من يحدد هويتنا حقًّا.. نحن أم عوامل أخرى؟
عن ميلان كونديرا الكاتب المتقلب
ميلان كونديرا من أشهر الكُتّاب العالميين والتي تعد كتابتهم مثيرة للجدل بين القراء لكثرة تأويلتها وتحليلاتها، لا يعتقد البعض أنَّ معرفه خلفية الكاتب مفيدة أو تضيف كثيرًا إلا في بعض الحالات مثل أن يكون العمل سيرة ذاتية أو مبنيًا على أحداث حقيقية ولكن رواية الهوية بالتحديد وجدت بينها وبين كاتبها بعض الخيوط المشتركة سوف أذكرها لاحقًا.
ميلان كونديرا هو كاتب فرنسي من أصل تشيكي، ولد في التشيك لأبويين من هذه البلد وقد كان والده رئيس جامعة “جانكيك” للآداب والموسيقى وقد تعلَّم من والده الكثير فتخرج وعمل كأستاذ محاضر في أكادمية براغ وفي أثناء فترة دراسته، نشر شعرًا ومقالاتٍ ومسرحيات، والتحق بقسم التحرير في عدد من المجلات الأدبية.
التحق ميلان كونديرا بالحزب الشيوعي مرتين على مدار حياته ولكنه فُصِل فى المرتين، والجدير بالذكر أن ميلان كونديرا لم يبقَ تشيكيًا للنهاية فبعد الغزو السوفييتى لتشيكوسلوفاكيا هاجر إلى فرنسا وبعد سنوات أسقِطت عنه الجنسية بسبب أحد كتبه وهكذا تقدَّم للجنسية الفرنسية ونالها وانطلق في الكتابة بلغة هذه البلدة أيضًا.
هل رواية الهوية تروي قصة حب أخرى؟
تدور رواية الهوية كلها حول بطلين واقعين في الحب فقط “شانتال وجان مارك” حتى لا نكاد نرى شخصيات أخرى غيرهما، لكن هل يكتب ميلان كونديرا المعروف بحبكات رواياته الفلسفية قصة حب عادية يواجهها بعض الصعاب أم أنَّ هذه الصعاب كبيرة؟
تبدأ القصة تحديدًا عند جملة (لم يعد الرجال يلتفتون إلي)، بدون أن نعلم أيّ شيء عن خلفيات الأبطال غير أنَّهم واقعون في حب بعضهم البعض.
الجزء الأول من الرواية يركز على شخصية شانتال التي تأتي مشكلتها في عدم نظر الناس إليها مع تجاهل تام للحبيب الأصلي الموجود بالفعل (جان مارك) قبل أن تنتقل الرواية سريعًا لمشكلة الهوية وظهور جاسوس لشانتال فتنقلب حياتها وتتركز على التفكير ومعرفة (هوية) الجاسوس العاشق، وهنا تبدأ الفلسفة في الظهور بشكل جلّّي.
هل تتحدَّد الشخصية تبعًا للآخرين؟
في أثناء بحث البطلة عن هوية الرجل الخفي تعتريها مشاعر من الفرحة قد نتفاجئ بها في البداية فهل تحب المرأة أن تراقَب أو هل تحب النظرات الفضولية المقتحمة، في الحقيقة يقدِّم لنا الكاتب بعدها عدة تفسيرات لحالة شانتال، أولًا تفسير جان مارك حين قال: “تقيس المرأة مدى شيخوختها بحسب اهتمام الرجال بجسدها أو عدمه.“
للحظة خفض هذا التفسير من غضبه باعتباره أداة قياس وليس بحثًا عن عشيق أو اهتمام، أما على مدار الرواية سوف نكتشف أنَّ هوية الرجال مؤثِّرة بشكل قوي وليس فقط وجودهم من عدمه بل وأحيانًا مدمِّرة.
تتعرَّض شانتال لهويتنا في البداية الرجل الغني المتأنق الجالس في النافذة يراقبها، وكم تحمَّست لكون مراقبها رجلًا مرموقًا ذا ذوق رفيع وتحسنت حالتها النفسية تبعًا لهذا التحليل، رغم أنَّها لم تحب هذا الرجل ولم تسعَ لأن تكون عشيقته لكن معرفتها باهتمامه جعلتها أكثر ثقة في نفسها وقامت بتحسين علاقتها مع شريكها، أما عندما بدأت في التفكير أنَّ هوية هذا الرجل المجهول هو شحاذ فقير جعلتها تشعر بالانهزامية، لقد صارت شفافة لدرجة أنَّه لا يلاحظها سوى رجل مشرَّد ربما هو غير متزن نفسيًا أيضًا فلا قيمة لإعجابه علي أي حال، هنا ندرك أننا لم نكن نبحث عن هوية العاشق المتخفي بل عن هوية شانتال التي لا تستطيع هي تحديدها بل تتقلَّب في هويتها بناءً على نظرات المحيطين بها ورغباتهم وترتيبها لديهم رغم أنها طوال الرواية تحاول العكس، تحاول ألَّا تكون تحت غطاء من الأحكام فترفض حياتها المستقرة بحثًا عن حياة أكثر استقرارًا حيث لا يملي أحد عليها هويتها أو ما يتوجب عليها فعله.
لكن لم تنهِ حكاية الهويات بعد
بعد أن تقرأ عن محنة شانتال وحيرتها وتظن أننا حللنا شيفرة العنوان فأنت مخطئ عزيزي القارئ لن يتركنا كونديرا بهذه السهولة قبل أن يظهر لنا الجاسوس الحقيقي لتبدأ معضلة جديدة، جان مارك هو المرسل الحقيقى لهذه الرسائل وبينما كنا نقرأ الرواية حتى منتصفها من وجهة نظر شانتال وتفكيرها نكتشف أننا أوقعنا الطرف الآخر من العلاقة.. أليس من حقه أن يعرف بهذه الرسائل والهواجس أم أنها شخصية؟
اكتشاف لعبة جان مارك يشكل بعض المشاكل الأخرى حيث ينتقل العاشقان إلى مرحلة الشك في الطرف الآخر ثم بالضروري إلى نفسيهما ويتساءلان هل يؤثر كلٌّ منهما على الآخر ويجعله يغير من تفكيره بل وأفعاله!
الخاتمة موال آخر
تكمن عبقرية رواية الهوية في النهاية تحديدًا قبل صفحتين أو ثلاث، حين نكتشف أنَّ واحدة من لحظات الرواية تحولت إلى حلم ولكنَّنا لا ندرك، فتحولت المشكلة من الأبطال إلى القراء حيث مشكلة اعتبار الأحداث حقيقية من عدمها وهل تأثيرها يظل كما هو أم أنٌَ أفكارنا عنه تتغيَّر أيضًا، ماذا غذا كان بداية الحلم هو جُمل شانتال الغريبة هل كنا لنحاسبها كما حاسبناها أو عند ظهور الجاسوس هل نعتبر الرجلين حينها مؤثِّرين أم أنَّ ذلك بعض خيالات أم عند اكتشاف أنَّ الكاتب هو جان مارك!
تلاعب ميلان كونديرا بعقلنا على مدار رواية الهوية ولم يكفه ذلك، فتركها لنا مفتوحة تسمح باحتمالات لا نهائية.