بائع الجوافة

“بكّري عشان ربنا يبارك لنا”، كانت تلك نصيحة “مدام إلهام” صاحبة محل مستحضرات التجميل الذي أعمل به، حتى تزداد مبيعاتنا، وتزداد بالتالي -على حد قولها- نسبتي من الربح.

كانت سيدة غريبة الأطوار، تهاتفني في السادسة صباحًا حتى أستيقظ، ثم تُرسِلُ لي أدعيةً بصوت شيخٍ غير معروف، وتطلب مني أن أقوم بتشغيلها فور أن أقوم بفتح المحل.

“من هذه التي ستستيقظ لتشتري روچ في السابعة صباحًا يا مدام إلهام!” بالطبع لم أستطِع أن أُخبرها بذلك؛ فأنا أعمل معها منذ شهرين فقط.، لا أُخفي أنني أحب المكوث في العمل أطول وقتٍ ممكن؛ فليس لدينا في المنزل مبرد للهواء!

ارتديت ملابسي، ووضعت أحمر الشفاه الوردي الذي أهدتني إياه “مدام إلهام” بعد أن كسرته إحدى العميلات. أخذتُ قداحة أخي، أشعلتها، ولففت النار حول أحمر الشفاه، فالتَأم جرحه، وصار كالجديد تمامًا، حيلةٌ قد رأيتُها سابقًا في إحدى الفيديوهات على الإنترنت. أخذت فطوري الذي أعدته أمي وذهبت إلى العمل.

كان يومًا عاديًا، بخلاف الجَمع الذي تحلّق حول “تروسيكل” يقوده شابٌ في مطلع العشرينات، يبيع الجوافة القشطة “بعشرة جنيه الكيلو يا مدام، الاتنين كيلو بعشرين جنيه، يا معسلة يا جوافة”، هكذا أخذ يصيح وتتجمع النساء حوله أكثر وأكثر.

بحلول العاشرة، كان قد انتهى بائع الجوافة من بيع بضاعته. كنتُ أتابعه باهتمامٍ غريب، هذا الشاب يمتلك شيئًا يجذبك رغم هيئته الرثة. كان يرتدي بنطالًا مُرقّعًا من القماش، وقميصًا مفتوحًا فوق تيشيرت ساده، وتفترش وجهه بقعٌ سوداء من أثر الشمس والحرارة.

إعلان

انتهى بائع الجوافة من رص الأقفاص الخشبية والقُفف الجريدية؛ التي كان يضع بها الجوافة داخل بعضها. ركب “التروسيكل” ووقف به تمامًا أمام المحل، ثم دخل. طلب مني زجاجتين من المانيكير، وقلم تحديد للعيون، ومصحح للحواجب.

وأخبرني أنه يشتريها لأخته الصغيرة؛ فقد أوصته أن يشتري لها هذه الأشياء التي لا يفهمها؛ لأن ما لديها قد نفد، وغدًا أول أيامها في الجامعة، وقد سُرّ لأنه رأى محلنا مفتوحًا؛ فمحلات مستحضرات التجميل لا تفتح -عادةً- في هذه الأوقات الباكرة.

في اليوم التالي، فتحت المحل في السابعة كما أوصتني “المدام”.

نثرت معطر الجو في الهواء، بعد أن قمت بكنس الأرض، وتنظيف الزجاج. وجلست أرقب المارة.

أتى بائع الجوافة باكرًا اليوم، وانتهى من بيع جوافته، وغادر مُخلِّفًا وراءه هدوءًا لذيذًا.

بنهاية الأسبوع بدأ يخفت نجمه، ولم تعد النساء تتحلق حوله كالأيام السابقة، ظللت أراقبه، وأراه يرص جوافته في تناسقٍ بديع. القفص الخشبي ممتلئ عن آخره، ويرص فوقه الجوافة على شكل هرم، يضع كمية فوق القفص، ثم تتناقص الأعداد في كل صف، وصولًا إلى واحدة تتربع على عرش القمة. وقبل أن يضع الواحدة في الصف، يقوم بمسحها بقميصه الذي أصبح خرقة بالية من الطين. لا أهتم عادة بالباعة المتجولين فما أكثرهم، وأردت أن أتوقف عن متابعة هذا الشاب، الذي لا أعرف حتى اسمه، لكنني لم أستطع.

بعد أن يبيع بعض الجوافة، يعيد رصها من جديد، دون كلل أو ملل.

وفي نهاية اليوم، يقود التروسيكل عائدًا إلى منزله. ظل على هذا الحال ما يقارب الشهر.

أنا لا أحب الجوافة، لماذا ذهبت لأشتري منه؟!

– عاوزة نص كيلو جوافة، ونقيها لي على ذوقك.

– ماتاخدي كيلو إلا ربع بخمسة، الجوافة رخيصة النهاردة، وبكرة هاتيجي تشتري مني بعشرة. يكون في علمك، دي جوافة أرضنا، مالهاش زي يعني.

مزحة ثقيلة الظل -إن خرجت من بائع آخر- لكنني ضحكتُ حتى خجل من ارتفاع صوت ضحكتي.

– لعلمك أنا مابحبش الجوافة، بس أما نشوف جوافتك اللي مالهاش زي دي.

– هو حد ما يحبش الجوافة يا أبلة! دي قشطة.

– هنشوف.

عدت إلى المحل وأكلت الجوافة، وأكلت الجوافة، كلها!

لقد كان محقًا!

لقد التهمتها كلها، دفعة واحدة!

لم أدرِ هل أكلتها لأنني أحببتها أم أحببت صاحبها!

ماذا؟ صاحبها؟

ماذا سأقول لصديقاتي؟ أحب بائع جوافة؟ سأصبح مثار سخريتهم إلى أن يشاء الله.

لا لا! لا يمكن أن يُعقل هذا.

في اليوم التالي وجدتني أندفع بغير إرادة مني إلى شراء المزيد من الجوافة. فقط لأتحدث إليه؛ فصوته يفعل شيئًا بقلبي، لا أستطيع أن أصفه!

ظللنا على هذا الحال.

هو يشتري مستحضرات التجميل إلى أخته متى احتاجتها، وزادت حاجتها مؤخرًا!

وأنا أشتري الجوافة التي أدمنتها.

شهر نتبادل فيه الحديث القصير الجميل المقتضب، وكأننا نستقطع وقتًا من العالم لنا، لنا فقط..

– نقي لي وحياة أبوك تلاتة كيلو جوافة أحسن حكيت لماما عنها وقالت لي هاتيها أما أجربها، وأنت بتعرف تنقي الجوافة أوي بصراحة.

– مش الجوافة بس وغلاوتك.

قالها واحمرت وجنتاه -كانت المرة الأولى التي أرى فيها شابًا يحمر وجهه عند الحديث لفتاة! ثم حدث ما كنت أقرأه في الروايات! خيّم علينا صمتٌ محرج، لم يقطعه سوى قوله: “دول التلاتة كيلو للحاجة، ودول بقى نص كيلو، طبعا عارفة علشان مين، النص كيلو دا بقى بره الحساب، تقدري تعتبريه تذكار مني؛ لأن دي آخر جوافة السنة دي، وماعدتش…..”

لم أسمع ما قاله بعد ذلك.

مرت ثلاثة أشهر، ومدام إلهام تتصل بي أسبوعيًا؛ لتعرف مني لماذا تركت العمل، كانت تقول كل مرة أنني أزورها في المنام، وأصرخ فيها أنّها ظلمتني، قالت كذلك: أنها المرة الأخيرة التي تهاتفني فيها، فهي تريد أن تعوضني عن ذلك؛ حتى لا أقتص منها يوم القيامة. فأخبرتها أنني أحببت الجوافة.. كثيرًا. لكنها لم تفهم، وأغلقت الخط!

نرشح لك : المومس والقدّيس قصة قصيرة

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دعاء عبدالمنعم

تدقيق لغوي: محمد جمال رياض

تدقيق علمي: دينا سعد

اترك تعليقا