خَوفُ الأنا الأعلى في عُصَاب الرَّاشِدين 

” إنَّ الخطر الغريزيّ الذي يسعى الأنا إلى الدفاع عَن نفسه ضِدَّه واحد على الدوام، ولكن البواعث التي تَجعل الأنا يرى أنَّ مصدر الخطر هو هذه الاندفاعة الغريزيَّة أو تلك يُمكن أن تَتَباين”.

آنا فرويد: الأنا وأواليات الدفاع

بواعث الدِّفاع: كيف يَحدثُ الصِّراع العُصَابيّ ؟

الأعْصِبَة النَّفسيَّة أساسها الصِّراع العُصَابيّ، والصِّراع يسبِّبُ انغلاق الإفراغات اللازمة، ومن ثَمَّ فهو يُسبِّب حالة من الاحتباس، وهذهِ الحالة تؤدي بالتدريج إلى قصورٍ نسبيٍّ في قُدرة الأنا على السَّيْطرة على الإثارة. أما الأسباب المباشرة للأعْصِبَة النَّفسيَّة، فينبغي النَّظر إليها على أنها صدمات نسبيَّة. فالمثيرات، التي لم يَكن من العسير السَّيْطرة عليها، لو لم تكن هناك هذه الحالة من الاحتباس، تُولِّدُ الآن حالة من القصور النسبيّ.

والصِّراع العُصَابيّ هو على التحديد صِرَاع ما بين ميلٍ يُجَاهِد للإفراغ، وميل آخر يُجَاهِد لمنع هذا الإفراغ. وشِدَّة الميل إلى الإفراغ تتوقَّف، كما أوضحنا، ليس فحسب على طبيعة المثير، بل تتوقَّفُ، وبدرجةٍ أكبر أحيانًا على الحالة الفيزيائيَّة والكيميائيَّة للكائنِ العضويّ. وبصورةٍ عامة يمكنُ اعتبار هذهِ الميول التي تُجَاهِد للإفراغ مُرَادِفَة للمحفزَّّات الغريزيَّة، وفرز الحوافز، بمعنى البت فيما إن كان يُسْمَح أو لا يُسْمَح بإفراغها، هو على وجهِ التحديد وظيفة من وظائف الأنا. وعلينا أن نعلم بأن البواعث الثلاثة الرئيسيَّة للدفاعِ ضِدّ الدوافع الغريزيَّة تشمل: الدفاع خوفًا من الأنا الأعلى، الدفاع جراء خوف فعلي في العُصَاب الطفلي، والدفاع خوفًا من قوة الدوافع الغريزيَّة. وهُنا سوف نُسهب في تفسير الأولى.

تكوَّنُ عُصَاب الرَّاشدين

إنَّ رغبة من الرَّغبات الغريزيَّة قد تتطلعُ إلى الدخولِ في مجال الشعور وإلى الفوز بإشْباعٍ بمساندةٍ من الأنا، وقد يقبلُ هذا الأخير بذلك عن طواعية، ولكن الأنا الأعلى يُبدي اعتراضًا؛ عندئذ يَذعنُ الأنـا للسُّلْطةِ الأعلى، ويدخلُ بامتثالٍ في صِراعٍ مع المُحفِّز الغريزيّ، برغمِ كل العواقب التي يُمكن أن تترتبَ على هذا الصِّراع. والأمر الذي لهُ دلالته هنا، أن الباعث الذي يمتثل لهُ الأنا في نصبه لدفاعاتهِ لا ينبع منه هو، كما أنه لا يعد الدافع الغريزيّ الذي يحاربهُ خطرًا، فهذا الأخير لا يصبح مُنْذِرًا  بالخطر إلا لأن الأنـا الأعلى يمنعهُ من إشباعِ نفسه، وإلا لأنه لو فرضَ نفسه فرضًا لأشعل نار صِراعٍ محتومٍ بين الأنا والأنـا الأعلى. بذلك أنا الفرد العُصَابيّ يَهابُ الدَّوافع الغريزيَّة لخوفهِ من الأنا الأعلى، وتحت  ضغطٍ  من هذا الأخير كذلك يُحرِّك الأنا أواليَّاته الدِّفاعيَّة.

قدّ نجدنا مُنْقَادين هُنا إلى اعتبار الأنا الأعلى قوة مخيفة! وبالفعل، حيثُ يكون في الغالب عِلَّة كل عُصَاب، وزارع الفتنة الذيّ يُعَارضُ كل تفاهمٍ وِدِّيٍّ بین الأنا والدَّافع الغريزيّ. إنه يمثِّلُ مطالب نظامٍ مثاليٍّ يحظر الجنسيَّة ويصمُ العدوانيَّة، وهو يُطَالِب في شططٍ  -أحيانًا- لا يتماشى والصحة النَّفسيَّة، ويجرِّدُ الأنا من كل استقلالٍ، ويُحيله إلى مجرَّد أداةٍ مُنفِّذة لأوامره، قالبًا إياه على هذا النحو، على دوافعهِ الغريزيَّة وحارمًا إياه من كل فرصةٍ للاِسْتِمتَاع.

إنَّ الأنا العليا في الصِرَاعاتِ العُصَابِيَّة -بأي صيغةٍ كانت هذهِ الصِرَاعات- تُدخِل بلا شكٍ بعض التَّعقيد على الصورة، فهي متى قامت تُصبح مسؤولة إلى حَدٍّ كبيرٍ في تقرير أي الإفراغات مُحرَّمة وأيتها مُباحة. إنَّ الأنا الطاردة تعملُ تحت إمرتِها، كما سَبق وذكرنا، ويتجلَّى الصِراع الذي يتحدُ فيهِ كلاهما ضِدّ الهو، حينَ يكون الباعث على الدِّفاع ليس مُجرَّد القلق البسيط بل مشاعر الإثم! 

إعلان

ما الذي يَعنيه تحديدًا “عقاب من جانب الأنا العُليا” أو “فُقدان حُبّ الأنا العُليا”؟

من الواضح أن هذا النوع من الألم الذي يخافهُ الشَّخص، هو الذي يستشعره بالفعل بدرجةٍ أو أخرى، في حالة شعور الإثم بمعنى الكلمة. فالوظيفة التحذيريَّة للضمير تُعبِّر عن ميل الأنا إلى تجنُّبِ آلام مشاعر الإثم الشديدة. فهذهِ الآلام تُشكِّل كدرًا من نوعٍ خاص، يعد تجنُّبهُ هدف الشَّخص ذي الضمير الحي، وكون مصدر الخوف عقوبة واقعيَّة، وكان تصوُّر الجحيم تهديدًا واقعيًّا، فليس هناك بعد ضمير بمعنى الكلمة، لأن الميل إلى تجنُّب العقوبة أو الجحيم لن يختلف عندئذ عن الميول التي تولِّدها إشارات القلق الأخرى. ففي حالة “الضمير” يتحقَّق استدخال الخوف، ويهدِّد الخطر من الداخل. والخوف لا يستشعره الفرد فحسب خوفًا من وقوع شيء مروع داخل الشَّخصيَّة، وإنما أيضًا خوفًا من فقدان بعض المشاعر السارة من قبيل مشاعر الارتياح العام، والحماية، والأمن التي كانت حتى الآن متوافرة، وهذا الفقدان الذي يخافه الفرد يمكن تخصيصه على أنه فقدان قيمة الذَّات، الذي تعد درجته القصوى شعور الانمحاق.

“إن الأنا يَخافُ أن يرى كل تنظيمه يَتهاوى أو يُكتَسح” 

والخُلَاصة، أن الضمير التحذيريّ يقول: “تجنَّب هذا الفعل أو ذاك، وإلا عانيت شعور الانمحاق”. وشعور الإثم بمعنى الكلمة هو بدرجةٍ أو أخرى تجسُّد لهذا التهديد، الذي يمكن أن يُسْتَخدَم بدورهِ لتجنُّب أفعال مُمَاثِلة في المستقبل، هذهِ التي لو حدثت يمكن أن تُزيد من شِدَّة شعور الانمحاق. وشعور الانمحاق هذا ينبغي تخصيصه على أنه توقُّف الإمْدَادات النرجسيَّة، التي كانت تُستمد في البداية من حُبّ شخصٍ خارجيٍّ، وبعد ذلك من الأنا العُليا.

“ما الخطر، الخارجيّ أو الليبيديّ، الذي يَخشاهُ الأنا؟ هذا ما يَستحيلُ تَعيينه. ونحنُ نعلم أنه خوفٌ من هزيمةٍ أو إبادة، ولكن بدون أن يَتوصَّل التَّحليل إلى تحديده”.

سيجموند فرويد: الأنا والهُـوَ 

وتحدو بنا دراسة الدِّفَاعات كما تتجلَّى في أعْصِبة الرَّاشدين إلى أن نُعير انتباهًا خاصًا، في أثناء العِلَاج، لتحليل الأنـا الأعلى. فكل تقليصٍ له، وكل إضعافٍ -إلى حَدٍّ ما- من شأنه أن يُخفِّفَ عن الأنا وأن يَجْلِبَ له، في الصِراع العُصَابيّ، قدرة -ولو معلومة -من التسكين والانفراج. فإن يَكن مرد العُصَاب إلى أنـا أعلى صارم، ينبغي تحاشي كل ما من شأنه أن يُعزِّز تَزمُّته.

  • المصادر:
  • ١. آنا فرويد، الأنا وأواليات الدفاع النفسي، ترجمة جورج طرابيشي.
  • ٢. أوتو فينخل، نظرية التحليل النفسي في العصاب، ترجمة صلاح مخيمر.
  • ٣. سيجموند فرويد، الأنا والهُوَ، ترجمة جورج طرابيشي.
  • ٤. نيفين زيور، في التحليل النفسي.
  • ٥. سيجموند فرويد، ثلاث مقالات في النظرية الجنسية.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: فرح علي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا