على حافة المِشْنَقَة (قصّة قصيرة)
“حكمت المحكمة على المتّهم الشابّ الماثل أمام حضراتكم بالإعدام شنقًا في ميدانٍ عامّ ليكون عبرةً لكلّ أمثاله في مجتمعنا، وطبقًا لقانون الحريّات الصادر عن جمعية حقوق الإنسان فإنّ له حقّ طلب أمنية واحدة قبل إعدامه ويوجب على السّلطات تنفيذ رغبته بها. رُفعَت الجلسة.”
طالما كتبتُ نهايات شبيهة بتلك قبل أن أحرق الرواية التي كتبتها، كنت أخاف النهايات المأساوية، كانت تربكني، وكما ترون سيداتي وسادتي، فالقدر لا يحترم مخاوفك بل يوقعك ضحيّةً لها، وأنا عالق بما أوقعتني به مخاوفي الآن. وبالرّغم من ذلك فإنه حقًّا لَشعور جليٌّ أن تحيا أحد تلك القصص التي أرعبتك ليلةً ولم تستطع النّوم بسببها، عجبًا! فلو كنت أملك لكم نصيحة قبل النّهاية فهي ألا تخافوا، أن تترقّبوا تلك الأشياء التي تسلب منكم النّوم، آمنوا أشدّ الإيمان، أنّ ما من شيء يمنع عينًا ساهرةً من الغفو سوى أشدّ ابتلاء ستهوي به في نهاية قصتك.
دعوني أبتعد عن تلك المقدّمة قليلًا، حتمًا قد مللتم.. ولنبدأ بالقَصص الذي جئتم لتستمتعوا به وتستلذّوا بكلّ ما أوتيتم من نشوة في البقاء الأحياء.. قصّة ذلك الشابّ الذي حدّثتْكم الصحف عنه.
“لا يوجد للقصّة بداية تراجيديّة، فهي فقط بدأت… كأيّ حياة وكأيّ فرد نشأ بطلنا الشابّ في أحد حواري بلاد الأمن والأمان كما يقال.. كان حيُّه ذا طابع أثريّ وعادات وتقاليد وجدانيّة لا نزاع فيها.. مثلها مثل الدِّين.. فالدِّين هنا فطرة تولد عليها حتى نسي كلّ امرئ مَن أوّل مَن آمن هذا الإيمان بأجداده أو حتى لماذا، كان الصّبيّ يرى في ذلك بعدًا آخر، جدًّا ذكيًّا مخادعًا؛ استطاع بألعوبة ما إغواء نسله عن سائر الأديان ليتبعوه هو ذاته لا ليتبعوا الإله..
كان بالطّبع يحتفظ بهذه النّظرة الثاقبة لنفسه، فمن المستحيل تقبّلها في هذا الوضع، كان كذلك يحتفظ بكتبه التي كان يأتي بها من مكتبة المدرسة خلسةً في الخفاء في أركان المنزل. نشأ صبيًّا خفيًّا، يُخفي نظراته، يُخفي معرفته، يُخفي حتى أقلامه. كانت المدرسة رديئة ذات طابع حكوميّ بحت، يضفي عليها ديكور -مدام عفاف- الذي لا يفارق معظم المصالح الحكوميّة هنا.. لم يقضِ بها وقتًا سعيدًا لكنّه قضى وقتًا مليئًا بالمعارف، هكذا أنهى تعليمه الثانويّ، بلا علاقة أسريّة، بلا أصدقاء، بلا روح.
وهنا أعلن والده بدء عمله معه في المزرعة المجاورة للمنزل فكفى تعليمًا حتى هذه النقطة، فلننظر للحياة العملية قليلًا. كان الفتى مثقلًا بالروايات العالميّة والقصص الخياليّة فكان هذا يجعله ينظر إلى حديث والده في تساؤل “أحقًّا يرون أنّ هذه التي نحياها تُدعى حياة؟ أحقًّا هؤلاء عقلاء؟ تبًّا.” وافق كأيّ شابّ على هذا الذُلّ بعدًا عن ذُلّ أهله.
وبعد مضيّ ما يقلّ عن شهرين من العمل والشقاء… هرب… خارج حدود الحيّ، ظلّ يبتعد عن مكان ولادته حتى وصل إلى المأمن، وصل الشابّ إلى المدينة حيث يمكث الكتّاب والأدباء، حيث يدرس العلماء، حيث يوجد نزاع حقيقي بين الخير والشر. هذا ما قالته له الكتب.
لكنّه أفاق على مجتمع غوغائيّ آخر؛ ازدحام، فوضى، عشوائية… لا كتّاب، لا أدباء، لا علماء، حتى الخير والشّر لا يوجد لهما معالم هنا. كان يمكث في الشّوارع باحثًا عن أيّ مساعدة، حتى صادف مكتبة المدينة، المكتبة العامّة التي طالما رسمها في خياله كما ذُكرت في الروايات، كانت الشّيء الوحيد المطابق لخياله، كان ينهم كتبَها، لم يستطع أيّ عامل أن يردَّه عن الأرفف. ولكن كان هناك في أحد الأركان رجلٌ مسؤول مشرف على المكان، مُسِنٌّ يكاد الشيب يغطّي عينيه، تحمل تجاعيده الكثير والكثير من الحيوات، لاحظ نهمَ الفتى بالكتب، علمَه المفرط بكلّ كتاب وشغفه بالكتّاب والأدباء والعلماء، فتحدّث إليه وعرض عليه عملًا بالمكتبة نظرًا لخبرته، ولتكون المكتبة مَسكنًا مؤقتًا له حتى يدبّر أموره.
من هنا بدأت الحكاية يا سيدي، من هنا وُلد الولد. كان العجوز وحيدًا جليلًا ذا عِلم، أصرّ على دخول الفتى الجامعة، لكن للأسف كان يُقابَل كلّ يوم بالرفض؛ فالفتى يعرف شيئًا عن كلّ شيء، متعمّق في شيء من الأشياء، لكنّه لا يفلح إلا فيه.. عندها بدأ الفتى يبتكر، يضيف لهذه الفوضى التي ملأت عقله القليلَ من التحضّر والنظام، القليل من الإبداع، فكتب كتابه الأول عن أصول الكون في صورة رواية عن قصة الإله على مرّ العصور.. كان النّقد شديدًا ومع ذلك فقد حاز مكانةً بين الناس.
انقضى العمر، ظلّ الشابّ مع العجوز يرعاه.. حتى جاء أمر الله في إحدى الليالي.. كانت ليلة يصبحها حفلة توقيعه الأولى خارج حدود البلاد، اشتدّ الكبر على العجوز وفارق الحياة تاركًا كلّ شيء للشاب اليافع الذي وبالطّبع خسر أجمل ما كان قد يحظى به من فرص في حياته.
لا يوجد لبطل هذه القصة قصص عاطفية، لا يوجد من يحزن على فراقه في الحقيقة، لا أحد يبالي ببداية أو نهاية الرواية.
وحتى لا أطيل عليكم، فلننتقل لثلاثينياّت الشابّ، ما بعد طيش الشباب وفي ريعان القوة، كتب صاحبنا ورقة بحثية.. يثير فيها شكوكًا في أن تكون الأرض هي محور هذا الكون، كما تشكك وتبحّث في أجرام خارج حدود معرفة البشر، كما أنّه بكلّ تبجّح زاد سطرًا يتساءل فيه إن كان هناك غرباء عنّا في مكان آخر من هذا الكون، بعد كلّ هذه الغرائب، ولحسن الحظّ.. لم تَطِل التساؤلات ولم ترهق ذهنه حتى، فقد نُقل للمحكمة والتحقيق.
وبعد انقضاء عامان في أسوار السجون، حُكم عليه بالإعدام.. الذي كان شرفًا له في قرارة نفسه حقًّا وفخرًا وسعادة، فكلّ هذا الألم وكلّ هذا التفكير سينتهي، كلّ هذا سيذهب للجحيم، لعلهّ يذهب معه أيضًا.. لم تفارق الكلمات أذنه حتى آخر لحظة وهو يشاور القاضي من بعيد، بين القضبان طالبًا منه إعطاءه فرصة حتى يقّص على النّاس قصّتَه الأخيرة قبل أيّة أحكام، وكان القاضي صافي الذّهن، مولعًا بالدماء، فقال:
“حكمت المحكمة على المتَّهم الماثل أمام حضراتكم بالإعدام شنقًا في ميدان عام ليكون عبرةً لكل أمثاله في مجتمعنا، وطبقًا لقانون الحريّات الصادر عن جمعية حقوق الإنسان فإنّ له حقّ طلب أمنية واحدة قبل إعدامه ويجب على السّلطات تنفيذ رغبته بها. رُفعت الجلسة.”
رُفعت الجلسة.. رُفعت الجسلة.. ورُفعت أعمالنا وأوراحنا معها، رُفعت الجلسة، عشاء ديدان الأرض قد طُهي!
الآن صاحبنا يحقّق آخر ما تمنّى، يُلقي قصّته الأمعنيّة على لجماهير، يمحوا ذكرياته، يمحوا عائلته التي لم تعد بعد منذ أن شَبّ، يمحوا العجوز الذي أحبّ، يمحوا الرّفض والتمرّد، يمحوا أفكاره ويمحوا روحه.
ها أنا يا سادة، أمحوا نفسي من الوجود للعدم، لتهنأوا أنتم بالوجود كما وجدتموه وأهنأ أنا بالعدم..
ارفعوا الجلسة.