ما لا تعرفه عن الفايكينج.. البحث عن أمريكا

من المتعارف عليه أنّه في عام 1492م خرجَ المستكشفُ الإيطاليّ “كريستوفر كولومبوس” بصحبة ثلاث سفنٍ بتمويلٍ من العرش الإسباني؛ وذلك للردّ على التفوق البرتغالي في البحار، والوصول إلى الهند للتجارة وإحضار التوابل، لكن بسبب خطأ حسابي، وجد نفسه على سواحل الأميركيّتين، فنزل على الأرض، وأصبح أوّل من اكتشف أمريكا، لكنّ الحقيقة غير ذلك.
في البداية، لا يمكن وصف وصول أي بعثة إلى أمريكا على أنّها اكتشافٌ للمنطقة؛ لأن شعوبًا كانت تعيش هناك بالفعل، فكيف تكون أول من يكتشف مكانًا يعيشُ فيه البشر منذ تقريبًا 15000 عام؟
ثم أنّ كولومبوس لم يكن أوّل من وصل إلى هناك، ولا حتى أول من استكشف الأراضي وقابل السكان الأصليين، حيث يوجد أكثر من نظرية حول من وصل هناك أولًا، لكن المؤكَّد أنّ الفايكينج بالتأكيد وصلوا سواحل أمريكا الشمالية 500 عام -على الأقل- قبل كولومبوس، وعاشوا هناك لأعوام. اعتُقِد أنّ الأمرَ مجرد أسطورة وصفته ميثولوجيا الفايكنيج قديمًا، حتّى بدأت الأدلة في الظهور، وسلَّم العالمُ للحقيقة.

*مصطلح الفايكينج يشمل سكان الدنمارك والنرويج وآيسلندا والسويد قديمًا في أقصى شمال أوروبا، وهم شعوب عُرِفوا بقوتهم الجسمانية، وعنفهم الزائد أحيانًا، واشتهروا بكونهم بحارين بارعين، ومحاربين شجعان، كما أنّهم هاجموا أوروبا، وبالأخصّ جزيرة بريطانيا وفرنسا بين 800م-1066م.

لماذا أمريكا؟

الفايكينج
ايريك الاحمر

بحلول عام 985م-982م كان المُستشِكفُ النرويجي “ايريك الأحمر Erik The Red” قد تم نفيه لمرة ثانية من مدينته في آيسلندا، فقرّر ترك البلاد بأكملها والتوجُّه إلى جزيرةٍ ثلجية، اكتشفها بحارٌ من الفايكينج منذ مائة عام، وتوجّه ايريك وعائلته إلى ما سيُعرف بعدها بـ “جرينلاند”، واستقرّ هناك، وبنى أول مستعمرة بشرية في جرينلاند. وبعدها عاد إلى آيسلندا، وشجّع الآخرين على الهجرة إلى الأرض الجديدة، ووعدهم بأماكن فسيحة وصالحة للزراعة، وبالفعل تمكّن من استقطاب ما يزيد عن خمسمائة شخص، وعاش هناك كمَلِكٍ على الجزيرةِ باقي حياته.

عندما عاد من النرويج أحد التجار ويدعى Bjarni Herjolfsson، وجد أن والدَه غادر وانضمّ إلى ايريك الأحمر في جرينلاند. لم يكن التاجرُ يعرف شيئًا عن جرينلاند أو حتّى مكانها، باستثناء أنها جبلية، وخالية من الأشجار، ولديها مراعي جيدة، فانطلقَ خلف والده، وسرعان ما وجد نفسه تائهًا في البحر.

إعلان

بعد عدة أيام من سوء الأحوال الجويّة وضعف الرؤية، وجد بيارني نفسه قبالة ساحل خلف أرض جبلية كثيفة الأشجار، فأيقن أنها ليست جرينلاند، بدون حتى الهبوط، ثم أبحر شمالًا، وبعد يومين شاهد أرضًا بها غابات مسطحة، ومرة أخرى لم يهبط.

وبعد الإبحار في الشمال الشرقي لمدة ثلاثة أيام أخرى، واجه أرضًا صخرية جبلية جليدية، اعتقَدَ أنها قاحلة جدًا بحيث لا يمكن أن تكون جرينلاند، فاستمرّ في الإبحار شرقًا، ووصل أخيرًا بعد أربعة أيام.

حينما وصل هناك، حكى عن رحلته، وعن الأرض المليئة بالأشجار غربًا، استمتع الجميعُ بقصته، لكن ابن ايريك الأكبر المعروف بـ “ليف ايريكسون Leif Eriksson” انبهر أكثر من أيِّ شخص آخر، وتحمَّس لاستكشاف تلك الأراضي الجديدة، وعندما تخلى التاجر عن عمله بعدها بأعوام، اشترى منه ليف السفينة، وحصل منه على اتجاهات السفر.

أول الأوروبيين في أمريكا الشمالية

الفايكينج

يُعتقد أن ليف ايريكسون قد بدأ رحلته الاستكشافية بحلول عام 1000م، حينها كان سكان جرينلاند وعدد كبير من الفايكينج قد اعتنقوا المسيحية. قابل ليف بعضَ الجزرِ القريبة في مستهلّ رحلته، ثم أبحر باتجاه الجنوب الغربي لمدة يومين، وهناك اكتشف أرضًا وصفَتها الأساطيرُ الشعبية الشمالية Norse Saga بأنها أرضٌ تعج فيها الأنهار بسمك السلمون وينمو العنب في البرية بكثرة.

أطلق عليها ليف اسم فينلاند Vinland أو الأرض الخصبة أو أرض العنب (غير فنلندا Finland)، وقامت البعثة ببناء منازل في مكان يسمى بعد ذلك Leifsbuðir أو أكشاك ليف، حيث أمضوا هناك شتاءً مريحًا، وبدت لهم البلاد لطيفة للغاية بحيث لم تكن هناك حاجة إلى علف شتوي للماشية، وبعكس بلادهم لم يكن هناك صقيعٌ طوال فصل الشتاء، ولم يكن العشبُ يَذبل على الإطلاق، والشمسُ تظهر في السماء طوال النهار.

لم يقابل ليف أو بعثتُه أيًّا من السكان الأصليين، وبحلول الربيع، قطعتْ البعثةُ عددًا كبيرًا من الأشجار من أجل الخشب؛ حيث عانت جرينلاند من قلّته، ثم عادوا أدراجهم.

البعثات الأخرى

الفايكينج
ثورفالد ضد السكان الأصليين

بعد عودة ليف، توفّى والده، وأصبح ليف حاكم الجزيرة، فلم يعد بإمكانه المغادرة في رحلاتٍ طويلة بعدها؛ لذلك استكمل شقيقه ثورفالد Thorvald الرحلةَ بعدها بثلاثة أعوام، وأصبح أول من يقابل السكان الأصليين هناك.

كان ثورفالد ورجالُه يستكشفون إحدى المناطق، عندما رصدوا ثلاثة زوارق صغيرة على شاطئٍ رملي، وبعد الاقتراب منها، تَبيَّن أن تسعةَ رجال كانوا مُختبئين بأسفلها، فقتل الفايكينج ثمانية منهم لكنّ التاسع نجا وحذَّر القبيلة.

في وقتٍ لاحقٍ من نفس اليوم، رأى ثورفالد ورجاله سربًا من الزوارق يُبحِر عبر مضيق بحري باتجاههم، بأعدادٍ كبيرة، فلجأوا إلى سفينتِهم واستغلّوا الهجوم بسيوف حديدية، بينما السكان الأصليين يمسكون بالعصا والخشب، وهزموا القبيلة، لكن أثناء القتال، أصيب ثورفالد بسهمٍ جرحَ في الإبط، وتوفّى بعد ذلك بوقت قصير.

بناءً على طلبه، قام رجال ثورفالد بدفنه على الطريقة المسيحية، ووضعوا الصليب على قبره، ليكون أول أوروبيّ يُدفن في أمريكا الشمالية.

لكن ذلك لم يمنع محاولات أخرى للعيش هناك، فبعد حوالي عامين من وفاة ثورفالد، قاد تاجر آيسلندي رحلةً جديدة، بصحبة زوجته و65 رجلًا وخمس نساء ومجموعة متنوعة من الماشية.

أمضت البعثة شتاءً هادئًا، وخلال ذلك الوقت أنجبت زوجةُ التاجر ابنًا، كان أوّل أوروبي يُولَد في أمريكا، وفي الربيع، ظهر الأمريكيون الأصليّون وحاولوا التقرب من الأغراب، وذلك في سبيل تجارة الفراء معهم، أطلق عليهم الفايكنيج اسم “Skrælings“، ربما يعني “الصارخون“؛ بسبب الرقصات والأصوات الغريبة التي كانوا يقومون بها.

كان الأمريكيّون منبهرون بالسيوف والرماح والأدوات الحديديّة، وأرادوا مقايضتها مقابل أي شيء، لكنّ قائدَ البعثة جرّم ذلك، ومنع رجالَه من مقايضة الأسلحة؛ خشية تسلّح الأمريكيون ضدهم. وبعدها في الصيف، حاول الأميريكون سرقة بعض الأسلحة، فقتل الفايكنج أحدهم؛ ممّا أغضبَ القبيلةَ فخرجوا للانتقام، لكن البعثة هزمتهم بسهولة، ورغم ذلك هجروا المستعمرة بعدها بعامٍ وعادوا إلى بلادهم.

البعثة الأخيرة

فريديس في امريكا

خرجت بعثةٌ أخرى تحت قيادة “فريدس Freydis” شقيقة ليف، بأعدادٍ أكبر وسفن عديدة، لكنَّ خلافاتٍ داخلية قضت تمامًا على آخر آمال الفايكينج.

طبقًا لقواعد الفايكينج عند الهجوم على أراضٍ أجنبية، مِن حق مَن يصل أولًا اختيار أي مكان ويُعتَبَر ملكه. عندما وصلت فريدس إلى أمريكا، وبسبب اختلاف سرعة السفن، وجدت المناطقَ الجيّدة والمنازلَ الحجرية الخاصة بالبعثات السابقة قد حصلت عليها عائلتان من الذين وصلوا قبلها.

كونها كانت امرأةً عنيفة ودمويّة؛ رفضت التنازل بسهولة، وأمرت بخروج العائلتين وتسليم المنازل لها، وعندما رفضوا بحجة القانون، أمرت حراسها بقتل رأسي العائلتين، لكنّها لم تتوقف، فقد أمرت أيضًا بقتل الزوجات والأطفال، وعندما رفض الحراس، أمسكتْ بفأسٍ وقتلتهم بنفسها، وسط دهشة ورعب البعثة بأكملها.

التزم الجميع الصمت، خوفًا من المرأة المجنونة، وانتظروا حلول الخريف وعادوا جميعهم، وعادت معهم فريدس؛ مما وضعها في موقفٍ صعب ومأزقٍ كبيرٍ لأخيها الحاكم، فلو أنّها مثلًا اكتفت بقتل الرجال، كان من الممكن أن ينتهي الأمر بنفيٍ مؤقّتٍ ثم تعود مجددًا، لكنّ قتل الأمهات والأطفال كان يعد من الكبائر عند الفايكنج؛ كونهم ثروة لتفادي قلة الأعداد ونهاية المستعمرات.

قانونًا، كان من المفترض إعدام فريديس، لكنّ القانون أيضًا يمنع قتل أفراد العائلة؛ لمنع التنازع عن الملك أو أملاك العائلة بين الأخوة، مما وضع الحاكم ليف في مأزق، ففي كل الحالات سيخالف القانون، وحيث أنّ الفاينكيج كانوا يؤمنون بقوانينهم الخاصة بجدية، تم التوصُّل إلى تسوية، يتم نفي فريديس مدى الحياة، ولا يتم ذكر مستعمرات أميركا مجددًا، ولا تتوجه أي بعثة إلى هناك مرة أخرى، وينسى الجميع الحادثة.

وانتهى بذلك اهتمام الفايكينج بالعيش في أمريكا، والبعثة الرسمية الأخرى الوحيدة المسجلة كانت بعد مائة عامٍ تقريبًا، ففي عام 1121م انطلق أسقف جرينلاند إلى مستعمرات فينلاند، لكنّ مصير بعثته غير معروف، ولم يتم ذكرها مجددًا، لكن يُعتَقَد أنّ سكان جرينلاند استمروا في رحلاتٍ إلى أميركا للحصول على الخشب، وربما حتى ارتبطوا بعلاقات تجارية مع شعوب الـ Inuit في كندا.

دليل وصول الفايكينج

في عام 1960م، تمّ اكتشاف أول مستعمرات الفايكينج في أمريكا الشمالية، في جزيرة Newfoundland على سواحل كندا، وتم ضم الموقع لقائمة التراث العالمي التابع لليونسكو. عُثِرَ هناك على بقايا من القرن الحادي عشر، بها مبانٍ ومنازل تم إنشاؤها بنفس الطراز الموجود في آيسلندا وجرينلاند في عصر الفايكينج، وتشمل بقايا المستعمرة ثلاثة مساكن، وأربع ورش حدادة، وشرفة ضيّقة تطلُّ على أحد المستنقعات، وتُعتَبَر مستعمرةً مؤقتة أو مركزًا لشن الغارات، لأنهم بالتأكيد توغّلوا جنوبًا بشكلٍ واسع، ليجدوا مزارع العنب التي وصفوها، ولكن لم يتم اكتشاف الأماكن أو المستعمرات الأخرى بعد.

وما أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه كانت مستوطنة تابعة للفايكنج، كان العدد الكبير من القطع الأثرية المعدنية المكتشفة في الموقع، بما في ذلك مسامير السفن المصنوعة من الحديد المطاوع، وعليها رمز دائري إسكندنافي من البرونز. كذلك تم العثور على ما يثبت وجود أنشطة الغزل والنسج في الموقع، نظرًا لأن هذا كان نشاطًا نسائيًا رائدًا في عالم الفايكينج، فقد أكّدت هذا الروايات الملحمية لنساءٍ شاركن في رحلات الاستكشاف الإسكندنافية.

كما تُظهِر تواريخ الكربون المُشعّ من المواد العضوية في الموقع، أنها كانت مشغولة لفترة وجيزة، بين 980م و1020م، وهو ما يتوافق جيدًا مع ما تم ذكره من قبل، واعتُبِر أسطورة.

ومؤخرًا، تم العثور على منطقةٍ جديدة، بالقرب من الموقع القديم، عن طريق الأقمار الصناعية؛ مما يعزز ثبوت قصص الفايكينج، في انتظار أدلّة أكثر، ومواقع أخرى.

وفي عام 1964م، تمّ اعتماد يوم التاسع من أكتوبر، كعيدٍ للاحتفال بـ “ليف ايريكسون”؛ أوّل مستكشف أوروبي يصل أمريكا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عمرو عدوي

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا