مزمار عبد السلام والسيمفونية التاسعة لبيتهوڨن!

ذاع في المجتمع المصري منذ فترة لحنٌ شائهٌ بسيط، يُدعى (مزمار عبد السلام)؛ لا يكاد يمر بك تكتك أو ميكروباص، حتى تصفع أذنيك أنغامُ ذلكَ اللحنِ الصَّاخبةُ الصادرةُ منه، والمرجرجةُ لرغبةٍ بُدائيةٍ في التمايل العشوائي، والعاصفةُ بكلِّ ما اجترحَتْه الحضارة في سبيل ارتقاء الفن. والعجيب أن هذا اللحن لاقى لدى مشاعر كثيرٍ من الناس ترحيبًا، ووافق ميولَهم، حتى صار عنصرًا أساسيًّا في كل حفل زفاف من تلك الحفلات التي يصرُّ الناسُ (الذين لم يعربوا قطُّ بالرقصِ عن سعادتِهم) على أنْ يرقصوا فيها بجنون!

وإذا اعتبرنا هذا اللونَ من التأليف الموسيقي السَّطحي، هو المحطَّة الأخيرة التي استقرَّ عندها تطورُ فنِّ الموسيقى في مصر، فلا بد لنا من أنْ نذكُر السؤال الذي يطلقه البعض- مصحوبًا عادةً بتنهُّدةٍ مفعمةٍ بالحسرة- ولا يخرج غالبًا عن هذه الصِّياغة: راح فين زمن الفن الجميل؟
وهذا السؤال يستدعي أن نعقِّب عليه بسؤالٍ آخرَ هو: وهل هناك فنٌّ غيرُ جميل؟ إمَّا أن يكون فنًّا وإمَّا ألا يكون! وهو تعقيبٌ لا بدَّ منه، ويقتضي أنْ نتساءلَ عن الغرض الأساسي من الفن، وفق تعاملنا معه في العصر الحديث.

معنى الفن

دون خوضٍ في القضايا اللغوية المتعلِّقة بهذه الكلمة، سوف أستخدم كلمة الفن، بحيث تقتصر دلالتها على (الفن الجميل)، ولن أتطرَّق لما تحتمله دلالتها من (فنون نافعة) كالنجارة والبناء والزراعة إلى آخرها. الفن هو نشاطٌ يسلكه الإنسان بغرض إمتاع غيره، وجدانيًّا وعقليًّا. وبهذا يمكننا أنْ نُخرج من دائرة الفن (بمفهومه الحديث) الرسومَ البدائيةَ التي اكتُشفت على جدران كهف (لاسكو Lascaux)، والتي رُجِّح أنها كانت لغرض ديني بحت، يُقصد به التغلب على الصراعات القديمة بين البشر وشركائهم في الحياة من حيواناتٍ لا بد لهم من اصطيادها ليتغذوا؛ وغير تلك من رسومٍ أراد بها قدامى البشر أن يُثبتوا قدرتهم على التغلُّب على الحيوانات بطعن مواضع الرسوم من الجدران، كحيلةٍ نفسيةٍ للتغلبِ على المخاوف الطبيعية؛ وكذلك الفن المصري القديم، الذي لم يكن يُقصد بإتقانه وشموخه أن يُمتِّع الناس، بل أن يلقي في أنفسهم المهابة والخشوع لدى زيارتهم للأماكن المقدَّسة من معابد ومقابر، لكي يزدادوا طاعةً لآلهتهم، بَلْهَ التمتع بجودة الرسوم، وتناسق الألوان.

وأضف إلى هذه الأمثلة الإيقاعات القديمة الصاخبة التي جايلت البشر دهورًا، ولم تزل إلى اليوم تصاحب احتفالات القبائل الأفريقية، ولا غرض لها إلا طمأنة المستمعين إليها، بأن تملأ آذانَهم أصواتٌ أعلى من أصواتِ مخاوفهم، فتخدِّر عواطفهم القلقة، وتعينهم على الرَّقص الذي يفرغ أجسادهم من كلِّ شعورٍ بالضَّيْق والاضطراب.

إعلان

هذه الممارسات القديمة نستطيع أن نخرجها من دائرة الفن بمفهومه الحديث. ولا أجد أبلغ ممَّا ساقه الكاتب والمخرج الأمريكي پول أوستر للدلالة على هذه الرؤية الحديثة للفن.

يقول أوستر:

باختصار، لا جدوى من الفن، على الأقل مقارنةً بعمل السباك والطبيب ومهندس السكك الحديدية. لكن هل عدم الجدوى هذا أمرٌ سيئ؟ الكتب واللوحات الفنية والفرق الموسيقية التي تخلو من الفائدة العملية، هل هي ببساطة إهدارٌ لأوقاتنا؟ كثيرون يعتقدون ذلك، لكنني أظن أن اللاجدوى هذه هي بالتحديد ما يمنح الفن قيمته، وأن ممارسة الفن هي الشيء الوحيد الذي يميزنا عن بقية المخلوقات التي سكنت هذا الكوكب. هذا بالضبط هو ما يمنحُنا هويتنا كبشر؛ أن تفعل شيئًا ما لأجل الجمال والمتعة الخالصة التي يمنحك إياها فقط. فكِّر في الجهد الذي ينطوي على هذا الفعل، في الساعات الطوال التي تقضيها في التدريب والتنظيم من أجل أن تصبح عازف بيانو محترفًا أو راقصًا مميزًا، كل المعاناة التي تمر بها والعمل المجهد الذي تقوم به والتضحيات التي تقدمها فقط لكي تنجز شيئًا بأكمل صورة وأروع نتيجة، لا جدوى منه.

الفن كمحاكاة!

فهمنا من كل ما سبق أن الفنَّ والإمتاع أمران متلازمان. إذًا لماذا ننظر بإجلال للسيمفونية التاسعة لبيتهوڨن، ولا نقيم وزنًا لـ”مزمار عبد السلام“؟!

إن الموسيقى- خصوصًا- بدأتْ بغرض ديني واحتفالي، حين اتخذت من عنصرها الوحيد آنذاك (الإيقاع) وسيلةً للسيطرة على الانفعالات البشرية. ثم تعقَّدَت الآلات، وبدأ عنصر (اللحن) في الظهور، ثم القوالب الموسيقية، وأخيرًا الهارموني. وإذا كان الإيقاعُ في حقيقتِهِ محاكاةً (تشعَّبت أنماطُها فيما بعد) لأولِ إيقاعٍ ألِفَه الإنسانُ في حياته (وهو إيقاع نبض الأم الذي يستشعرُه الجنينُ داخلَ الرحم، والوليدُ وقتَ الرَّضَاعة)، فإن الموسيقى بكل عناصرها لازمتها هذه الخصيصة (أعني المحاكاة) لوقتٍ طويلٍ جدًّا، ولم تزل إلى اليوم تلازمها بطريقةٍ أو بأخرى.

وأدلُّ شيءٍ على هذا، ما تفعله آلة الناي، في التقسيمة المشهورة على مقام الصبا التي تنتهي بتريلّ (زغردة أو رعشة صوتية) بين نغمتي الفا دييز والسي بيمول، يشبه صوت التهانف، أو العويل، ويجعل خاتمة التقسيمة مبكيةً. والموسيقى الشرقية خصوصًا يظهر فيها بوضوحٍ تام عنصر المحاكاة لاعتمادِها على الإيقاع الخارجي الصاخب، بتعدُّدِ أشكاله، وارتباط الرَّقص بها منذ نشأتها (وفق رأي الدكتور فؤاد زكريا).
فإذا كانت الموسيقى محاكاة، والفن التشكيلي محاكاة، والعمارة والأدب وغير هؤلاء من الفنون الجميلة كذلك، فما الذي يجعلنا نقدِّم عملًا فنيًّا على آخر؟

كلَّما زادت المسافةُ التي يقطعها الفن بين الشيء الذي يحاكيه والمنتج النهائي الذي يقدِّمه، كانت قيمته أعظم (ولعلَّ القارئ يلاحظ أنَّ هذه المسافة اتسعت جدًّا في العصر الحديث حتى تحوَّل الفن التشكيلي إلى مجرد عَلاقات بين الخطوط والألوان والمساحات، وأصبحت المهمة الكبرى للأدب هي الكشف عن العالم الداخلي للإنسان، لا الرصد الفوتوغرافي للواقع).
لنُسَمِّ هذه المسافةَ بالانزياح، ولنُسَمِّ الجُمَلَ الموسيقيةَ التي انتقل بها الموسيقيُّ من الشيءِ المُحَاكَى إلى البنيانِ الفني النهائي، بالمجازات الموسيقية.

إذًا، لو استطاع المتلقِّي عبورَ الانزياح في الموسيقى، بإعمال عقله ووجدانه في المجازات الموسيقية بطريقةٍ تجلو إبداعَه في التلقي، عبر عملياتٍ عقليةٍ معقدةٍ، كان الفنُّ أرقى. ولكي نفهم هذا الانزياح، يجب أن نتأمَّل الآلات الوترية التي عُزِفت بها السيمفونية التاسعة لبيتهوڨن في عصره. إذا نظر أيُّ إنسانٍ ساذج إلى انسيابِ القوس على الأوتار، فسيقول إن الصوت الناتج هو نتيجة احتكاك شعرات ذيل حصان بأمعاء قطٍّ مشدودة! لكنَّ المتلقي الحصيف حين يُصغي إلى الأنغام، ستتجلَّى له الرُّوح الألمانيةُ، والمُناخ الألمانيُّ، والمعاني الخفية، والإيحاءات التي تنطوي عليها السيمفونية التاسعة.

بيتهوفن أَمْ مزمار عبد السلام؟!

مزمار عبد السلام يحاكي سلوك التكاتك في الزحام؛ الأنغام كأصوات الكلاكسات! والإيقاعات الإلكترونية الصَّاخبة تشبه ما تُحدثه حُفَر ومطبات الشوارع المصرية في عجلات التكاتك، وتكرار الجمل الموسيقية السَّطحية، يعطي انطباعًا بالقلق والخوف من انقلاب التكتك نتيجة عشوائية (الطفل/السائق) في القيادة. وهو لحنٌ بدائيٌّ، لا يحتاج من المتلقي تطوير أي ثقافة لكي يفقه الانزياح الذي حدث، والذي لا يتجاوز بأية حال بضعةَ ملليمتراتٍ، إن جاز التعبير!

سيمفونية بيتهوفن التاسعة لا تثير أيَّ حس جمالي لدى محبي مزمار عبد السلام، ومزمار عبد السلام محض موسيقى بدائية تصلح تمامًا للرقص على أنغامها حول النار، ولا يجدها محبو الرقيِّ فنًّا على الإطلاق. إذًا مَن يحدِّد إن كان شيءٌ ما فنًّا أم لا؟ وهل اجتماع العامَّة بحسِّهم الجمالي غير الناضج على شيء، يسلبه صفة الفن؟ فما رأيك إذًا في العامَّة الذين اجتمعوا قديمًا على أنغام السنباطي وعبد الوهاب؟
في عصرنا الحديث، عَدِمنا الموسيقيين الذين يُرقُّون ذوقَ المتلقي، وأدَّى توالي النماذج الموسيقية القبيحة إلى تشويه ذائقة الجمهور، حتى صار المعتاد عندهم هو القبح الخالص. فسدت أذواقهم، فلم يعد يعجبهم إلا الغث! في الماضي، استطاع عمالقة التأليف الموسيقي تحقيق انزياح إبداعي عظيم في مؤلفاتهم، واستطاعوا أن يسلبوا بها قلوب الجمهور. أما اليوم، فقد ابتُيلنا برِدَّةٍ حضاريةٍ، أطاحتْ بكلِّ منجزات القدماء في سبيل الفن، وصرنا مجرد متوحِّشين نرقص حول النار، على أنغام مزمار عبد السلام!

نرشح لك: هل الموسيقى طبقية؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أحمد فؤاد

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا