رواية السيرة الشعبية وإعادة تدوين التاريخ

تعد السيرة الشعبية من أكثر الأشكال التعبيرية في الأدب الشعبي انفتاحًا على بقية أشكال التعبير سواء النثرية أو الشعرية، كما تعد من أكثرها توظيفًا لها؛ ولهذا سأحاول في هذا الموضوع تتبع أهم الأشكال التعبيرية داخل متون الرواية العربية التي استفادت من هذا الشكل وعملت على إعادة تدوين التاريخ من وجهة نظر أخرى.

نشأت السيرة الشعبية في ظروف في غاية الصعوبة، وتحملت الكثير من العناء حتى تتحد مع التاريخ الإنساني للبشرية؛ لارتباطها بحياة الناس، وتاريخهم، وحضارتهم، ونشأتهم الاجتماعية، ومصادر المعلومات الضئيلة التي كانت هي منبع ثقافتهم، حتى انطلقت إلى البحث عن البطولة بأخلاقها المتعارف عليها في ظل الظلم والاستبداد السائد الذي صاحب نشأة هذا الفن الذي يحرص دائمًا على تقديم وغرس مبادئ الحق والعدل في نفوس المتلقين للعمل على تحقيق أهدافه المباشرة في البحث عن النموذج القدوة داخل المجتمع، ولكن كان لا بد من الاستعانة ببعض الفنون التي أضافت لنصوص السيرة المصداقية والقابلية. ولعل أهم تلك العلوم التاريخ، فهناك جزء ليس بالقليل لم يكتبه المؤرخون حيث تجاهلوه دون قصد بسبب بعض العوامل السياسية التي انشغل بها بعض كُتاب التاريخ فأغفلوا الملامح الفردية الإنسانية في التعبير عن أفراحهم، آلامهم، وآمالهم.

فذهبت الرواية إلى تفعيل لغات التاريخ عن طريق إعادة التناول المنقول ولكن في قالب جديد يتسم بمرونة الحكي، ولفتت النظر إلى إمكانية التفكير في سردية منفتحة على لغات وخطابات مركبة، وهي بذلك تتطلع نحو الانتماء إلى سؤال الثقافة والفكر حين تعيد تأمل الواقع التاريخي وتتقصد استنطاق أزمنته وفضاءاته وشخوصه لتكشف عن واقع روائي حافل بقيم وعلاقات قادرة على ابتداع سرود نابضة بالحياة ونابعة من داخل النفوس البشرية.

فالتاريخ من وجهة نظر البعض هو تسجيل لأخبار المنتصرين ومن وجهة نظر أخرى هو رواية لأحداث من زاوية فردية عايشت الحدث وأسبغت عليه رؤيتها الخاصة. ولكن في النهاية يعتبر تدوين التاريخ عملية نسبية ومن الصعب أن يقدم الحقيقة المطلقة. أما الرواية التاريخية التي تتحد مع السيرة تسبح في فضاءات مختلفة في ظل هذا الاندماج الثقافي بين علوم الأدب، لأن المؤرخ في النهاية يعتمد على الحقائق الموضوعية والأسباب والنتائج وعلاقتها بالتاريخ الرسمي الذي لا يستطيع المؤرخ أن ينفذ منها، وعدم وجود حرية خلق أشخاص وأحداث مغايرة كما هو موجود في الرواية.

كما يذكر الباحث والروائي يوسف زيدان أنه لو التزم الكاتب بالوقائع التاريخية بشكل كامل، فهذا يعني أن هذا الكاتب مؤرخ وليس أديبًا. وينبغي أن ندرك أن التاريخ ما هو إلا رواية قدمها أحد الأشخاص من وجهة نظر يمكن أن نتفق أو نختلف معها خصوصًا مع إدراك عملية البحث والتقصي ووجود أكثر من وجه لحقيقة واحدة، فكان لا بد من وجود فن يعيد ترتيب هذه المنظومة برؤى أدبية جديدة، تعمل على الاستفادة من هذا التدوين المُختلَف عليه سلفًا وتوظيفه في استدعاء البطولة، والمتأمل لمتون سيرنا الشعبية العربية يجدها تكتنز كمًا هائلًا من النصوص الغريبة عن بنيتها الشكلية؛ وذلك لأنها مستمدة من أجناس وأشكال أدبية وتعبيرية أخرى.

إعلان

كما أن المرونة التي تميزت بها السيرة الشعبية وبخاصة في ناحيتها الشكلية جعلها تتقبل تلك النصوص تقبلًا فنيًا، وكأنها من جنسها وفصيلتها، وأعطتها طابعًا بنائيًا يسمح بإعادة النظر لبعض الأحداث والشخصيات التاريخية، وإمكانية التفاعل معها في سياق سردي روائي يعيد صياغة التاريخ بما يتفق مع روح البطولة، وإعادة التأهيل النفسي والبشري عن طريق الاستعانة بالتاريخ الحر للإنسانية.

حيث بدأ هذا الشكل بالتطور في روايات فاروق خورشيد في رواية سيف بن ذي يزن سنة 1963، وأيضًا الرواية التي تناولت سيرة علي الزيبق سنة 1967، ثم تطور أيضًا في روايات مالك الحزين لإبراهيم أصلان، والحرافيش وليالي ألف ليلة وليلة لنجيب محفوظ.

اقرأ أيضًا: ملحمة الحرافيش، نجيب محفوظ عن المهدي المنتظر

وقد اتضح من خلال هذه الروايات وغيرها أن الشكل الشعبي في الرواية تداخل بشكل مختلف في البناء السردي؛ أي أنه وازى بين الأبعاد التراثية والمعاصرة في الشكل التراثي بحيث يصعب فصل أحدهما عن الآخر في عملية البناء التاريخي واستدعاء مواقف إبداعية من الماضي يجسدها أشخاص شعبيون تنطبق مع ظروف معاصرة؛ بمعنى تحقق الملامح العامة للتاريخ في الشكل الشعبي دون صدور أحكام مطلقة، حيث حاولت الرواية التي تناولت السيرة الشعبية على ملء الفراغات التاريخية التي لم تدون في السجلات التاريخية، وتحاول أن تعيد العلاقة بين المتن والهامش التاريخي.

وهذه المحاولات فتحت آفاقًا أخرى للمبدعين وهو إعادة النظر لهذه الوقائع وإعادة تأويلها من جديد، ومن وجهة نظر أخرى باعتبار أن هذا أمر إيجابي أن تطلق العنان للخيال والعقل معًا وإعادة الأسئلة حول المسائل الشائكة والمسكوت عنها، لكن هذا لا ينفي أنه من الممكن أن تصبح الرواية تزييفًا لحقائق تاريخية من خلال المبالغة في رسم كل ما هو إيجابي في بعض الشخصيات التاريخية، حيث إنه لا يوجد طريق واحد لمعرفة الحقيقة؛ أي أنه ليس من المفترض على الأديب أن يلتزم بالأحداث التاريخية، ولكن يمكن تخيل أحداث موازية للأحداث التاريخية، وفي بعض الأحيان تكون متناقضة لها، فالروائية الإنجليزية الفائزة بجائزة البوكر هيلاري مانتل عن رواية “وولف هال” فازت لأنها أتت برؤية مغايرة للأحداث التاريخية؛ فهي حولت كل الأبطال إلى أوغاد، والأوغاد أصبح لتصرفاتهم مبرر، كما أن مقرر التاريخ الذي يدرس في المدارس الغربية يعطي الطالب روايات عدة ليتعلم الطالب كيف يتوصل إلى الحقيقة وسط كل المعلومات المتناقضة، ولكن التاريخ عندنا أحادي الجانب على الرغم من عدم وجود فكرة الحقيقة المُطلقة.

تبقى حقيقة في نهاية هذا المقال مفادها أن التفاعل أو تداخل الرواية مع السيرة الشعبية كجزء من التاريخ أعطى قوة ومتانة للسيرة الشعبية، وعمل على مواكبة الحياة الثقافية والإبداعية العربية.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمود وجيه

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا