قراءة في كتاب الأقرباء
هل نستطيع إدخال الميكروبات في شجرة الحياة؟
طل علينا فيروس كورونا بوجهه القبيح في أواخر العام الماضي، مما دفع الغالبية منا للبحث عن أية معلومات تخص الفيروس. ولنقص المعلومات الواردة إلينا من المنظمات والهيئات والمؤسسات الصحية والسياسية، حاول الكثير منا البحث في جعبته عن الكتب التي تتحدث عن الموضوع. ووجدنا كتبًا قيمة مثل كتاب الفيض من إصدار عالم المعرفة يشرح الكثير مما يتعلق بالفيروسات والأوبئة. وقد تفضل الأستاذ زكريا أحمد عبد المطلب مشكورًا بتقديم وعرض الكتاب بجزأيه في موقع المحطة . وفي ظل بحثنا في هذا الموضوع يظهرلنا كتاب الأقرباء من سلسلة عالم المعرفة شهر فبراير2020 م تأليف جون إل.إنغراهام أستاذ متقاعد للميكروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا، وترجمة إيهاب عبد الرحيم علي وهو طبيب تخرج من جامعة أسيوط ورئيس المجلس الكندي لنشر العلوم والثقافة.
يحاول كتاب الأقرباء الإجابة على سؤال العلماء: كيف يمكننا تحديد العلاقات المحتملة للميكروبات بالنباتات والحيوانات؟ بمعنى هل توجد علاقات قربى بين الميكروبات وبين الكائنات الأعلى. حتى سبعينات القرن الماضي كانت كل الدراسات في هذا الشأن مقيدة باعتمادها على نوع واحد من الأدلة: المورفولوجيا (أي أشكال وأحجام الأشياء) وتتبع المظهر الخارجي للكائنات الحية. وبعد بحث طويل يئس علماء البيولوجيا المتميزون من أن يتمكنوا من التوصل لهذه القرابة. ولكن في سبعينات القرن الماضي هزت قنبلة علمية مجال البيولوجيا. أدرك حينها علماء البيولوجيا أن تاريخ العلاقة بين جميع الكائنات الحية يسجل في المورفولوجيا الجزيئية لمكونات الخلايا. مما سمح لنا بإلقاء نظرة على شجرة الحياة بأكملها.
شجرة الحياة
في رسائل بعثها “دارون” لأصدقائه ولكنها لم تنشر قط، تكهن بإمكانية وجود سلف مشترك. ومن هنا نشأ التفكير في شجرة الحياة كمصطلح استخدم أول مرة بالمعنى العلمي من قبل دارون وهو يلخص التكهنات التي عبر عنها علماء البيولوجيا منذ زمن طويل، والقائلة بوجود درب تطوري واحد ناشئ عن بدايات الحياة، والذي يتفرع بصورة متكررة مؤديًا إلى جميع الكائنات الموجودة. وعبر دارون عنها بالشجرة على أمل أن خريطة مفصلة لرحلة الحياة التطورية ستظهر في يوم ما.
في كتابه الرائع “أصل الأنواع” رسم دارون صورة حقيقية تشبه الشجرة: جذع واحد يتفرع بشكل متكرر عند نقاط مختلفة، مؤديًا إلى كائنات موجودة عند أطراف الأغصان وكائنات منقرضة عند التشعبات. كتب فوقها دارون بكل تواضع “أظن ذلك“. لقد كتب “دارون” عن النباتات والحيوانات، وأنها تشترك في تاريخ تطوري واحد، لكنه لم يذكر الميكروبات أو النقاعيات infusoria كما أسماها كمرشحين محتملين أن يكونوا سلفًا مشتركًا للكائنات الحية، أو حتى أنها تمثل جزءًا من شجرة الحياة. استخدم دارون اسم النقاعيات لوصف الميكروبات والذي يعني ضمنًا الكائنات التي توجد لا محالة في نقيع اللحم والقش، وهذا يوحي بأنه كان يعتقد أن الميكروبات قد لاتكون جزءًا من شجرة الحياة وأنها تظهر تلقائيًا من مادة غير حية إذا كانت الظروف مواتية. ولكن كيف تغيرت فكرة العلماء نحو هذه الفكرة “التوالد العفوي للفطريات”.
هاجمت سلسلة من العلماء المحترمين مسألة الظهور المفاجئ للميكروبات، لكنهم توصلوا إلى نتائج مختلطة ومتضاربة. وفي أوائل القرن الثامن عشر ساق “ميشيلي” وهو قس كاثوليكي من فلورنسا، أدق الحجج وأكثرها استنادًا إلى أساس علمي ضد التولد العفوي للفطريات، عن طريق إظهار أن الفطريات تتطور من أبواغ spores مجهرية. وعارضه “جون نيدهام” بتجربة تثبت التولد العفوي. ولكن أعاد “لازارو سبالا نزاني” التجربة مرة أخرى وأثبت العكس. وظل الأمر سجالًا بين العلماء حتى جاء “لويس باستور” بقوارير عنق البجعة المشهورة، لينفي تمامًا التولد العفوي للميكروبات.
علم التصنيف وشجرة الحياة
علم التصنيف هو نشاط محايد نظريًا، حيث نجمع الكيانات المتشابهة ونسميها من دون الرجوع بالضرورة إلى أسباب تشابهها. بدأ التفكير في التصنيف قديمًا لأن ذلك من طبيعة البشر. فبداية من أرسطو ومابعده كان التصنيف يتم على أساس جمع الكائنات الحية المتشابهة، وتسمية الأفراد ثم تسمية المجموعة. نجح هذا النهج البشري الغريزي بنحو ملحوظ في تصنيف النباتات والحيوانات، وتطور بفضل السجلات الأحفورية. ابتكر “كارل فون لينيه” مخططًا لتصنيف النباتات على أساس تشريح تناسلها الجنسي، وبالرغم من اعتراض بعض العلماء على بعض قناعاته الدينية، إلا أن الفضل يعود له في طريقة تسمية الكائنات الحية عن طريق اسم لاتيني ثنائي يتضمن الجنس والنوع، وأسس أيضًا التجميعات الهرمية أو تصنيف الأنواع بترتيب تصاعدي إلى أجناس وفصائل ورتب وأصناف وممالك، وهي مجموعات عدلت لاحقًا لإضافة شعب بين الممالك والأصناف.
وكان نظام التجميع وفقًا للتشابه ناجحًا في جلب ترتيب مفيد لفهمنا لبعض الميكروبات ولاسيما الفطريات، ولكن انهار تجميع الكائنات الحية على أساس تشابهها الظاهري بسبب البكتريا وتنوع عمليات الأيض والتنفس بها. وهذا ما دفع العلماء بتصميم العديد من الاختبارات الكيميائية الحيوية للتفريق بين الكائنات الصغيرة. وظهرت طريقة مبتكرة لتصنيف الكائنات الحية على أساس مقارنات مورفولوجية استندت إلى بنية الجزيئات الكبروية للخلية بدلًا من خصائصها البصرية. أدى هذا الفتح العلمي لاكتشاف أن شجرة الحياة لها ثلاثة أغصان متميزة، وهي البكتربا والعتائق وكل شيء آخر (حقيقيات النواة). وهذا التصنيف الثلاثي هو الركيزة الأساسية لعلم التصنيف الحديث.
الغصن الشبحي للشجرة (الفيروسات)
تؤكد نظرة سريعة إلى شجرة الحياة حقيقة مذهلة. أنها تتكون في معظمها وبنحو شبه حصري من الميكروبات. تشكل النباتات والحيوانات، على الرغم من أنها تسيطر على عالمنا المرئي، اثنين فقط من أغصان الشجرة. وبالرغم من أن البكتريا والعتائق والأولانيات ومعظم الفطريات تندرج ضمن الميكروبات إلا أنها تتباين بشدة من حيث بنيتها وأنشطتها. ولكن نلاحظ أننا لم نتحدث عن الغصن الشبحي للشجرة وهي: الفيروسات.
لم تندرج الفيروسات في شجرة الحياة، فهي تفتقر إلى الخاصية التي تعرف الكائنات الحية في الأساس، فهي ليست خلايا . تفتقر الفيروسات إلى وسيلة لتوليد طاقتها الأيضية، وإلى طريق التوالد الذاتي، وإلى الريبوسومات. ولكن بالرغم من أنها غير مؤهلة للتمثيل في شجرة الحياة، فإن الفيروسات هي كيانات بيولوجية يصعب تجاهلها في أي مناقشة للشجرة، إن لم يكن لأي سبب آخر سوى وفرتها المذهلة وتأثيرها في شاغلي الشجرة الشرعيين.
عرف عالم البيولوجيا الفائز بجائزة نوبل، “بيتر ميداوار” بإيجاز ما يعتبره فيروسًا بأنه “قطعة من الأخبار السيئة المغلفة في بروتين”. تلك هي بنيته ببساطة. مجرد معلومات وراثية مشفرة بالحمض النووي (DNA أو RNA) المغلفة في قفيصة capside بروتينية. تحشد بعض الفيروسات إنزيمًا أو اثنين داخل القفيصة، وبعضها محاط بغشاء سرقته من آخر خلية أصابتها بالعدوى.
