي داود) ج6 ص393 رقم (4338)

[13]. (المستدرك على الصحيحين) ج4 ص198 رقم (7036)

[14]. (مسند أحمد) ج18 ص376 رقم (11873)

[15]. (صحيح مسلم) ج1 ص69 رقم (50)

[16]. (حلية الأولياء) ج7 ص46

[17]. (البداية والنهاية) ج8 ص89

[18]. (التاريخ الكبير) ج2ص98

[19]. النساء: 148

[20]. (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان) ص312

[21]. المائدة: 2

[22]. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ج4 ص135

[23]. (المواقف) ج3 ص595

[24]. (الأحكام السلطانية) ص42

[25]. (شرح النووي على مسلم) ج2 ص25

[26]. (الجامع لأحكام القرآن) ج1 ص271

[27]. (مجلة المنار) ج5 ص441، (الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده – الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات) ص309

[28]. (مجلة المنار) ج27 ص354

[29]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامية) ج2 ص39

[30]. (الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية) ص253

[31]. (صحيح البخاري) ص1241 رقم (4905)

[32]. (صحيح البخاري) ص1751 رقم (7078)

[33]. (الديمقراطبة في الإسلام) ص111

[34]. (فتح الباري) ج13 ص112

[35]. (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان) ص184

[36]. (شعب الإيمان) ج10 ص14 رقم (7100)

[37]. (مسند أحمد) ج35 ص443 رقم (21559)

[38]. http://bit.ly/2VkRcu3

[39]. (ثورة 25 يناير) ص17، 18

[40]. (تفكيك الاستبداد) ص115

[41]. (تفكيك الاستبداد) ص139

[42]. (صحيح مسلم) ج3 ص1476 رقم (1848)

[43]. (صحيح مسلم) ج3 ص1480 رقم (1852)

[44]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص194

[45]. (الحريات العامة في الدولة الإسلامي) ج1 ص276

[46]. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ج4 ص132، (الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام) ص258

[47]. (البداية والنهاية) ج8 ص245

[48]. (الغياثي غياث الأمم في التياث الظلم) ص106

[49]. (فتح الباري على صحيح البخاري) ج13 ص8

[50]. (ثورة 25 يناير وكسر حاجز الخوف) ص20

[51]. (صحيح مسلم) ج3 ص1476 رقم (1847)

[52]. (الإلزامات والتتبع) ج1 ص182

[53]. (صحيح البخاري) ج3 ص136 رقم (2480)

[54]. (صحيح مسلم) ج1 ص124 رقم (140)

[55]. (صحيح ابن حبان) ج10 ص426 رقم (4563)

[56]. المائدة: 2

[57]. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ج4 ص132

[58]. (صحيح البخاري) ج9 ص47 رقم (7055)

[59]. (فتح الباري) ج13 ص8

[60]. (شرح النووي على مسلم) ج12 ص229

[61]. (سنن الترمذي) ج5 ص21 رقم (2635)

[62]. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ج4 ص134

[63]. (الفصل في الملل والأهواء والنحل) ج4 ص135

[64]. (فقه الثورة) ص21-26

[65]. (إحياء علوم الدين) ج2 ص140

[66]. (الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية) ص423

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

اترك تعليقا