هل الذكاء فطري أم مكتسب؟

الذكاء هو البراعة والمهارة الفكرية للبشر، والتي تتميز بوظائف معرفية معقدة ومستويات عالية من الدوافع والوعي الذاتي.
يمتلك البشر من خلال ذكائهم القدرات المعرفية للتعلم وصياغة المفاهيم والفهم وتطبيق المنطق والتفكير والذاكرة. بما في ذلك القدرة على التعرف على الأنماط وفهم الأفكار والتخطيط وحل المشكلات واتخاذ القرارات والاحتفاظ بالمعلومات، واستخدام اللغة للتواصل.

في الواقع لقد حار العلماء حول منبع هذا الذكاء ففي حين عرفه العالم ستيفن هوكينغ بأنه: “القدرة على التكيف مع التغيير”. فقد عرفه العالم جيلفورد بأنه: “هدية بيولوجية تولد مع الإنسان”.

فمن كان منهما على حق؟ وهل الذكاء فطري أم مكتسب؟

الاختلافات الجينية

يبدو أن الفروق بين الناس في اختبارات الذكاء هي في جوهرها نتيجة للفروقات الجينية التي تنتقل من جيل إلى جيل عن طريق الحمض النووي (DNA) وذلك بملاحظة أننا نشترك جميعًا في 99.5% للثلاثة مليارات من أزواج الحمض النووي التي لدينا ما يعني أن 19 مليون فقط من أزواج الحمض النووي هي التي تميز بيننا جينيًا.

وهو ما يوحي أن الذكاء يكون فطريًا إذ عن طريق هذه الدراسات مثلًا عرفنا أن الأطفال الذين يتم تبنيهم منذ الولادة يكونون فيما بعد مماثلين تقريبًا لآبائهم البيولوجيين، شأنهم شأن الأطفال الذين يربيهم آباؤهم البيولوجيون. وعليه فإن الآباء المتبنين وأبناءهم بالتبني لا يشبهون بعضهم بعضًا في الذكاء.

وقد توصلت دراسات حديثة أُجريت على مئات الآلاف من الأشخاص، إلى التعرف على الجينات المسؤولة عن تفسير حوالي 9% من فروق الذكاء بين الناس.
ثمة نتيجة أخرى مهمة بشكل خاص، هي أن التأثير الجيني على الذكاء الذي تم قياسه، يزداد مع مرور الزمن بحوالي 20% في مرحلة الرضاعة، إلى 40% في مرحلة الطفولة، فــ60% في سن الرشد.
ولعل التفسير الممكن هنا أن الأطفال يبحثون عن تجارب ترتبط وتنمو مع نزعاتهم الجينية.

إعلان

لكن بالمقابل وفي حين يبدو للوهلة الأولى أن قدرات الإنسان العقلية تولد معه، وأن لا علاقة تربط بين الذكاء والعوامل المحيطة بتنشئة الفرد، إلا أن العقل يعمل دائمًا على اكتساب المهارات والمعارف من البيئة، والإنسان يبدأ بالتأثر بمحيطه انطلاقًا من أسرته -وهي الدائرة الأضيق من محيطه- ثم بدوائر أوسع وصولًا إلى المجتمع كاملًا ليكتسب منهم التجارب والخبرات التي تنتهي بزيادة الذكاء عند الإنسان تبعًا للمستوى الاجتماعي الذي يعيش فيه.
وقد وضحت دراسة نشرها الدكتور محمد بشير المنقل في جامعة دمشق أن كلًا من العوامل التالية تؤثر على ذكاء الإنسان:
1. الفروق الاجتماعية والاقتصادية: فالأطفال القادمون من الطبقات العليا ماديًا أكثر ذكاء من أطفال الطبقات الفقيرة أو المعدومة.

2. المستوى التعليمي للأفراد: فإذا قُسِّم الناس وفق مؤهلاتهم العلمية نجد أن الأكثر هم ذوو المؤهلات العلمية العليا وخريجو الجامعة، ثم خريجو المدارس الثانوية، ثم فئة المدارس الإعدادية والابتدائية، ثم الأميون وهناك علاقة بين ذكاء الأطفال والمستوى التعليمي لآبائهم وأمهاتهم، وخاصة أمهاتهم.

3. الغذاء والمرض: إن سوء التغذية في السنوات الأولى له دور خطير في ظهور الأمراض العقلية. وأن 10% من حالات التخلف العقلي ناشئة عن إصابات الولادة. وإن درجات معظم المصابين بأمراض جسمية تكون أقل من غيرهم في اختبارات الذكاء.

4. حجم الأسرة: وهو أحد المؤثرات البيئية التي ترتبط ارتباطًا هامًا بالمستوى العقلي للأبناء حيث تبين أن متوسط ذكاء العائلة يميل إلى الانحدار إذا ارتفع عدد الأطفال ويعود السبب إلى أن الآباء الذين لديهم أطفال أكثر يقضون وقتًا أقل مع كل طفل من أطفالهم على حِدة.
5. الذكاء والمهنة: تختلف مستويات الذكاء باختلاف المهن التي يمارسونها وهذا أمر طبيعي لأن مهنة الفرد تتصل بمستواه التعليمي والذي له علاقة إيجابية بالذكاء، وكذلك هناك علاقة بين ذكاء الأطفال والمستوى المهني للآباء وهذه علاقة إيجابية.

الحياة الاجتماعية

على الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه الجينات في تحديد عوامل الذكاء، يمكن أن يكون للعوامل الاجتماعية والبيئية تأثير مهم أيضًا.
في الواقع، تظهر الأبحاث أنه بالإضافة إلى الجينات والتعليم الرسمي، تلعب البيئات الأسرية المبكرة أيضًا دورًا حاسمًا.

وتشير الأدلة إلى أن ذكاء الطفل لا يتم تطويره بالكامل عند الولادة، ولكنه يتطور تدريجيًا ويتغير، خاصةً خلال سنوات الدراسة الابتدائية الأولى.
وفي الواقع، يؤثر الآباء بشكل أكبر على معدل ذكاء أطفالهم أكثر من أي شخص آخر أو مؤسسة أخرى في حياة الطفل، بما في ذلك المدارس، ويكون هذا التأثير أكبر خلال فترة الرضاعة والطفولة، حتى سن الثامنة أو التاسعة، وبعد ذلك يقل تأثير الأبوين.

الأشياء التي يمكن للوالدين القيام بها لتحسين معدل ذكاء أطفالهم تشمل الحفاظ على التعليم، والتغذية الجيدة والرعاية السابقة للولادة، وقضاء الكثير من الوقت مع الطفل قدر المستطاع، والتفاعل وتحفيز العقل من خلال القراءة والأشكال والأرقام والألوان وغيرها وتعريض الطفل للتجارب خارج المنزل.

على سبيل المثال، تشير إحدى الدراسات إلى أن التدريب الموسيقي يمكن أن يؤدي إلى تطوير وظائف دماغية أعلى، وعلى وجه الخصوص، قدرة رياضية أفضل. ومن المعتقد أن الموسيقى تعزز قدرة الدماغ على تصور وتحويل الأشياء في الفضاء والوقت، بالإضافة إلى “التوصيلات الصلبة” من أجل التفكير الزماني المكاني.

وأظهرت دراسة أخرى أن الأطفال الذين نشؤوا في بيئة محفّزة (بدءًا من فترة الجنين في الرحم) كانوا أكثر ديناميكيةً وتنبيهًا وفضولًا، مع تنسيق جيد بين اليد والعين ومهارات اجتماعية عالية.

كما استنتجت دراسة أجراها عالم النفس روبرت ستيرنبرغ أن المهارات والمعرفة التي لديك هي نتيجة لعائلتك. ومع ذلك، فهي ليست علاقة جينية، بل هي علاقة تعليمية.
حيث يرث الأطفال الذكاء العملي وهي المعرفة التي تأتي من الطريقة التي يتواصل بها والديك معك. وفقاً للدراسة، تقضي عائلات الطبقة المتوسطة وقتًا أطول مع أطفالها أكثر من أسر الطبقة الدنيا.
خلال تلك الفترة، يقومون بتعليم أطفالهم كيفية التحدث والتفاعل مع الآخرين، وكيفية معاملتهم وكيفية حل المشاكل الاجتماعية.

بالمقابل أجرى الباحثون العديد من الدراسات للبحث عن الجينات التي تؤثر على الذكاء. وقد ركزت العديد من هذه الدراسات على أوجه التشابه والاختلاف في معدل الذكاء داخل الأسرة، ولا سيما بالنظر إلى الأطفال المتبنين وتوأمهم.

وقد درست دراسات أخرى الاختلافات في جميع الجينوم لكثير من الناس أو GWAS وهو نهج يسعى لدراسة الجينوم على نطاق واسع لتحديد ما إذا كانت مناطق محددة من الجينوم مرتبطة مع معدل الذكاء. لم تحدد هذه الدراسات بشكل قاطع أي جينات تكمن وراء الاختلافات في الذكاء، ومن المحتمل أن يكون عدد كبير من الجينات مرتبطًا، وكل منها لا يسهم إلا بقدر ضئيل في ذكاء الشخص.
وفي دراسة حول توائم لهم نفس الأبوين ونفس الجينات ولكن معدل ذكائهم يختلف عند فصلهم وبالتالي باختلاف العوامل البيئية المحيطة بهم، حيث إن وضع توأم من التوائم بإفريقيا والآخر بأوروبا، نجد أن الأوروبي يتقدم على الإفريقي، على الرغم من أن لديهم نفس الجينات لكن اختلاف العوامل المحيطة هي التي ساهمت في تكوين ذكاء الطفل وقدراته فأصبح من السهل عليه أن يسخر المهارة المناسبة في المكان المناسب.

الخلاصة

نلاحظ من خلال ما سبق أن الاختلاف حول مصدر الذكاء نابعٌ من الاختلاف حول التعريف الدقيق للذكاء وفروع الذكاء الواسعة جدًا، لذا يستحيل أن نجزم ما إذا كان الذكاء (طبيعيًا أم صناعيًا)، لكن يبدو أنه كلا الأمرين معًا فالعوامل الطبيعية الوراثية تساعد بلا شك في تحديد سرعة ونسبة نمو الذكاء لدى الفرد منذ الطفولة المبكرة. والعوامل البيئية أيضًا تساعد في تنمية وتحفيز هذا الذكاء سواء أكان موجودًا أم لا. وفي قصص النوابغ العظام الكثير من الأمثلة على الحالتين.

مصادر : 1 2 3 4 5 6 7 8  9

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بشار منصور

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا