من اللا شيء وحتى الإنسان.. كيف وصلنا إلى هنا؟
تبدأ القصة قبل ١٣.٧ مليار عام في اللا مكان واللا زمان لو صح التعبير، نقطة صغيرة شديدة الكثافة والحرارة والضغط هي كل ما يمثل الكون الكبير حاليًا، لا ندري تمامًا سبب وجود الكون بهذه الحالة، إحدى الفرضيات التي تسمى (الأكوان المتعددة) تتحدث عن تصادم كونين مشابهين لكوننا منتجة هذا الكون، وأخرى تشير إلى أن الكون في حالة تكرار فهو يتوسع ثم يصغر ثم يتوسع ثم يصغر، وتسمى بفرضية (الكون المتذبذب).
لكن الأهم من مصدر تلك النقطة هو ما حدث فيها فيما بعد فـ لسبب ما -أيضًا لم يدركه العلماء بعد- حدث اختلال في تلك النقطة (المتفردة كما تسمى) مما أدى لتوسّعها تدريجيًا فيما يشبه الانفجار في حادث يسمى الانفجار العظيم ومن هنا بدأ كل شيء فقد نتج عن الانفجار الطاقة والمادة ونسيج الزمكان (الزمان والمكان)، ونشأ كون متبعثر لا يوجد فيه أي عناصر كيميائية أو أي تركيبات أو أجسام وكل مافيه هو الضوء والظلام والحرارة والبرودة والضغط الكثيف وبعض الجسيمات المادية الصغيرة جدًا التي تسمى كواركات والليبتونات (وفيما بعد القوى الأساسية الأربعة).
بدون الدخول في التفاصيل فإن الكواركات هي العناصر الأساسية لتشكيل البروتونات والنيوترونات، والليبتونات هي العناصر المشكلة للإلكترونات. وأما القوى الأربعة هي: الجاذبية، القوى النووية القوية، القوى النووية الضعيفة، القوى الكهرومغناطيسية، وقد أفنت جميع الجسيمات المتضادة بعضها بعضًا، ولكن تفوّق عدد الليبتونات على الكواركات كان له الفضل بنجاة مليارات الإلكترونات واختلال التوازن الذي كان من الممكن أن يجمِّد الكون إلى الأبد!
بالعودة لحكايتنا فإنه وتحت تأثير الجاذبية والضغط تشكل أول النيوترونات وأول البروتونات (يعتقد أن هذا استغرق ١٠٠ مليون سنة بعد الانفجار) وقد عملت الجاذبية والضغط عملهما لتشكيل أول نواة في تاريخ الكون تلك النواة هي نواة أبو العناصر الهيدروجين H.
زادت ذرات الهيدروجين تدريجيًا حتى حصل ما هو أعظم، فـ تحت الضغط الكبير حدثت أول عملية اندماج نووي في التاريخ، إذ اندمجت نواتا ذرتا هيدروجين مشكِّلَتين ثاني العناصر الطبيعية الهيليوم He ومولّدتين حرارة هائلة تقدر بملايين الدرجات. وفي الحقيقة فإن هذا الاندماج ومن دون أن يقصد كان قد صنع نجمًا، نعم نجمًا. فـ نواة النجوم هي خليط من الهيدروجين والهيليوم ووقودها الذي يبقيها على قيد الحياة هو التفاعلات النووية.
لكن النجوم ما لبثت أن زادت الأمر متعة، فالنجم مكان مناسب جدًا لإجبار العناصر على الإندماج، وهكذا وداخل أرحام النجوم بدأت تتشكل عناصر الطبيعة بالترتيب واحدًا تلو الآخر (كما هي واردة في الجدول الدوري)، فقد اندمج الهيدروجين مع الهيلوم فتشكل العنصر الثالث (الليثيوم) ثم اندمج الهيدروجين مع الليثوم فتشكل العنصر الرابع (الباريوم) ثم الخامس فالسادس فالسابع. طبعًا نتحدث هنا عن اندماج نووي (أي نواة مع نواة) وليس تفاعل كيميائي (تبادل وارتباط إلكترونات). وهكذا تشكّلت معظم العناصر الطبيعية اللازمة لتشكيل الحياة لكن فقط عندما وصلت العملية إلى العنصر الـ ٢٦ وهو الحديد Fe بدأ هذا الأخير بالتراكم في نواة النجوم بسبب ثقله، إلى أن انطفئت النجوم وتوقف وقودها النووي (وأما صناعة بقية العناصر فقضية أخرى) وهنا يحدث الأفضل.
ينفجر النجم في عملية تعرف بالسوبرنوفا وتتناثر قطعه وأشلاؤه مشكّلة مذنبات صغيرة أو حتى كواكب وتنتشر بعشوائية كل العناصر التي صنعت بداخلها، أحدها يهبط على سطوح الكواكب والآخر على سطح المذنبات التي تتنقل فيها بين الأرجاء حتى تهبط في مكان ما.
بالعودة لحكاية كوننا فإن بقيت الحال على هذا ما بين نجوم تتشكل وأشلاء تتناثر وعناصر تتوزع حتى جاء موعد ولادة نجم جديد قبل ٤.٦ مليار سنة من الآن ذلك النجم هو الأشهر بالنسبة لك إلا إذا كنت فضائيًا! ويسمى الشمس.
عملت الشمس عمل النجوم الأخرى وبسبب حقل جاذبيتها توافدت إليها بعض من الأشلاء التي تحدثنا عنها كان منها ما يسمى بـ عطارد والآخر بالمريخ والأهم الكوكب المرعب في حينها.. الأرض. وأقول المرعب عن هذا الكوكب الجميل لأنه كان كتلة من نار وحِمم وصخرة جرداء ضخمة تجري فيها أنهار من حمم حمراء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن سبب انتظام شكل الكواكب رغم أنها أشلاء منفجرة هو أن أيسط شكل يمكن أن تأخذه المادة وأكثره توازنًا وتماسكًا وملئًا للفراغات هو الشكل الكروي فالكوكب يجمع كل الأشلاء والحطام من حوله أثناء التشكل بفعل جاذبيته وتتماسك جميعها في جسم كروي واحد.
وخلال ١٠٠ مليون عام كان النظام الشمسي مكتملًا بالكامل كأي نظام في أي مجرة في الكون، نجم مركزي وكواكب تدور حوله وبدأت الكواكب تستدعي توابعها واستدعت أرضُنا أيضًا القمرَ. ذلك القمر كان له دور في انتظام دوران الأرض وحركتها واستقرارها ومرت ملايين السنوات حتى بردت الأرض الملتهبة (ويُعتقد أن نيزكًا ضربها حاملًا معه الأكسجين فتشكلت الماء) وتشكل غلافها الجوي.
وبشكل ما لا نعرفه حتى الآن وصل أول جزيء حياة إلى أعماق أحد المحيطات إنه ما يدعى بجزيء DNA (أيضًا يعتقد أن النيازك هي من حمل البروتينات الأولية إلى الأرض، لكن بجميع الأحوال فإن طريقة تشكل الDNA و RNA معروفة بل وتم تصنيعهما مخبريًا)
وهنا بدأت حكاية أجمل، تشكلت أول الأحياء (وحيدات خلية) قبل ٣.٥ مليار عام وتشكلت أولى النباتات بعد ذلك بكثير، قبل مليار عام من الآن. ثم توالى على سيادة هذه الأرض عشرات الكائنات كان أعظمها وأشهرها الديناصورات التي وجدت على الأرض قبل ٢٣٠ مليون عام وسادت هذه الأرض ومنعت أي كائنات كبيرة من الاستمرار بسبب قوتها المفرطة وحجمها، حتى جاء ذلك اليوم الذي ضرب فيه أحد النيازك الأرض فقتل معظم ما كان عليها وغيَّر مناخها لمئات السنوات التالية وأدى لانقراض الديناصورات وغيرها، وعرف هذا الحادث بالانقراض الطباشيري والذي حدث قبل ٦٥ مليون سنة من الآن.
بالمناسبة المثير في الموضوع أن النيزك الذي ضرب الأرض كان قد مر بجانبها أثناء تشكلها الأول وكاد أن يصدمها، وبالطبع كان قد علق في شباك جاذبيتها وقتها مما جعله يكمل دورة طويلة حولها أدت به في النهاية للعودة لصدمها بعد ملايين السنين ولو كنت تقف على ذلك النيزك في المرتين فلن تصدق أن هذا الكوكب هو ذاته الكوكب المرعب الذي مررت به في البداية! بكل الأحوال، فقد أدى انقراض الديناصورات الخطيرة لفتح الطريق أمام وجود آمن لكائن جديد أو سيد جديد، وأخيرًا وُجد الضيف الجديد متأخرًا جدًا قبل ٣٠٠ ألف سنة فقط من الآن، إنه أنت.
لم نشهد الانفجار العظيم ولم نشهد تشكل أول العناصر ولا تكوُّن النجوم ولا تشكل كوكبنا ولا وجود الديناصورات جئنا بعد كل هذا. لكن الرائع أننا الكائنات الوحيدة التي بحثت عن ماضيها وموقعها من الزمان والمكان وفكرت بمستقبلها واستطاعت أن تفهم وحدها كل ما أخبرتكم به دون أن تشهده.
إن هذا الإنسان كطفل صغير تركته أمه وحيدًا في مكان ما، وقد تعلم الآن وحده كيف يحبو!