“فتح” التنظيم الطائر: هُنا خالدون
في الذكرى الثالثة والخمسين لانطلاقة ثورة الفلسطينيين المعاصرة، انطلاقة المارد الفتحاوي، من جوف اللجوء والتشرُّد والضياع والألم والأحزان. نقفُ اليوم وبكل اعتزاز لنؤكّد أنَّ مسيرة شعبنا الكفاحية التي بدأت مع الطلقة الأولى والعملية الأولى والأسير الأول والشهيد الأول والأمل الأول مازالت تشقُّ طريقها بقوة الإيمان المطلق بحقوقنا الوطنية، ومازالت تواجهُ التحديات وتتجاوز العقبات متمسكة بالإنجازات التاريخية التي كرست لشعبنا هُويّته العربية الوطنية، وحضورَه السياسي والوطني على الخارطة الجغرافية، رافضةً المساومة والمقايضة على قرارها المستقل.. هكذا يبتدئ أنصار حركة فتح خطاباتهم بالانطلاقة وذكراها فأقول عنها ونحن قد دخلنا العام 2018 بصعوبة وكانت 2017 متميزة.
أعتقدُ أنَّ العام ٢٠١٧ كان عامًا فلسطينيًّا بامتياز، فلا تعجبوا أبدًا؛ حيثُ استطاع الفلسطينيون، شعبًا وقيادةً واعيّةً، أن يثبتوا رسوخهم بالأرض، عبر تمكنهم من تكريس الثبات والصمود منهجَ حياة.
لقد أثبت الفلسطينيون قدرتهم على الصمود والتحدي وإن بأقل الإمكانيات، رغم تغوّل الاحتلال ومشاريعه الاستعمارية والأبارتهايدية، فكانت غضبات وهبّات القدس والأقصى منذ العام ٢٠١٤ وحتى العام الفائت، الدلالة الكبيرة على هذا المكون الذي أصبح جزءًا لا يتجزّأ من شخصية الفلسطيني.
لستُ بوارد نسيان أنّ الرسوخ والثبات والصمود كمكوّن وطني أصيل بدأ يأخذ سياقه المنهجي ليس فقط في الخارج حيث انطلقت الثورة، وليس في الضفة والقدس فقط، وإنَّما حيث تصدّى الفلسطينيون في غزّة البطلة بصدورهم وحُبِّهم ومقاومتهم للاعتداءات الصهيونية المتكرّرة، فرسموا في سماء الوطن علامة الحقيقة.
ودعني أقول أن مركَب الشخصية الفلسطينية بعد النكبة عام ١٩٤٨ تشكَّل من عناصر ثلاثة هي: الشخصية المتعلِّمة التي تكوَّنت ضدَّ الأمية والجهل والغفلة واليأس والشعور بالتهميش أولاً، والشخصية الفاعلة العاملة المبادرة التي تخدم نفسها وعائلتها ومجتمعها رفضًا لواقع التشرُّد واللجوء والمساعدات الإنسانية، فنحن شعب مُجِدٌّ ودؤوبٌ، ثُمَّ ثالثًا الشخصية الثورية التي تجلَّت مع بروز وجه الفتح المبين في ظلام واقع الأمة العربية بأنظمتها المتخلِّفة وبشعارات المنظّمات الخلّابة بلا فعل.
ومع تراكم الثلاثية في الخارج حيثُ مخيّمات اللجوء وفي الداخل بدأ الصمود والرسوخ في الأرض يأخذ شكلاً يوميًّا، أي يتحوّل لمنهج حياة لن تستطيع الدبابة أو الجرافة أو الرواية الصهيونية الخرافية أن تقتلعنا ثانية من أرضنا.
كان الشكُّ يُحيط بالكثيرين ويكاد يطيح بهم مع خفوت صوت البندقية سواء في غزة أو الضفة، وقبله من الخارج، وما كان لشكوكهم هذه أن تعطي ثمرها في الشعب الفلسطيني بالخارج أو الداخل لأنَّ اختيار شكل النضال والجهاد والكفاح يُقرِّره الشعب، وفي ظلّ وعيٍ وإدراكٍ وفهمٍ للمعطيات والمتغيّرات، فلا يتوه بين الخيارات، ولا ينجَرُّ للمراهقة السياسية، ولا يعطي العدو أرضَ معركةٍ مفروشةٍ بالراحة ومكوَّنةٍ من معطيات التفوق للعدوّ.
أدرك الفلسطينيون عامل قوتهم برسوخهم وثباتهم ومقاومتهم (ووحدتهم)، وعمقهم العروبي الاسلامي المسيحي الراسخ، فانتصروا بالقدس وفلسطين في جولة وجولات، ومازالت الجولات كثيرة، لكن المنهج قد أصبح واضحًا.
في العام ٢٠١٧ انتصر الفلسطينيون على كلّ أفكار الكُساح السياسي والانكسار التي تظن أنَّ الفلسطينيين لا يمتلكون شيئًا من السياسة إلا رفعَ العقيرةِ بالصياح، ولا مَن يستمعون.
غضبة القدس بين الانحسار أو النصر
نحن بالعمل الدؤوب أسمعْنا حتى الصمّ في العالم العربي والإسلامي، كما أسمعنا العالم الغربي بحراكنا الميداني المقاوم، وبحراكنا السياسي والدبلوماسي المتقن، والذي فهم أن فلسطين ودولة فلسطين والقدس هي الحق بعينه، إذ حين ينظرون بعين القانون والتاريخ والسياسة والقرارات والمنظمات الدولية فالحرية والعدالة والحق إلى جوار فلسطين.
مازال في الأمة من الصُم من يجب أن يسمعوا ويفهموا أنَّ في فلسطين وفي الخارج شعبًا يتقن معادلة الرسوخ والثبات والبقاء والمقاومة في وطنه المحتل.
وشعبًا أتقن فنَّ الاستمرار، ولن يُكرِّر خطيئة لوم الآخرين أو الوثوق بالغير الذين لم يُطعمونا لا خبزًا ولا سكرًا، وهُم مَن توقَّفوا عن سرج الخيول منذ زمن طويل.
نحن الأَوْلى أن نكون طليعة الأُمّة العربية والإسلامية ورأس الرمح، وبنا ومعنا تتعملَق الأمة وتعتلي أسوار القدس وتصدح الكنائس ويقام الأذان ونصلي معًا بإذن الله تعالى.
أمَّا رسالة حركة “فتح” للعام الجديد وحتى النصر المبين بإذن الله، فلا يستطيع إلّا أعمى ألّا يراها وهنا الطامة الكبرى في مُعاقي الأمة، فحركة “فتح” ما كانت فاصلة في التاريخ ولا كانت علامة تعجب.
حركة فتح كانت ومازالت سِفرًا مليئًا بالأفكار والبرامج والقِيَم والتوجهات والمواقف والصراعات والنتائج والحوارات والمبادئ الديمقراطية والسهد والسهر والنزف والتضحية والعقل، والنكوص أحيانًا والعبث والتخلخل والفرقة.
“فتح” آمنت أنَّ النسر لا يطير إلّا بجناحين اثنين، هُما جناح الإيمان بالله وحتمية النصر، وجناح التضحية هي الحركة التي جعلت من الوحدة شعارًا لم تمل من تكراره، وإن دخلت في مراحل من الانتكاسات فستمرّ وتزول ما أن يرفع الغريب يده المبللة بسموم المال والمصالح والشعارات الكاذبة.
حركة فتح” الحركة الرسالية شاء من شاء وأبى من أبى، في رسالتها روح الحضارة العربية الإسلامية، وثقافتها الاستيعابية السمحة لكلّ مكونات الوطن من مسيحيين ومسلمين، ولكل أبناء الأمة العربية بلا تمييز بالعضوية فيها بين العراقي والمصري والمغربي والأردني أو الفلسطيني.
حركة فتح التي عانت كثيرًا من الدلف، إذ كثيرًا ما غرقت بالمياه العادمة التي كانت تُلقى عليها من أصحاب البرامج المشبوهة في الأمة العربية والإقليم، إلّا أنَّها وكما كان يردّد قائد المسيرة الختيار ياسر عرفات كطائر الفينيق تقوم أبدًا من تحت الرماد.
حركة “فتح” التفلُّت والفوضى والإهمال وافتقاد البرنامج والتعارض والمصالح الفردية والانكماش والهزالة والقبح وقلة الحيلة والسوداوية والشكوى والاستبداد والبؤس واللطم والكهرباء الساكنة، والتردد والضعف والغفلة، ومجال الصدمات المفتوح هي حركة “فتح” التي لا نريدها، وإن عشنا بشخوص فيها يمتلكون من عناصر التبعثر والأفول والسوداوية ما لم (ولن) يستطيعوا معه أن يقلبوها أويدمِّروها، ولن يستطيعوا أبدًا.
حركة فتح التي يجب ألّا يتغافل عن رؤيتها مَن يظن بذاته ينشد لفلسطين هي المحطة الأولى في رسم علامة رقم ٧ أي علامة النصر التي اقترنت بياسر عرفات ومازالت فيه واضحة، رغم الكثيرين الذين رفعوها قبله وبعده، ما يؤكد شعار حركة فتح الدائم ثورة حتى النصر الملفَّع بكوفية الأمل.
رسالة حركة فتح التي كرّست بالمقاومة الشعبية والانتفاضات والغضبات والهبّات وجمعات الغضب ومخيمات الصمود هي أنَّ هذا الشعب لهذه الأرض، وهذه الأرض ما عرفت شعبًا سواه..
هذه الأرض هي فلسطيننا منذ ١٠ آلاف عام، والعرب الكنعانيون والعرب الفلسطينيون القدماء والعرب اليبوسيون وغيرهم من القبائل العربية، هي التي أقامت الحضارة وزرعت الأرض بالشجر والحب والثقافة الجامعة، ونحن امتدادها.
هي فلسطين التي حرثت فيها الأرض طولًا وعرضًا حتى عندما جاء الصهاينة ليركبوا خرافة “أرض بلا شعب” اكتشفوا.
مذهولين كما قال أحد مفكريهم الكبار في القرن 19- آحاد هاعام- اكتشفوا أنها على غير الشعار الكاذب الذي حاولوا إيهام العالم به، فهي أرض تنبض بالحياة ومزروعة طولاً وعرضًا، وهي تتحدث بلغة شعبها العربي.
رسالة حركة فتح في مطلع العام ٢٠١٨ أننا من هنا، فنحن المرابطون كما قال عنا الرسول الكريم، وهنا نحن باقون وهنا راسخون وهنا مستمرون.
الفكر والايديولوجية العنصرية الصهيونية، أو اليهودية المتطرفة هي الايديولوجية الزائلة وهنا يكمن الفرق الجوهري في رسالة حركة فتح الإنسانية الديمقراطية الحضارية للعالم، حيث تحتضن الأرض ولا تقبل هدير الجرافات ولا أزيز الطائرات، وترفض العنصرية المتعملقة بالذات اليمينية الإسرائيلية (المدعومة من اليمين الغربي الصهيوني) كما ترفض المستعمرات والمستعمرين في جسدنا وفي عاصمتنا الأبدية القدس.
حركة فتح ميَّزت بوضوح- لا يفقهه الأغبياء أو الأدعياء أو الحاقدون- ميزت بين الوطن والأرض والرواية والتاريخ والجغرافيا حيث تحتضن هذه الخماسية فلسطين التي فيها حيفا ويافا والناصرة والقدس وخانيونس ورفح ونابلس وبيت لحم سواء بسواء، وحيث نسعى لكيان سياسي أو لدولة في حدود العام ١٩٦٧ وعودة اللاجئين والسيادة والقدس، فنحن بالسياسة نبني الكيان المستقل.
يظل الوطن والأرض والتاريخ والحضارة والجغرافيا لا تفرق أبدًا، بل تجمعنا والأمة، أي بكل وضوح فإن التعبئة الفكرية الثقافية والحضارية هي بالارتباط الكلي، فنحن في الداخل والضفة وغزة والخارج شعب واحد لأرض واحدة.
ومهما كانت الدولة بعيدة أو قريبة فهي المدخل السياسي الصحيح للنضال الطويل من بعدها، فلا يتوه أحد بين دهاليز السياسة فيخلط في عقله بين الحضاري التعبوي الايديولوجي وبين السياسي.
معركتنا لا تكاد تنتهي فمازال مشوارنا طويلًا، ويحتمل صعود الأجيال، جيل يتلوه جيل، فإن لم ننجح بالتوحد حول الهدف والغاية واختيار المسلك والوسيلة بقيم المحبة والثقة والبرنامج المشترك، والرسوخ فكيف لنا أن نتوجه للأمة بطلب الدعم والمؤازرة!
نحن من يجب أن يبدأ بنفسه فنكون كما قال قائد المسيرة الأخ أبو مازن في إضاءة الشعلة ومستلهما من الآية الكريمة نحن الصابرون المصابرون المرابطون والله معنا.
مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها