حكاية الجاذبية والكون

عندما تسمع كلمة “الجاذبيّة” يتبادر إلى خاطرك فورًا نيوتن وتفاحته الشهيرة، فرغم أن هذه القصة غير موثوقة إلا أنَّها تعد واحدة من أبرز وأشهر قصص العلم المتداولة بين الناس، والتي تتحدث عن سقوط تفاحة على رأس نيوتن في الحديقة جعلته يتسائل متألمًا -ربما- لماذا سقطت التفاحة نحو الأسفل ولم تسقط نحو الأعلى أو إلى الأمام؟

وربما كان سؤاله حينها بديهيًا إلى حد يجعل التفكر فيه أمرًا يستدعي الاستهزاء! فإلى أين تريدها أن تسقط يا نيوتن؟ كل شيء يسقط نحو الأسفل، هذه هي الطبيعة!

لكن نيوتن لم يكن ليؤمن بهذا الجواب فلا بد من أنّ لكل سببٍ مسبب، مما جعله ينكبَّ على دراسة القوة والحركة إلى أن توصل أخيرًا إلى قانونه للجاذبيّة الذي لم يجيب فقط عن قضية التفاحة والأرض بل وصف الجاذبية التي يتعرض لها كل جسم في الكون. وهذا القانون يتعلق فقط بكتلتي الجسمين المتجاذبين والمسافة بينهما (كما في الصورة).

*حيث m تعبر عن كتلة الجسم، و r البعد بين الجسمين المتجاذبين، و G ثابت الجذب العام.

إعلان

وبهذا أثبت نيوتن أنّه وبينما تنجذب التفاحة نحو الأرض فإن الأرض تنجذب أيضًا نحو التفاحة! لكن لماذا لا تتحرك الأرض إذًا نحو التفاحة؟

ضع نفسك مكان الجاذبية، وتخيل لو أنك مثلًا تقف في الوسط بين سيارتك على يمينك وبين ابنك الصغير على يسارك، ثم فجأة قررت أن تشدَّ كلاهما نحوك باستخدام يديك ما الذي سيحصل؟ بكل تأكيد سيندفع الصغير نحوك بقوة وبسرعة، بينما لن تتحرك السيارة قَيدُ أنملة مع أن كِلتا يداك لهما القوة ذاتها. ويفسر هذا بالفرق في العطالة بين الجسمين؛ والعطالة هي مقاومة الجسم لتغيّر سلوكه الحركي من متحرك إلى ساكن أو من ساكن إلى متحرك، وهي تزداد بازدياد الكتلة.

وهذا ما يفسر إذًا لماذا لا تتحرك الأرض نحو التفاحة بينما تتحرك التفاحة نحو الأرض رغم أنَّهُما يتعرضان لنفس القوة، إذ لا مجال لمقارنة كتلة الأرض مع كتلة تفاحة أو حتى أطنان من التفاح.

وإذا تأملنا فيما توصل له نيوتن نرى ما هو أكثر من ذلك، إذ أنَّ كل جسم في الكون صغيرًا أو كبيرًا، ثقيلًا أو خفيفًا، حيًّا أو جمادًا يتعرض للجذب من كل جسم في الكون ويقوم بنفس الوقت بجذب كل جسم في الكون مهما ابتعد أو اقترب منه.

فجسدك مثلًا يتجاذب (يجذب وينجذب بنفس الوقت) مع مجرة اندوميدا ومع إحدى صخور المشتري ومع نملةٍ ما في استراليا ومع جسد ليونيل ميسي في اسبانيا ومع الورقة التي نسيتها على الطاولة، ويمكنك أن تتخيل أنَّ جسدك -كما غيره- محاطًا بقوى تجذبه، عددها يكاد يكون لا نهائيًا إلا أنَّ هذه القوى كلها متناهية في الصغر، وربما لا تُذكر حتى ولو جمعت كلها معًا. وأما أكثر القوى تأثيرًا بنا شخصيًا فهي الجاذبيَّة الأرضيَّة والتي تطغى على أي تجاذب بسيط يحصل بين الأجسام الصغيرة فوقها.
وكان هذا أعظم اكتشافات نيوتن التي أبهر بها العالم، إلا أنَّه لم يستطع تحديد مصدر الجاذبية هذه، وقال إنَّها قوة خفية ثم نسب عملها للرب.

