الجنون الهوياتي قراءة في هشاشة الهوية

يطرَح بول ريكور في كتابِه “الذّاكِرة، التاريخ، النِّسيان” السؤال التالي “ماذا يعني أن يبقى المرء هو عينه؟” أو بعبارةٍ أخرى هل يمكن الاستمرار في أن نكون الشيء نفسه طوال الوقت؟
السؤال كما هو واضح، يتعلق بإشكالية الهُويّة، ولكنّ ريكور لا يحدّثنا هنا عن الهُويّة المنطقية وفقًا لمبدأ التساوي لأرسطو (أ=أ)، بل يتساءَل عن مفهوم “هشاشة الهُوية”.

حيثُ يعيش العالم اليوم ضربًا من الهشاشةِ والتهافت، هذه الهشاشة تفكك العلاقات داخل المجموعة وتجعلنا نتساءل من جديد عن “النحن”و”الأنا” و”الهم” كما يقول ريكور السؤال الرئيسيّ عن “من أنا” أو “ماذا أنا” وتكون الإجابات بالصيغة التالية: هذا ما نحن، نحنُ المختلفون عن الآخرين”هكذا”، هذا ما نحن عليه وليس غير ذلك.

كلّها إجاباتٌ تُشعِرنا بالتهديد والضَّعف والتقهقُر لأنها صِيَغٌ جاهزة بديهية لتسكتنا كلما تساءَلنا حول “ما يحدث لنا” و”ما يحدث في العالم” وكيف انتهت الذّات اليوم إلى إقامة حفلات تأبينية علانية.

كلّ يوم نستيقظ على فاجعةٍ جديدة من قتلٍ، وانتحار، واغتصاب، وأحداث عنفٍ وتفجير للذات البشرية، وتقطيعٍ وحرقٍ وهروبٍ وانزواءٍ واكتئاب، كلها أشكالٌ تعبّر عن هذا الجنون المتعلق بالهُوية والتي لا يمكن أن نجد طريقةً لوصفِه إلا بكونِنا شهودَ عيان، أو مؤوّلين للأحداث من خلال فحصها وتحليلها.

فماذا تعني هشاشةُ الهُوية؟ وما هي تأثيراتها على سياسةِ قيادة الشعوب؟ وهل من الممكن الخروج من هذه الأزمة؟

إن مشكلةَ هذه الهشاشة حسب ريكور هو ما يطلق عليه اسم “إرث العنف المؤسس”، هذا الإرث يتعلقُ بسياسة سوءِ استعمال الذّاكرةِ الجماعية لشعبٍ ما، فكلّ مجموعة أو جماعة تُولد من خلال حالة الحرب، وهذه الأعمال العنيفة تكتَسب شرعيّتها عن طريق دولة القانون، لكنّ ما يحدث هو أنّه دائمًا ما يوجد طرفان في هذه الحرب، الطرف الرابح والطرف الخاسر. وبالطبع تختلف الذكريات لكلا الطرفين يقول ريكور: “الأحداث تعني للبعض المجد، في حينِ أنّها تعني للبعض الآخر المذلة. الاحتفالُ من جهةٍ تقابلُه الكراهيةُ من الجهةِ الأخرى، وهكذا تُخزّن في أرشيف الذاكرة الجماعية جروحًا حقيقيةً ورمزيّة”.

إعلان

من خلال هذا العامل التاريخيّ؛ تنشأ هشاشة الذاكرة؛ فالغير هو دائمًا ما يُشعِرُنا بالتهديد وهو الخطر المُحدِق بهُويّتنا الخاصة وحيّزنا الشخصيّ.

ربما يكون زمنُ الحروبِ الهمجيّة والغارات البربرية قد انتهى، ولكننا دائمًا ما نجد وسائلنا الخاصة للاستمرار في الحرب.

الفرد اليوم صار هذا الكائن “الشخصيّ جدًا” والمنكمشُ على ذاتِه؛ الذي يعاني حالةً من السُّمك والقاتمة الخشبيّة التي لا تسمح بالرؤية أو حتى بمرور الضوء.

نحن اليوم أصبحنا كائناتٍ تعاني من عدم الشفافية؛ لذلك نجد ريكور يتساءَل على النّحو التالي “هل يجب إذن أن تكون هُويتنا هشّة مختلفة عن طرقنا لعيش حياتهم وللتفاهم في ما بينهم وتسجيل هُويتهم الخاصة في مسار العيش معًا؟”

هل يعني هذا أنَّ علينا أن نكونَ نسخًا مطابقةً للأصل حتى نتمكّن من العيش معًا؟ ولكنّ من هو الأصل؟ أو إذا أردنا التحدّث بلغة أفلاطون، من هي الأيقونة ومن هي الأيدولون؟ من الأصل ومن النسخة؟

إنَّ كلَّ ما تريده كلّ سلطةٍ هو أن تجعلنا نسخًا شبيهةً ببَعضِها البعض، فكلّما قلّ الاختلاف ازدادت حظوظُ السلطةِ في بسطِ سيطرتِها على الجماعة، وهذا ما يسعى لتكريسِه النّظام الواحد؛ كائنات منغلقة “شخصيّة جدًا”.

كيف تساهِم السلطة في هشاشة الهُوية؟

قد نعثر على الإجابة في عنوان لرواية شهيرة “ليفغيني زامياتين” تُرجمت مؤخرًا للعربية تحت عنوان “نحن“، هذه الرواية المصنّفة من أدبِ “الديستوبيا” التي تصوّر لنا حالة المجتمع الواحد حيثُ يغيب الاختلاف ويحضُر التناغم والعمل، يتحوّل الأفراد إلى أرقامٍ لها وظائف كلها لخدمة الدولة الموحدة أو لخدمة “حامي الحمى” الذي يعبر عن أقصى درجات الكمال، كمالٌ خالٍ من المشاعر لا يستحقُّ لدينٍ أو لشعرٍ أو لفلسفة إلّا عرضًا، كمالٌ يوجّه تهمةَ الهمجية والبربرية إلى كل من تخوِّل له نفسه الحديثَ عن “حالة الحرية”.

ما يهمّنا طبعًا من هذه التجربة الأدبية هو هشاشة مفهوم الفرد وغيابه داخل هذا الكلّ الواحد المتجانس المتناغم،

الفرد أصبح يعاني ضربًا من “النِّسيان” أو التغافل لكينونته الأولى ولحالته الطبيعية. لقد صرنا اليوم بمثابة كائنات أكثر ما تجيده هو المحاكاة، التقليد، التمثيل، والتنكّر، كلّها معاجمٌ خاصةٌ بعالم المسرح، ولكنها لا توظّف في الأداء الركحي بل في بناء شخصية القرن الواحد والعشرين، وفي تكوين هوية هجينة مركبة ومبعثرة في بعض الأحيان، هُوية كل ما يمكن القول عنها هي أنها “إمكانية مفتوحة” و”قراءة لا منتهية” بل إنَّ المريب في الأمر؛ هو أنه يمكن للنسيان أن يمارس سطوته على “الأنا” فلا نتذكر “ما هي” أو “ماذا هي” أو كيف هي” ، يقول ريكور أن هذه المقاربة هي مقاربة فينوميولوجية وللإجابة عن سؤال الذاكرة وجب المرور من السؤال “ماذا” (ماذا نتذكر؟) إلى السؤال “من” (من الذي يتذكر؟ هل أنا نفسي من تتذكر؟) ولكن لا يتم هذا المرور إلا عبر السؤال كيف.

السؤال المطروح هو كيف لنا أن نعرف من نحن؟ بمعنى أدق كيف يمكن التعرف على “أنا” داخل “النحن” المسيطرة؟

يمكن الإشارة إلى “النحن” بوصفها “الذاكرة الجماعية لشعب” لكن هل هذه “النحن” هي تجميع لكل الذوات بالتالي فإنّها كما يُصرِّح روسو” تنازل عن الإرادة بكلِّ حرية وعن اختيار واعٍ من أجل المصالحة الجماعية والحفاظ على “الأنا”؟ أم أنها انصهارٌ وذوبانٌ لذواتٍ على حساب ذواتٍ أخرى؟”

إن فكرة الأيديولوجيا تكون حاضرةً كلما أقمنا حوارًا حول هذه الهُوّة بين “الأنا” و”النحن” بين “النحن” و”الهم” فكما يصرح ريكور أن وظيفة الأيديولوجيا هي “ملء حفرةِ التصديق التي تحفرها السلطة.”

فماذا نعني بالأيديولوجيا وكيف تساهم في بناء هوية الفرد المعاصر؟

يشير ريكور إلى أن الأيديولوجيا تبقى دائمًا غير شفافة وغامضة؛ وذلك يعود إلى أنه غير معترفٍ بها، وتبقى مخفيّة كلما حدث تنافسٌ وصراعٌ بين الأيديولوجيات، فكما يصرّح ريكور “فإنَّ الآخر هو دومًا الذي يتعفن في الأيديولوجيا”،وبالطبع يتجلى لنا بوضوح هذا الانغلاق والخفاء في لفظةِ “يتعفن”.

كلّ أيديولوجيا تصنع دائرةً تُضيِّق الخناق على الأنا كلما حدث صراعٌ بين أيديلوجيتين مختلفتين.

لو عدنا إلى البُعد الأيتنولوجي لوجدنا أنَّ “أيديولوجيا” تُشتق في اللغة اليونانية من “ايديا” (الفكرة)، فيمكن أن تعرَّف على أنّها “علم الأفكار” أو “علم الخطاب”، ولو عدنا إلى القاموس السيكولوجي فإنّ أيديولوجيا تأخذ معنى “النّسق الكليّ للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة، وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعيّ وتعمل على توجيهه، وللنسق القدرة على تبرير السلوك الشخصي، وإضفاء المشروعيّة على النظام القائم والدفاع عنه”.

يصنِّف ريكور الأيديولوجيا إلى ثلاث مستويات بحسب تأثيرها على “فهم العالم الإنسانيّ للعمل” وهي “تحريف الواقع” و”شرعية نظام السلطة” و”الاندماج في العالم المشترك عن طريق الأنساق الرمزية المحايثة للفعل”.

إن الأيدولوجيا كما يصفها ريكور هي الحارسة للهوية لأنّها “تقدم لنا رداً رمزيًا على أسباب هشاشة هذه الهوية.”

إنّ الأمر الخطير هو أن تصبح الأيديولوجيا في خدمة السياسة بل أن تتحول إلى أداة لتبرير نسق النظام القائم وتضفي عليه “الشرعية”، طبعًا إنَّ كل محاولة لشرعنة نظامٍ ما له تبِعاته على “الفرد” وعلى “الكل” وعلى “الأنا” و”النحن” لأن الوظيفة الرئيسية للسلطة هي تسيير العلاقة بين أفراد المجتمع وفي آنٍ نفسه؛ الحفاظ على المسافة بين “الحاكمين والمحكومين”، إن الذي يزعج في الأمر هو أن يخوض الأفراد صراعاتٍ ليست صراعاتهم، ويدخلون في حروبٍ ليست حروبهم بل إنَّ الأخطر هو أن يتغافلوا عن مشاكلهم الأساسية ويتحولوا إلى “حيوان سياسيّ مدجّن” كلّ ما يُهِمّه هو “الاعتقاد بشرعية السلطة”.

يغيبُ الفرد داخلَ الجماعة ويتحول الشعبُ إلى حشودٍ تقسمها أجهزة السلطة كما تشاء لنتحوّل بذلك إلى “مجرد أرقامٍ انتخابية في صندوق اقتراع” تخدم شرعية اليمين أو اليسار، ومن هنا تمارسانِ الهشاشة والتهافت سطوتهما على مفهوم الهُوية وتحولها من “ذاتٍ مفكّرة لها القدرة على الاختيار والمسؤولية تحركها إرادتها الحرّة إلى كائنٍ مؤرشف، وحيوان إداري” كلُّ ما يعرفه هو رقمٌ تسلسليّ طُبع على بطاقة للهوية؛ فلا تتجاوز هويتنا داخل هذا النظام ما طبُع على بطاقة هويتنا.

إنّ الفحص والتشخيص جزء هام لمعرفة الداء ولكنه يبقى غيرَ كافٍ لمعالجة هذا المشكلة، فكيف السبيل للخروج من هذه الأزمة؟

ربما يكون الحال في وصفةٍ اقترحها ريكور وأسماها بـ”الإنسان المقتدر” هذا المشروع الذي نجده حاضرًا في جميع كتاباته من “الوجود والزمان والسرد”، إلى الذات “عينها كالآخر”، إلى كتابه الضخم “الذاكرة، التاريخ، النسيان”.

على غرار الكوجيتو الديكارتي، صاغ لنا ريكور مفهوم “الإنسان المقتدر” بصياغة طريفة “أنا أقدر إذن أنا موجود” فوجودي وكينونتي وهويتي يتعلقون بمقدرتي على الفعل لا على الانفعال “أنا أقدر” يعني أني أستطيع الحركة، أنا قادر على التغيير.

أن أكون قادرًا؛ ذلك معناهُ أن لا أكون عاجزًا على تحقيق كينونتي الخاصة بي، إن أكثر ما يخشاه الإنسان هو عدم المقدرة “عدم المقدرة على التفكير السليم”، “عدم المقدرة على النسيان”، و”عدم المقدرة على معرفة المجهول” .

إن الخوف من هذا العدم، وهذا العجز عن تصور أنموذج بديل؛ هو ما يعيقنا ويكبل أيادينا عن الإيتاء بفعل، وهو ما يشعرنا بالضعف والعجز أمام الآخر.

أن تكون إنسانًا مقتدرًا؛ هو قدرٌ محتّم؛ لأننا محكومين بهاجس الإرادة الحرة، فكما يقول سارتر “قُدِّر على الإنسانِ أن يكون حرًا”. وقُدِّر عليه أيضًا أن يختار من يكون وكيف يكون.

الهوامش: 
1 بول ريكور,الذاكرة,التاريخ,النسيان(ترجمة جورج زيناتي,دار الكتاب الجديد المتحدة , 2009),ص137. 
2 م.ن,ص137. 
3 م.ن,ص138. 
4 يفغيني زامياتين,نحن,(ترجمة دلال نصري,EditionsPoP Libris ,2019),ص11. 
5 جون جاك روسو,العقد الاجتماعي,(ترجمة عادل زعيتر),ص137. 
6 جون جاك روسو,مقالات,في الاقتصاد السياسي,(ترجمة جلال الدين سعيد-محمد محجوب,المركز الوطني للترجمة تونس),ص51. 
7 بول ريكور,الذاكرة ,التاريخ,النسيان,(ترجمة جورج زيناتي),ص139. 
8 Gaélle Fiasse ;Paul Ricour De L’homme faillible à l’homme capable .
 9 Paul RIcoeur , Réflexion faite Autobiographie intellectuelle ;(éditions esprit ) ;p101.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بشير الذكواني

تدقيق لغوي: ضحى ابراهيم

اترك تعليقا