الموروث الإسلامي ورواية “الإسرائيليات”

عندما سطّرت كتابي المُعنوَن بِأساطير اليهود وأرضِ فلسطينَ في القرآن الكريم كان الهاجس الذي يحركني هو حجم الاستغلال لدى العصبة الحاكمة في “إسرائيل” اليوم للغث من المرويات العربية والإسلامية التراثية من جهة، ولقدرة هذه العصبة والمتساوقون معها على غسل دماغ الكثير في الأمة عبر المواقع الصهيونية التي توهم الأمة بصلة ما بين الأقوام والاثنيات والجنسيات المختلفة التي اعتنقت الديانة اليهودية وبين قبيلة بني إسرائيل العربيّة المنقرضة.

وإضافة لذلك فإنَّ استغلالَ المواقع الصهيونية، لا بل وبعض العربية، لآيات القرآن الكريم وتحريفها على عادة كهنة اليهود وادعاء ما لا يستقيم، جعل البحث في رفض التأويلات والتفسيرات المنحرفة التي تُنشَىء حقًا لأقوامٍ متنوعةٍ اعتنقت الديانة اليهودية بأرضنا ولا صلة بين هذا وذاك، فكان الكتاب والذي أشرت فيه لمدى تغلغل “الإسرائيليات” في متون بعض الأحاديث وفي تفاسير القرآن الكريم.

وإلى ذلك وإثر عثوري على كتاب الشيخ محمد حسن الذهبي الثمين عن الإسرائيليات في التفسير والحديث، فلقد لخصتُ أبرز ما فيه وذو صلةٍ بالتحريف والمتون الإسرائيلية بالتفاسير للقرآن وذات الصلة بفلسطيننا وقضيتنا كما نورده هنا، ثم اتْبعتُ ذلك في المقال هذا نقاشًا حول آية التفضيل لبني اسرائيل القدماء المنقرضين.

الشيخ الذهبي و الإسرائيليات

خلاصة القول في حكم رواية الإسرائيليات  كما يقول الشيخ الذهبي[1]:” إنَّ ما جاء موافقًا لما في شَرْعِنَا صدقناه، وما جاء مخالفًا لما  في شرعنا كذبناه وحَرُمَتْ روايته إلّا لبيان بطلانه، وما سكت عنه شرعنا توقفنا فيه”.

أمّا عن الروايات والأخبار والتاريخ والقصص؛ فيقول  بعد تجويز روايته  عنهم أنَّ “روايته ليست إلّا مجرد حكاية له كما هو موجود في كتبهم أو كما يحدثون به بصرف النظر عن كونه حقًا أو غير حقٍ”، ويقول ابن تيمية أنَّ الأحاديث الإسرائيلية تذكر “للاستشهاد وليس للاعتقاد”.

إعلان

ويقول الشيخ البقاعي أنَّ المقصود بالنقل عن بني إسرائيل؛ أي نقلُ قصصهم ورواياتهم عن التوراة فقط لغرض “الاستئناس لا الاعتماد”[2]

وفي النقل عن اليهودي عبدالله بن سلام الذي أسلم لاحقًا يقول الشيخ الذهبي: “لا نُزَيّفُ كل رواية ولا نقبل كل رواية، بل علينا أنّ نعرض كل ما يُروى عنه على مقياس الصحة المعتبر في باب الرواية، فما صح قبلناه وما لم يصحّ رفضناه”[3]

ويشير الكاتب مخالفًا إلى أن أحمد أمين والشيخ رشيد رضا [4]يرميان كعب الأحبار ووهب بن منبه اليهوديان اللذين أسلما، ويُنسب لهما الخلط بروايات الحديث والثقافة اليهودية بالكذب، وبالإشارة خاصة لما ينقلانه عن التوراة وهي المحرفة. حيث يدافع الشيخ الذهبي في كتابه هذا عنهما فيقول عن كعب الاحبار أنه مظلوم وهو: “ثقة مأمون وعالم استغل اسمه فنسب إليه روايات معظمها خرافات وأباطيل لتروج بذلك على العامة ويتقبلها الأغمار من الجهلة”[5]

ونضيف مما ننقله عن كتاب الشيخ الذهبي أنه في تفسير الطبري الكثير من الاخبار والقصص الإسرائيلية، وكذلك الأمر في تفسير ابن جرير الذي يحتوي أباطيل كثيرة[6]

أما ابن كثير ففي تفسيره الذي يحوي من الإسرائيليات الكثير إلاّ أنّه يتعامل معها بحذر: “فينبه على ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات وغرائبها، ويحذر منها عامة”[7]

ويشير الذهبي أيضا إلى أّن ابن كثير مؤرخ “والمؤرخون يتساهلون في نقل الأخبار ويجمعون في كتبهم الغث والسمين”! وفي هذه العبارة والشهادة من الشيخ الذهبي ما يدعونا للتمحيص بالقبول أو الرفض، وهو الأفضل بشأن التعامل مع المرويات الإسرائيلية التي تحف بها كتب التفاسير خاصة ونحن اليوم في صراع مع أباطيل جديدة من أممٍ وقومياتٍ تدّعِي امتلاك بلادنا فلسطين، ويحاول إعلامها أن يستغلّ بعض تفاسير القرآن للإشارة لملكية هذه الأقوام لفلسطين أو أي بلد آخر، أو ادعاء الانتساب للقبيلة العربية اليمنية المنقرضة، أو بِليِّ أعناقِ الكلمات، خاصةً وأنَّ العوامَ من الناس يقرأون القرآن دون تمحصٍ للمعاني ولا للغة العربية.

وحين يشير الشيخ الذهبي لتفسير مقاتل بن سليمان الخراساني،[8] وتفسير الثعلبي فإنه يحذر منهما ففي الثعلبي كتاب “شامل للخرافات والأباطيل ” وهو تفسير “مشحون بالأكاذيب والأباطيل ومليءٌ بالقصص الاسرائيلية، وهو مُوْلَعٌ بالخرافات والغرائب والأعاجيب”[9] وهي مما يستهوي الناس.

وينتقل الشيخ محمد حسين الذهبي لتفسير الآلوسي فيقول أنه “أشد الكتب نقدًا للإسرائيليات وعيبًا على من توسعوا في أخذها وحشوها في تفاسيرهم”[10] أمّا تفسير الشيخ محمد رشيد رضا فهو أشد المفسرين إنكارًا للإسرائيليات و”أعنفهم على من خدعوا بها وروجوا لها”

وفي ختام كتابه الهام يدعو لتنقية كتب التفسير من الإسرائيليات في ص 167 حيث يقول فيها: ” كتب التفسيرقد حَوَت من الإسرائيليات كل عجيب وعجيبة، واستوى في ذلك تفاسيرُ المتقدمين والمتأخرين والمتشددين والمتساهلين على تفاوتٍ بينهما في ذلك وقلةٍ وكثرة” ص169

مضيفًا أنّ كل التفاسير فيها جانب الخطورة على عقول المسلمين وعقائدهم، مشيرًا بالتخصيص لابن جرير وابن كثير، لذا يرى المهمة بتحرير كتب التفسير من الإسرائيليات وأن يصدر مجمع البحوث الإسلامية تفسيرًا خاليًا من الإسرائيليات والأباطيل، ويعمم نشره في جميع الأقطار.

إنَّ كل ماذكرناه سابقًا من إشارات وردت في كتاب عالمٍ جليلٍ [11] هو فقط للتدليل على ضرورة رفض المرويات والإخباريات الإسرائيلية التي حَفِلَ بها سِجِلُّ تاريخنا العربي والإسلامي، والتي يحاول البعض أنْ يُحَرِّفَ بها الأحاديث الشريفة، ومعاني كلمات القرآن الكريم خاصةً فيما يتعلق بقصص قبيلة بني إسرائيل، القبيلة العربية المنقرضة، ومحاولاتِ إسقاط قصص القرآن التي جاءت للعبرة والعظة والحكمة فقط – على أقوامٍ انقرضت وليس لإثبات حقٍ عنصريّ أو تاريخيّ- على تاريخ وجغرافيا اليوم وما هو إلّا خرافات وأباطيل وأكاذيب.

ونختم في تقديم الشيخ عبدالحميد السايح لكتاب د.رمزي نعناعة حول الإسرائيليات في كتب التفسير إذ يقول ص 5أن: “الإسرائيليات وضعت في ثنايا التفسير لتوضيح بعض الآيات القرآنية، وهي دخيلة على الإسلام ومنافية لتعاليمه، ومصادمة لبعض قواعده وسموّ أهدافه”، وهي كذلك فيما يتعلق بالعقيدة، فكيف وتلك التي تتعلق بالتاريخ والقصص التوراتي الممتلئ بالخرافات والأكاذيب والأباطيل؟

إنَّها كومةٌ من القش تذروها الرياح لا قيمة لها، إلى جانب أنّ العلم الحديث ينكرها، بل وينكر الاستناد للتوراة ككتاب تاريخ معتبر.

بني اسرائيل والفضل

وفي ضوء ما سبق وفي سياق الوعي والإدراك دعونا نرى حكمة الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، وفي قصة قبيلة إسرائيل حيث  يقول الله تعالى في سورة البقرة بخطاب لقبيلة بني اسرائيل العربية اليمنية المنقرضة (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)) والتفضيل هنا بمعنى (خصّكم) على عالمي زمانكم المنقضي فقط ،بكثرة الأنبياء وبما أُنزل عليكم من كتب، وتفضّل عليكم سبحانه بالهداية، وليس معنى التفضيل كما يفهم السُذّجْ أو كما يقول التوراتيون بأنَّها أفضلية للقبيلة أو العرق مطلقًا -أي عنصرية بغيضة، حاشاه- أو ما يسمونها خَبَالًا “شعب الله المختار”، وما يتنافى مع التقوى عند الله والتي هي مقياس الإكرام لأي شخص أو فئة عند الله.

وفي موضع آخر في سورة آل عمران تبدو الصورة جلية فالفضل من الله تعالى إذْ يقول في الآية74: “يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” ويقول قبلها: “إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”.

يكذب كهنة التوراة وبني إسرائيل المنقرضين، فهم كما قال الله عنهم “باؤوا بغضبٍ على غضب”و هما غضب الجحود بالرسول وغضب تحريف التوراة وتزييفها، فأنّى تكون شخوصهم أو قبيلتهم هي المفضلة؟!  وكيف نجيز لِأنفسنا النقلَ عن قصصهم وما هي إلّا خرافات وأحلام وآمال؟!

والقبيلة العاصية هي من قال سبحانه فيها أيضًا “استكبرتم”، و”قالوا قلوبنا غلف-أي مغلقة عن الإيمان”، فحكم الله عليهم بالقول “لعنهم الله بكفرهم، فقليلا ما يؤمنون) (البقرة88)؛أي أنهم مع ما فضّل (خصّ) الله عليهم بكثرة الأنبياء لدعوتهم للحق إلاّ أنّهم ظلّوا مستكبرين جاحدين كاذبين، ومن هنا جاءت التوراة مليئة بالأساطير والخرافات والأكاذيب والأحلام والآمال لا سيما وأنَّها كُتبت بعد مئات السنين.

كهنة الديانة  اليهودية كانوا محرفين للكتاب مزورين-إلّا من رحم ربي من القبيلة أو القبائل الأخرى المعتنقة للديانة فآمن بالتوحيد- فحق عليهم الغضب واللعنة.

وبالطبع -نقول نحن- ومن يسير على درب مُزَوّرِي وجاحديّ هذه القبيلة المنقرضة العاصية من أي ملة أو قومية يحق عليهم لعنة الله وغضبه.

أي أنّ كثرة ذِكر قبيلة بني إسرائيل كان للعبرة والحكمة وأمثولةٍ لكل ظالم وجاحدٍ وكاذبٍ وعاصٍ في كل زمان ومكان رغم انقراض قبيلة بني إسرائيل كما انقرضت عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح.

وفي قول آخر حول التفضيل في البقرة يقول تعالى عن ابراهيم وبنيه ويعقوب “اسرائيل” وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) فالاصطفاء والتفضيل والإكرام مرتبط بالدين والتوحيد والإسلام لله.

 

 

 

تدقيق- فاطمة الملّاح

[1]  الشيخ د.محمد حسين الذهبي في كتابه "الاسرائيليات في التفسير والحديث"، القاهرة مكتبة وهبة، دون تاريخ نشر وذلك ص52

[2]  المصدر السابق صد54

[3]  المصدر السابق ص 69

[4]  المصدر السابق ص 80-81

 المصدر السابق ص 82[5]

[6]  المصدر السابق ص97 وص100

[7]  نفس المصدر ص107

[8]  نفس المصدر ص110[

9]  المصدر السابق ص123-124

[10]  المصدر السابق ص 136

 [11] وللتوسع يمكن الرجوع أيضا لكتاب د.رمزي نعناعة،الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير،دار الضياء، بيروت، 1970

 

إعلان

اترك تعليقا