فيلم Shame: الأورجازم على ألحان جنائزية

تحليل لقصة ولشخصية معقدة في فيلم Shame الذي يعد من أفضل أفلام العقد الماضي وثاني أفلام ثلاثية المخرج البريطاني (ستيف ماكوين).

 

بحسب الميثولوجيا الإغريقية، يحكي أرستوفانيس أن البشر كانوا مخلوقين بداية كائنات عظيمة تمتلك ثمانية أطراف ورأس منقسم إلى وجهين، وخوفًا من ثورة هذا الكائن وقوته، اضطر (زيوس) لمعاقبته بشطره إلى نصفين، لينتج عن ذلك الإنسان بشكله المعروف حاليًا والمنقسم إلى ذكر وأنثى، ليعاني الإنسان في رحلة السعي لإيجاد الطرف الآخر، الذي سيملأ فجوات روحه المنقوصة، ويعيد إليه كماله الذي فقده.

لم تتطرق قصة الخلق السابقة لمن فقدوا نصفهم الآخر أثناء عقاب زيوس، الذين سيضطروا إلى إكمال حياتهم بنصف روح، بجسد بشري مكتمل ولكنه ليس بكامل، إلا أن المخرج البريطاني (ستيف ماكوين)، في عام 2011، التفت إلى أحدهم ليروي قصته في فيلم Shame وهو الفيلم الثاني من ثلاثية بدأها (ماكوين) بفيلم Hunger وأنهاها بفيلم 12 years a slave.

تدور أحداث فيلم Shame حول (براندون)، شاب وسيم في بدايات العقد الرابع من عمره، ذو بنية جسدية جيدة وصحية تنم عن شخص مهتم بصحته وبنضارته إلى حد بعيد، يشغل وظيفة مرموقة ويسكن شقة في حي راق بمدينة نيويورك، حياة في ظاهرها يحلم بامتلاكها أي شخص، إلا أن باطنها يخبئ قبحًا مستفحلًا يُشعر أي شخص يقترب منها بالنفور والشفقة على صاحبها، فـ(براندون) مدمن للجنس، يعيش في دائرة مفرغة من الشهوة والإباحية، حياته تتأرجح بين ممارسة الجنس والاستمناء ومشاهدة البورنوجرافي في غرفته وحتى في مكان عمله مع هامش بسيط للغاية للتركيز على مسيرته المهنية وعلاقاته بزملائه، وهو ما برز بافتتاحية الفيلم نفسها، والتي نرى فيها (براندون) مستلقيًا على سريره ناظرًا إلى السقف بنظرة توحي أنه فرغ لتوه من الاستمناء، ويلي تلك الافتتاحية مشاهد لـ(براندون) وهو منغمس في ممارسة الجنس مع فتيات ليل في تتابع مشهدي يوحي بروتينية وتكرار الفعل الجنسي في حياة (براندون)، حتى أنه لا يشغل باله بالرد على الرسائل الصوتية الواردة لهاتفه.

إعلان

تظل الحياة الخاصة بـ(براندون) مستمرة إلى أن يعكر صفوها بالنسبة له -أو يعري زيفها وينقيها من شوائبها بالنسبة إلينا كمشاهدين- ظهور أخته (سيسي) في حياته، والتي دائمًا ما كان يتهرب (براندون) من الرد على رسائلها أو رؤيتها، لتسكن معه في منزله بعد حدوث خلافات بينها وبين صديقها.

لم تكن أسباب الفتور في العلاقة بين (براندون) و(سيسي) مفهومة ولكنها تتكشف شيئًا فشيئًا على مدار أحداث الفيلم، فهي فتاة مضطربة نفسيًا شأنها شأن (براندون) إلا أنها، على عكسه، تتوق لإيجاد من يحتويها، و(براندون) بالنسبة لها ليس مجرد أخ، ولكنه عائلتها بالكامل، وعلى جانب (براندون)، فهو يراها مزعجة وطفيلية كما وصفها في أحد المشاهد، وجودها يحرمه من الخصوصية التي يحتاجها بشدة في ممارسة مغامراته الجنسية، إلا أن الفيلم لو كان اكتفى بتلك الأسباب لكان سيقع بكل سهولة في فخ السطحية، فعلاقة (براندون) بأخته علاقة، على الرغم من تعقيدها، تنطوي على حب عميق متبادل بين الطرفين منبعه أنهما أبناء مأساة واحدة، ألا وهي الوحدة وغياب التواصل، فعلاقات (سيسي) لم تمنح روحها السكينة التي تسعى إليها منذ كانت طفلة -كما وضح الفيلم في مواضع متعددة بشكل مبطن- و(براندون) ينظر إليها على أنها الشبح المتجسد لحياته القديمة الذي يذكره بطفولته، بأوقات خلت من الإدمان والمعاناة التي تعيشها روحه المعذبة في كبره، كما يذكره أيضًا بانعدام قدرته على التواصل مع الغير، وبالقصور الواضح الذي يعاني منه في فهم التجربة الإنسانية والحياة بشكل عام واختزالها في جانب واحد منها، ألا وهو الجنس.

وحتى في اختزال (براندون) للحياة في ذلك الجانب، لا يستطيع أن يدخل في علاقات جنسية سليمة، من ذكاء (ستيف ماكوين) أنه حول المشاهد الجنسية في الفيلم من وسيلة للحشو أو لملء فجوات العمل إلى أداة شديدة الأهمية ونافذة نطل منها على خواء (براندون)، فالمشاهد لم تكن مقحمة وحتى لم تكن مثيرة على الإطلاق بالرغم من وضوحها الذي جعل الفيلم يحصل على التصنيف العمري NC-17، كما أن اقتطاعها من الفيلم سيؤثر بشكل سلبي على تجربة المشاهدة بشكل عام، وعلى فهم المشاهد لسيكولوجية (براندون) بشكل خاص. الجنس في Shame أشبه بوثائقيات التزاوج بين الحيوانات، تغيب عنه الحميمية والخصوصية، ويغلب عليه الطابع الميكانيكي، وكأن مجموعة من الآلات المجردة من المشاعر قررت ممارسة الجنس مع بعضها البعض.

اللون الأزرق البارد هو اللون الغالب على مشاهد الفيلم، لينقل مشاعر غياب الحميمية والتواصل بين جميع شخصيات العمل، كما أن أغلب مشاهده تدور في الليل، في ظلام نيويورك الحاضرة بقوة وكأنها شخصية من شخصيات الفيلم، والتي التهمت (ترافيس بيكل) من قبل في Taxi Driver، وها هي تطل من جديد لتلتهم (براندون)، وتماشيًا مع الحالة الميلانكولية التي اتسم بها الفيلم، تعددت مشاهد الكلوز أب لـ(براندون)، فمشاعر الاختناق هي مشاعر ملازمة بشكل دائم لشخصيته، والضيق المرتبط بالكلوز أب يُشعرنا جميعًا بصفتنا مشاهدين، بأن الأرض ضاقت على (براندون) بما رحبت.

تتجلى عبقرية (ماكوين) ليس فقط كمخرج وإنما ككاتب للفيلم أيضًا في أنه لم يجعل من (براندون) شخصية شيطانية، بل قدمه على أنه روح معلقة بين الجنة والجحيم لا تستطيع بلوغ أيّ منهما، مما يسهل من التماهي مع أزمات (براندون) والتوحد مع معاناته وتفهمها، وحتى لو كنت من الذين يحكمون على الآخرين ويختصرونهم في أخطائهم، ستجد بوصلتك الأخلاقية معطلة أمام شخصية (براندون)، وذلك لسببين: الأول أن الشخصية مكتوبة بحرفية عالية قد تجعلك تراها في بعض الأحيان انعكاسًا واضحًا لنفسك، والثاني هو القدرات التمثيلية المذهلة لـ(مايكل فاسبندر)، والتي حولت الشخصية من شخصية مكتوبة لشخصية حية من لحم ودم، نرى منها لمحات إنسانية من آن لآخر تصعب على المشاهد أن يفقد تعاطفه معها، أبرزها كان في مشهد سماعه لغناء أخته ودموعه التي سالت بعفوية من عذوبة صوتها، ليعكس بتلك الدموع شعوره لوهلة أن النشوة لا تقتصر فقط على النشوة الحسية والجنسية، فهناك نشوة روحية تاهت نفسه في سعيها الدؤوب للشعور بها، أداء (فاسبندر) يمكن أن يصنف بسهولة على أنه أفضل وأعقد أداءاته على الإطلاق، ارتقى بالفيلم من مرتبة الـCharacter study الرتيب والتقليدي إلى مرتبة الاستثنائية.

“لِأَنَّ ٱلْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ ٱلرُّوحِ وَٱلرُّوحُ ضِدَّ ٱلْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا ٱلْآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لَا تُرِيدُونَ.” (غلاطية 17:5)

“كل تلك اللحظات ستضيع في الزمن، مثل الدموع في المطر” (روي باتي من فيلم Blade Runner)

تنتهي أحداث فيلم Shame بمحاولة (سيسي) الانتحار بعد أن فشلت في إيجاد أي قنوات للتواصل مع شقيقها وبعد أن وصل احتياجها لوجوده في حياتها إلى ذروته، لتوقظ تلك الفاجعة (براندون) من غفلته، ليهرع باكيًا تحت المطر، بعد أن أودع أخته المستشفى، في رمزية لمحاولة (براندون) التطهر من آثامه، أو ربما التمني بأن يختفي من الحياة وتختلط روحه بالفناء وكأنها لم تكن، كاختلاط دموعه بالمطر.

العار، الترجمة الحرفية لاسم الفيلم، ليس في إدمان الجنس بحد ذاته، هذا المرض ما هو إلا وسيلة استخدمها (ماكوين) لغاية أكبر، ألا وهي سرد معاناة إنسان يقف عاجزًا ومكتوف الأيدي أثناء مشاهدته لنفسه يتحول بالتدريج إلى شبه إنسان تنقصه الجميلة التي ستعيد الوحش بحبها إلى صورته الأولى كأمير مرة أخرى، أملًا في ألا يتحول إلى مسخ يهيم على وجهه ليلًا في شوارع نيويورك بحثًا عن المعنى.

نرشح لك: فيلم «Drive my car»: لا نولَد إلا من رحمِ الخيبات

المراجع

نيويورك التي تبتلع العار

https://www.ida2at.com/shame-movie-empty-staring-dead-man

https://humanities.byu.edu/plato-and-soul-mates/

https://www.rogerebert.com/reviews/shame-2011

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: كريم ايهاب

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا