الكنيسة والحداثة: قصة سوء تفاهم طويل -مترجم-

محاربة الحداثة، هي أكثر تُهمة وُجهت للكنيسة الكاثوليكية، أكثر من أي تهمة أخرى. وهي تُهمة مًستحقة بالنظر إلى التاريخ، لكنها غير مبررة بما يكفي منذ المراجعات المؤلمة التي عرفها القرن الأخير. فبعد مقاومة طويلة، انتهى الأمر بالكنيسة إلى المصالحة مع العصر الحديث، خاصة إبان مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965). اليوم، وبغض النظر عن الأضرار الناجمة عن تعنتها السابق، فقد ظفرت الكنيسة عمومًا بمكان محترم لها داخل العصر.

سنة 1600، تم حرق عالم اللاهوت، جوردانو برونو، لدفاعه عن أطروحة كوبيرنيكوس في دوران الأرض حول الشمس. سنة 1633، سيضطر جاليلي، عالم فلورنسا الشهير، إلى التخلي عن اكتشافاتها التي تهدد معتقدات الكنيسة القائلة بدوران الشمس حول الأرض. مع الوقت، أصبحت هذه القضايا رمزا للمواجهة بين الإيمان والعلم.

وعلى إدانة الإصلاح البروتستانتي لفضائح روما، سترد الكنيسة بمزيد من المركزية، والإخضاع للعقيدة. حتى أن “الإصلاح المضاد” أصبح ذريعة لاضطهاد جديد للمهرطقين، وحروب دينية، وغزو كاثوليكي جديد دون مراعاة حقوق الأقليات، والشعوب الأصلية.

ترى سلطات روما في الأنوار والثورة الفرنسية، أمورا من صنع الشيطان. لأنها تقطع مع النظام الطبيعي للعالم، ومع الوحي المسيحي، ومع سلطة الأمير، وكذلك مع عصمة البابا. جريمتهم تكمن في محاولتهم تعويض الواجبات تجاه الله بحقوق الانسان. كل تاريخ القرن التاسع عشر والثورات اللبرالية (1830,1848)، وتقدم الأفكار الديمقراطية والاشتراكية، يُمكن اختزاله في هذا الصراع: الله أو الحرية، الخضوع أو التمرد.

الكنيسة الكاثوليكية اختارت معسكرها. كل الباباوات (باستثناء بيوس السابع الذي قاوم نابليون) كانوا ملوكا مُطلقين، يصمون آذانهم عن تصدع العالم، وحُكّام “مُتعنتين” لا يعرفون سوى التقليد والسلطة، التعبد والاذعان، وكذلك الاحتشاد حول روما الخالدة والمُقدسة. يرفضون كل تسوية مع الأفكار اللبرالية والثورية والوطنية والحديثة، ومع كل أشكال حرية الضمير والفكر والصحافة واللائكية.

إعلان

العداء للحداثة

إذا كان القرن السابع عشر قد عرف قضية جاليلي، فالقرن التاسع عشر قد عرف “منهج الأخطاء”، تلك القنبلة المذهبية التي ألقاها بيوس التاسع، سنة 1864، في وجه ” كل أخطاء العالم الحديث”. بعد فترة وجيزة من ذلك، وبالضبط سنة 1870، سيمنح مجمع الفاتيكان الأول للحكم المطلق الكنسي عقيدته الجديدة: “عصمة البابا”.  ففي الوقت الذي فقد فيه سيد روما سلطته الزمنية على الولايات الباباوية المُكتسبة على حساب الملكية الإيطالية، أحكم البابا اقفال سلطته الدينية وانسحب خلف أسوار الفاتيكان.

أمام هذه الوضعية الجديدة المتمثلة في بابا “سجين”، تضاعف عداء الكنيسة للحداثة، رغم القوس اللبرالي الذي فتحه ليون الثالث عشر (1878-1903). في بداية القرن العشرين، تمت إدانة كل مبادرات الديمقراطية الاشتراكية، كتلك التي كانت في فرنسا باسمLe sillon من إنشاء مارك سانيي Marc) (Sangnier. لكن الكنيسة قد كابدت التحديات التي وضعتها النزعة الوضعية والعلمية في وجهها. لقد جاءت “أزمة الحداثة” نتيجة صدام حاد بين التقليد الذوغمائي والطفرات التي عرفها مجال التأويل التاريخي والنقدي.

أما البابا بيوس العاشر (1903-1914) الذي ترعرع على قراءة “منهج الأخطاء”، فقد أدان كل تشكيك للعلم في أصول المسيحية.  “الحداثة”، ها هو العدو! تم إدراج الكاهن الفرنسي ألفريد لواسي ضمن القائمة السوداء، وكان ذلك مصير كل المفسرين الذين لم يمتثلوا لتعاليم السلطة الكنسية. الكثيرون خضعوا، لكن كم من واحدا عان من أساليب التفتيش! قساوسة ومُدرسين ستتم مراقبتهم ومطاردتهم من قبل شبكة من أشباه الجواسيس تشتغل لصالح الفاتيكان.

ثورة مجمع الفاتيكان الثاني

في مطلع سنوات الستينات، سيتعزز معجم الكنيسة: “الربيع جديد”، “التحديث(Aggiornamento)”، “علامات الأزمنة”. بعد نهاية فترة ما بعد الحرب، ستعرف الأوضاع انفراجة واضحة مع الرئيسان كينيدي وخروتشوف. الحاجة أصبحت ماسة إلى جو من التحرر في كافة مناحي المجتمع وستعرف أوجها في سنة 1968.

بعد فترة التشاؤم اللاهوتي والسياسي الذي هيأ الجو لحروب الكنيسة الطاحنة على الحداثة، حل نوع من الثقة الجديدة. مُثقفون كبار تتلمذوا علي يد تشارلز بيغوي، من قبيل بول كلوديل انبروا من أجل مصالحة المسيحية مع العصر. كما أن علماء لاهوت من أمثال هنري دي لوباك، وايف كونغار، وماري دومنيك شنو، فتحوا الطريق أمام الكنيسة من أجل الإصلاح والتقارب المسكوني. هم أيضا كانوا مراقبين وتعرضوا للعقاب، لكنهم ظلوا ينتظرون الفرصة السانحة.

وجاءت الفرصة سنة 1958 بانتخاب بابًا عجوز للكنيسة، هو أنجيلو رونكالي. صحيح أنه كان يملك تجربة متوسطة في الجانب الدبلوماسي، لكن بحدس مرهف لما يعتمل في عصره من تحولات. وتحت صدمة العالم أجمع، أعلن عن تحديث (Aggiornamento) للكنيسة، واستدعى مَجمعا يتعين عليه رفض كل إدانة مذهبية جديدة وتطوير نظرة أكثر وثوقية للمجتمع الحديث. كان ذلك منعرجا مهما.

خلال ثلاث سنوات (1962-1965)، قلب الفاتكان الثاني وجه الكاثوليكية، جَدَّدَ خطاب الكنيسة وطقوسها وطريقة حُكمها، وجعل دراسة النصوص المقدسة في مركز اهتمامها. لأول مرة في التاريخ، ستعترف الكنيسة بأولوية الضمير وحرية كل إنسان في اختيار دينه. كما فُتح حوار مسكوني بين “الإخوة المُنفصلين”، البروتستانت، والأنجليكان، والأرتودوكس. وبعد قرون طويلة من نبذ الأديان غير المسيحية – اليهودية، الإسلام، البوذية، الهندوسية – حلَّ الاعتراف.

إذا هو تغيير جدري أغضب الأقلية المتشددة التي كانت حول مارسيل لوفيفر. لكن البابا بولس السادس، الذي خلف يوحنا الثالث والعشرون الذي توفي قبل انقضاء المجمع، ظل ثابتا. وقد قام بتبني كل الإصلاحات وأرسل في يوم اختتام المجمع (8 دجنبر 1965) رسائل مُطمئنة للعالم أجمع، لكل الحكام، والمثقفين، والعمال، والفنانين، والنساء، والمرضى، والشباب. أخيرا دخلت الكنيسة إلى العصر.

[في انتظار دخول الإسلام].

——————————————–

(الجملة الأخيرة هي أمنية المُترجم).

Sciences Humaines, Grands dossiers Hors-Série n°5- décembre 2016- Janvier Février    2017

إعلان

فريق الإعداد

ترجمة: يوسف اسحيردة

اترك تعليقا