الهاوية.. الرأسمالية البريئة
الرأسمالية البريئة
حينما استويت قائما حركت عيني بإمعان لكي أعرف المكان..
وجدت نفسي على حافة وادي الهاوية الأليم ..
مظلما عميقا لا تتبين به العين شيئا.-دانتي ألغيري
توقفت وسط الجنون الذي نعيشه إثر الوباء – من إغلاق كل شيء مع حظر التجوال والحجر الصحي، إلى الثورات على الفيروس بما في ذلك من التجمع لأداء الصلوات أو التكبير من أجل أن يذهب عنّا البلاء، فضلاً عن الخوف من لمس وجوهنا أو أيدينا، والجشع الذي ملأ المحلات التجارية حول العالم، ونصائح شرب مساحيق الغسيل للوقاية من الفيروس. كل هذا أربكني وجعلني أقف أمام هاوية نوبة قلق جديدة. فكرت في مئات الأسئلة التي تبدو كلاشيهية: “ماذا سنفعل إذا انتهى الطعام من البلاد واستمر هذا الركود الاقتصادي مع الخوف والعدوى ثم الموت سواء من الجوع أو الفيروس؟” وبالتزامن مع مناقشات الكونغرس حول مقدار المال الذي يجب أن يُعطى للشركات التي تقدر بالمليارات خلال الوباء -على عكس المبالغ التي تذهب للمواطنين العاديين، كان فيلم المنصة “The Platform”مناسباً لكل هذه الأحداث وهذا الجنون.
يبدأ فيلم The Platform بشخص يُدعى غورينغ يفتح عينيه وهو مسجى على السرير، يحاول إدراك البيئة المحيطة به؛ التي هي عبارة عن غرفة رقمها ثمان وأربعين مطلية بالرمادي ومضاءة بلمبات فلورسنت، وعلى الجانب الآخر من الغرفة يوجد سرير يجلس عليه رجل عجوز يدعى تريماغاسي. يتوسط تلك الغرفة فتحة كبيرة على شكل مستطيل. حينما ينظر منها غورينغ يجد أشخاصاً تحته وأشخاصاً فوقه. يدرك أنّه في سجن غير عادي، إنما في سجن عامودي. وتلك الفتحة تسكن فيها كل يوم منصة عليها طعام كثير مأكول مسبقا من قِبَلِ من هم فوقه، وتستمر تلك المنصة في الهبوط حتى المستويات الاخيرة التي بالكاد يصل إليها صحون تحتوي على الفتات. وبسبب غريزة البقاء، يضطرون إلى الاحتفاظ بأجزاء حادة من هذه الصحون حتى إذا اشتدت وطأة الجوع قتلوا بعضهم البعض وتغذوا على لحوم البشر.
يعرف غورينغ هذه المعلومات من زميل زنزانته تريماغاسي الذي يشرح له قوانين هذا المكان؛ تريماغاسي الذي يعاني من التمركز حول الذات egocentrism -فكلُّ ما يفكر فيه هو ماذا ومتى سيأكل. لدرجة أنّه عندما انتقلوا من غرفة مستواها جيد بمقياس ما يصل إليها من الطعام إلى غرفة لا يصل إليها شيء، قيد تريماغاسي غورينغ لمدة أسبوع مدَّعِياً أنّ هذا هو التطهر الذي يحدث مع الحلزون. ثم شرح أنّه سيقطع أجزاءً من جسده خلال الأيام القادمة ليأكل، ويعده أنّه سيحصل على نصيبه و أنّه سيداويه. وبعدها طلب منه أن يقرأ له! بعد سبعة أيام يشرع تريماغاسي في قطع جزء من فخذ غورينغ بسكينه الذي يزداد حدة كلما استخدمه؛ فجأة تظهر ميخارو -التي يعني اسمها باليابانية فتح العيون بشكل واسع- التي تهبط مع المنصة فوق الطعام كل شهر لتبحث عن صغيرها حسب رواية تريماغاسي، فهبطت هذا الشهر لغرفتهم مصادفة مع المنصة وأنقذت غورينغ.
يستيقظ غورينغ بعدها في غرفة أخرى رقمها اثنان وثلاثون مع ايموغيري وكلبها -رمسيس الثاني. سألت نفسي حينها لماذا هذا الاسم تحديداً؟ عندما بحثت عن رمسيس الثاني، وجدت أنّه كان قائداً محنّكاً وطويلاً مثل كلبها، وأنّه أول من أبرم معاهدة سلام -مع حاتّوسيليس الثالث. اعتقدت حينها أنها تشير الى طريق مسدود؛ أنّه لا يوجد حل لا بالحرب ولا بالسلام. ولقد ركزت على هذه المعلومة الصغيرة لأنه يمكن أن نعتبر الفيلم محاكاةً صغيرة عن رواية دون كيشوت؛ ليس فقط لتشابه عناصر كثيرة بين الفيلم والرواية، إنما لأنّ غورينغ كان هذا ما اختاره في السجن معه وبالطبع هذه إشارة صريحة لاي أحد أن يقرأ الرواية ليفهم. كما ولاحظت إشارة صريحة إلى العديد من الرمزيات التي يجب أن تراها -بعضها وجدته فجّاً نوعاً ما. يمكن أن نقول أنّ ألونسو كيخانو هو غورينغ. ألونسو رجل نبيل ناهز الخمسين من عمره، مولع بالقراءة عن الفروسية، وكان يصدق كل شيء مكتوب في الكتب؛ وقد فقد عقله من قلة النوم والطعام وكثرة القراءة. لذلك قرر أن يترك قريته في إقليم لامانتشا ويشد الرحال كفارس شهم من العصور الوسطى يبحث عن مغامرة. كان ألونسو ذو شخصية تدفعها جوهر الخير والمثالية لمساعدة الفئات المحرومة وتعيسة الحظ والمساكين، رجلٌ حالم يصدِر قرارات غير عقلانية. كان يرافقه سانشوبانثا الذي وعده بحكم جزيرة -كما وعد غورينغ بهارات انه سيصعد الى الدور صفر ليخرج من هذا السجن.
وكما كان ألونسو يغرق في أحلام اليقظة في كهف مونتيسينوس، كان غورينغ يغرق أيضاً في أحلام اليقظة -سواء أكانت يقظة أم نشاط حالم أثناء نومه، لكنها في الاخر تتضافر مع الواقع. بعدما قتل تريماغاسي، زاره كثيرا في أحلام يقظته؛ حاوره واستفزه في أحيان كثيرة وشجعه على أكل شخص ميت، وكان يؤنسه أحياناً. مثلما فعل عزازيل بهيبا؛ استفزه هو الآخر وجعله يكتب. كلاهما كان ينزعج من شيطانه؛ عزازيل أو حتى ترىماغسي الذين يأتون لهم يأتون من باطن نفسهم البشرية وعبثا التخلص منهم. حيث يقول عزازيل: “يا هيبا، قلتُ لكَ مراراً إنني لا آتي ولا أذهب. أنت الذي تأتي بي حين تشاء. فأنا آتٍ إليك منك، وبك، وفيك. إنني أنبعث حين تريد لأصوغ حلمك، أو أمد بساط خيالك، أو أقلب ما تدفنه الذكريات. أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك، أنا الذي لا غنى لك عنه، ولا غنى لغيرك. لهذا قال تريماغاسي لا لن انصرف انا الان أنتمي إليك”
ثيربانتس في روايته جمع الشخصيات في مجموعات ثنائية بغية مساعدة كل منهما الآخر، وكانت الحوارات قائمة على الاستماع والاستيعاب. إذ تبدأ الأحداث والحوارات من جانبٍ وتنتهي على جانب آخر، بهدف مزجها للوصول الى رؤية أو زاوية مختلفة. في المنصة، يوجد في كل مستوى اثنان لم يتعاملوا مع بعضهم بهذه المثالية أو التحضر؛ إنما تعاملوا مع بعضهم كأعداء أو كقطع لحم محتملة وقت الجوع. وكانت الحوارات تنتهي بنفس الرؤية المشوشة -سواءً أكان تشويشها واضحاً لأحدهم بينما كانت دوافعها غير واضحة، أم كان تشويشها واضحاً وطبيعياً بالنسبة للبعض الآخر
فيلم المنصة “The Platform” هو أكثر من محاكاة رواية أو قصة عن عدم المساواة؛ حيث تتوافق مستويات المجتمع مع مستويات حرفية في مبنى مادي. مبنيً يسمونه ملاطفة المركز العمودي للإدارة الذاتية، وهو عبارة عن تجربة فكرية ومفاهمية حزمها الكاتبان David Desola و Pedro Rivero بالكثير من المميزات التي تظهر أحياناً فجأة كما أشرت سابقاً؛ تجربةٌ تعكس استعارة بصرية وسردية للغز الرأسمالي الذي تورط فيه العالم الحديث بنفسه. فمن هم في المستويات العليا لهم الأحقية في التصرف كما يشاؤون بالثروات، ومن هم في الطبقات الدنيا بالكاد يصلهم أي شيء. وعندما يتحول الأمر، لا يعبأ من كانوا في الأسفل البارحة بمن هم في الاسفل اليوم.
هذا الوصف يهيئك لحقيقة أنّ فيلم The Platform إشارة الى الرأسمالية -إذ يدعو إلى التنديد بها. وهو ما يتجلى في مبدأ عدم التدخل؛ وهو ما يعني بشكل مبسط عدم تدخل الحكومات في التجارة. وكأنه شيء “Obvious” أو “Obviously” كما كان يرد تريماغاسي على غورينغ في إجابةً على أي سؤال كأنه شيء مطلق وبديهي أو غير قابل للتغير. الإدارة التي لا تعبأ بما يدور في الأسفل رغم حزمها وقسوتها على الطباخين. من وجهة نظري، هذا ليس صحيح. فالفيلم يدعم الرأسمالية ويظهر الجانب الجيد فيها: أنها ليس لها علاقة بأفعال البشر الهمجية وأنها دائما تحاول تنظيم الأمور لكن البشر مصممون على الفوضى والعنف. ايموغيري هو إحدى البيروقراطيين الذين كانوا يعملون لدى إدارة السجون لمدة تزيد عن خمسة وعشرون سنة، تُدخِل الناس بنفسها في هذا السجن بعد أن تجري معهم مقابلة تدور أسئلتها حول الطعام الذي يفضلون وإن كان لديهم حساسية من شيء ما. هذه هي إحدى التفاصيل التي تؤكد براءة الرأسمالية في الفيلم، فلو التزم كل شخص بطبقتِهِ سيأكلون جميعًا.
عندما انتهى الفيلم، بدت على وجهي علامات استفهام عديدة. فَرغم أنني أحب هذا النوع من الأفلام التي تجعلني أفكر في ماهية الفن والسينما؛ بمعنى أنني سألت نفسي: “هل مفهوم البطل موجود بالفعل؟ سواء كان يتخذ الأخلاقيات الدينية بشكل مقيد أو الإنسانية بشكل مطلق كتجلي له؟” و “هل يجب على السينما أن تكون اختباراً يجعلنا نحل الرموز والأحاجي حتى وإن كانت واضحة مثل السعال الجاف بدلاً من الإحساس بالغير ورؤية زاوية جديدة للعالم؟ ولماذا كانت النهاية بهذه السرعة وبلا أي حبكة؟