لم يعرف علماء البيولوجيا الفيروسات إلا أخيرًا في أواخر القرن التاسع عشر، بالرغم من نجاح بعض العلماء في تطوير اللقاحات ضد بعض الأمراض الفيروسية مثل الجدري وداء الكلب. وهذا مادفع “باستور” للتكهن بأن العامل المسبب لداء الكلب أصغر من أن يرى عبر المجهر. ويعود الفضل إلى “تشارلز تشامبرلاند” وهو أحد زملاء “باستور” في اكتشافها عن طريق استخدام الخزف الصيني (البورسلين) الذي كان يستخدم في ترشيح البكتريا من السوائل. واكتشف أن الفيروسات المسببة للمرض تعبر مسامات الخزف، وهو ما أعطى الفكرة أن حجمها صغير جدًا.
وبسبب أن الفيروسات تتباين في أحجامها وتركيبها الخارجي والداخلي، قام العلماء بتسمية الفيروسات وتصنيفها إلى فصائل على الرغم من استبعادها من شجرة الحياة، بسبب أنها لا تحتوي على الريبوسومات وهي بالغة الأهمية بالنسبة إلى بنية الشجرة.
إن الكيفية التي صارت بها الفيروسات إلى ما هي عليه وكيف ترتبط بالحياة لاتزال لغزًا. هناك نظريتان لذلك في الوقت الحالي، ترى إحداهما أن الفيروسات تطورت في وقت مبكر من تاريخ الحياة، ربما قبل ظهور الخلايا. أما الأخرى فتقترح عكس ذلك، أي إن الفيروسات هي نواتج لخلايا متطورة أو جينات طليقة أي “الجين الأناني المثالي”. تقول النظرية الأخيرة وهي تلك التي يفضلها صاحب الكتاب: “إن بعض الجينات الهاربة من جينوم كائن حي أصبحت مغلفة بقفيصة، وأصبحت بواسطة الانتقاء قادرة على التكاثر على حساب الخلايا الأخرى”.
شكوك وتعقيدات حول شجرة الحياة (جينات من الجيران)
تصر شجرة الحياة ضمنيًا على أن يكون ميراث الجينات عموديًا، أي تنتقل من جيل إلى جيل، من والد إلى ذريته. وبالتالي يعتمد بناء الشجرة بافتراض الوراثة عمودية . ولكن هذا الافتراض ينطوي على تعقيدات، خصوصًا في حالة بدائيات النواة. في عوالمها، يصادف المرء في كثير من الأحيان توريثًا أفقيًا أو جانبيًا، أي انتقال الجينات من الجار بدلًا من الوالد.
على عكس حقيقيات النواة طورت بدائيات النواة ثلاث طرق لانتقال الجينات أفقيًا، وهي الاستحالة والاقتران conjugation والتنبيغ transduction. وعلى الرغم أننا لم نفهمها بنحو كامل حتى الآن، إلا أن عمليات الانتقال هذه محكومة إلى حد ما. طورت بدائيات النواة أيضًا آليات لاكتشاف وتدمير DNA الذي يقدمه لها جيرانها. ولكن على الرغم من هذه الدفاعات تنتقل بعض الجينات بنجاح.
صارت لدينا الآن أمثلة راسخة على عمليات الانتقال هذه بين البكتريا والعتائق، وبين البكتريا والخمائر (التي هي حقيقية النواة)، وبين البكتريا والفطريات. هناك أيضًا أمثلة على انتقال الجينات بين البكتريا والنباتات وانتقالها إلى الحيوانات. حتى أن العلماء يعتبرون الميتوكندريا والبلاستيدات الخضراء حالات من الانتقال الأفقي بين الكائنات فهم يعتبرونهما بكتيريا.
هل يمكن الوثوق في الشجرة بعد الانتقال الأفقي؟
وهنا نطرح بعض الأسئلة: مامدى الأهمية التطورية لمثل هذه الانتقالات؟ هل هي ضخمة بما يكفي لكي تربك الانتقال الرأسي للجينات؟ ما مدى شيوع الانتقال الأفقي بين الجينات بين بدائيات النوى؟
بات واضحًا الآن أن الانتقال الأفقي للجينات لا يقتصر على البكتريا، فهو يحدث بين الكائنات الحية والأخرى ويتضمن ذلك الانتقال بين الممالك. ولكن نعود لنقول إن الانتقال الأفقي للجينات ليس شائعًا بين حقيقيات النوى بما يكفي ليشكل عائقًا لفهمنا لشجرة الحياة. لكنه شائعٌ للغاية بين بدائيات النواة. ونجد أيضًا أن اللب الأيضي والذي يشمل الريبوسومات نادرًا ما ينتقل أفقيًا. وبعدما أدرك الأغلبية العظمى من خبراء تصنيف بدائيات النوى هذه الحقيقة، وبنوا تصنيفهم عليها، جميع الشعب والأجناس والأنواع المعروفة من بدائيات النوى مبينية على العلاقات الريبوسومية.