لكن ما علاقة كل هذا بطبيعة الكون وبالزمن أيضًا؟

مرت مئات السنوات قبل أن يصل من يكمل رسم لوحة نيوتن الرائعة هذه، إنَّه دور العبقري اينشتاين، فبعد أن استطاع تحديد سوء الفهم في قضية تطبيق قوانين نيوتن على حركة عطارد؛ والتي ظهر فيها خطأ عمليّ في القرن العشرين، حيث تبين أن مسار حركة الكوكب لا ينطبق مع تنبؤات قوانين نيوتن للحركة، أوضح اينشتاين أن المشكلة ناتجة عن انحناء الضوء القادم إلينا أمام الكتل الكبيرة كالشمس، وهذا بالطبع ما كان قد استنتجه بعد اكتشافه الكبير لـ نسيج الزمكان.

نسيج الزمكان هذا هو شبكة وهمية تغطي الكون كله مؤلفة من أبعاد المكان الثلاثة وبعد الزمن الوحيد، الأمر الذي يثبت أن الزمان مرتبط بالمكان ومتغيرٍ نسبيّ وليس ثابت مطلق كما اعتقد نيوتن.

تبين وفق اينشتاين أن الجاذبيَّة ما هي إلا تأثير الانحناء في هذا النسيج الذي يمكن تخيله كنسيج مطاطي وضعت وسطه كتلة كبيرة ثم بدأت تدور على محيطه كرات صغيرة، فبالتأكيد ستبدأ الكرات الصغيرة بالدوران حول هذا المركز وتتجه باتجاهه وهذا هو مفهوم الجاذبية وفق اينشتاين.


ولقد تبين وفق نسبية اينشتاين أن الجاذبية هذه لا تكتفي بجذب الأجسام نحو بعضها بل إنَّها تؤثر أيضًا في سير الزمن، فإذا كنت في مكان مرتفع الجاذبية فإن سير الزمن سيكون أبطأ من سيره بالنسبة للموجود على الأرض.

فتقول الحسابات مثلًا، أن 40 دقيقة تقضيها على المشتري تعادل ساعة على الأرض، ولك أن تتخيل أن الفرق الزمني سيقدر بسنوات مقابل ساعة واحدة عندما نتحدث عن مناطق شديدة الجاذبية كالنجوم أو الثقوب السوداء.

ومن الجدير بالذكر أن قوة الجاذبية هي واحدة من القوى الأربعة الأساسية في الكون، ورغم أنَّها أضعفها إلا أنَّها الأكثر انتشارًا في الكون حيث تشمل كل جسم بلا استثناء (كما ذكرت سابقًا)، وكما أن مداها غير محدود مهما بعدت المسافات.

وقد نشأت قوة الجاذبية بعد زمن قصير جدًا من الإنفجار العظيم يدعى زمن بلانك (وهو جزء من مليار تريليون تريليون تريليون جزءًا من الثانية!) وذلك قبل أن تنشأ أيّ قوة أخرى، وقد ساهمت الجاذبيَّة حسبما عرفنا فيما بعد بأهم العمليات اللازمة لبناء كوننا ابتداءً بتشكيل الذرات الأولى وليس انتهاءً بتجميع المجرات العظمى، لذلك تدعى هذه القوة السحرية بصانع الساعات الأعمى.

المصادر : 1 2 3 4 5

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بشار منصور

تدقيق لغوي: بتول سعادة

تدقيق علمي: محمد حسنين

اترك تعليقا