الكذبة

لطالما تمّ اكتشاف مكتبات سريّة في أرجاء مختلفة من العالم، مكتبات تحوي مخطوطات تاريخية ذات أهمية كبرى لما من حقائق بين جفونها، ولعلّ الغالب في هذه المكتبات أنّها تعود لمنظّمات أو هيئات تشكّلت في سياق تاريخيّ محدّد، سواء ممّن يطلقون مصطلح التنوير على أنفسهم أو مصطلح الكنيسة أو الفرسان… الخ.
هذا هو النمط السائد، لكنّ المكتبة التي أنا بصدد الحديث عنها، قطعًا من طراز خاصّ، لا من حجم المصنّفات داخلها، بل من جودتها.
تمّ استدعائي كخبير في هذا الباب، لتحديد القيمة التاريخية للوثائق التي تمّ العثور عليها في سكن قديم مهترئ، ربما يعود لمائة عام أو أكثر، في منطقة منعزلة جبلية شديدة البرودة، ويبدو أنّ صاحب المنزل قد دُفِن بجانب منزله هناك، ربما عثر عليه أحدهم، أو له أصدقاء قلائل مقربون.. أيًّا ما يكن، ما أثار الانتباه داخل هذا المنزل هو مكتبة مكوّنة من قسمين، الأول يحوي كتبًا لشخصيات مختلفة، أما القسم الثاني فهي كتب مؤلفة ومكتوبة بخطّ اليد. للوهلة الأولى يظهر أنّها من جهد صاحب المنزل المدفون هناك، لتوفّر تطابق بين أسلوب الكتابة في المصنّفات وبين بعض الرسائل المتواجدة، هي بعد التحقيق رسائل متبادلة بين صاحب المنزل وبين صديق آخرٍ لا اسم له مذكور، مجرّد توقيع في نهاية كلّ رسالة مع ختم صغير.
إنّ أهمية هذه الرسائل تشرح حقيقة مهمة سأقول أنها صادمة قليلًا، بل رسالة خاصّة بذاتها هي التي تثير لغزًا كبيرًا عجيبًا، رسالة تفكّ هالة من اللافهم حول تلك المصنفات المخطوطة بخط اليد، وقبل أن أنقل نصّ الرسالة هنا، أعمد بدءًا إلى تقديم صورة واضحة حول تلك المصنفات المخطوطة بيد صاحب المنزل:
إنّ عبارة “التاريخ يعيد نفسه” كفيلة بخدمة المعنى الذي أشير له، فلقد ثبت للإنسانية ككلّ إمكانيةُ اكتشاف الحقائق العلمية والنظريات الفلسفية من طرف عدة أشخاص من غير أن يكون بينهم أدنى تخابر أو تواصل، ولا يشترط ذلك أن يكون في مدة زمنية هي ذاتها بالنسبة للشخصين أو لهؤلاء الأشخاص إن كانوا كُثُر، حتى قد تكون بينهم مسافة قرن أو قرون.. وإنما لموانع محددة لم يتم الالتفات، إنّ صاحب المنزل بكتبه المخطوطة يدويًا كان منافسًا لأحد أبرز العقول التي مشت على سطح البسيطة؛ أقصد ألبرت أينشتاين .
المخطوطات اليدوية التي تمّ العثور عليها داخل المسكن القديم تؤسّس بشرحٍ مسهبٍ لنقد الفيزياء الكلاسيكية النيوتينية، وتقدّم بديلًا هو النسبية، بل أعظم من ذلك هي تضع المعادلة الشهيرة: الطاقة تساوي حاصل ضرب الكتلة مع مربع سرعة الضوء. بقدر ما يبدو هذا غريبًا وغير مستساغٍ البتة، إلا أنه وبحسب ما تشير إليه الأدلة، خصوصًا الرسائل، فإنّ صاحب المنزل -في الراجح- يكون من أبناء نهاية القرن الثامن عشر، توفّي في بداية منتصف القرن التاسع عشر، وتمّ إيجاد أعمال لوباتشفسكي ضمن مكتبته الخاصة.

إنّ الاستنتاج الذي يخرج به كلّ من شاهد المسكن واطّلع على أعمال صاحب المنزل ذاك، يوقن مندهشًا أنّ هذا الأخير قد سبق أينشتاين في اكتشافه للنسبية وتجاوز الفيزياء الكلاسيكية، إضافة إلى يقينٍ ثانٍ هو أنّ كلًّا من اينشتاين وصاحب المنزل لا تربطهما رابطة، والاستغراب الذي يزاول خاطر كلّ من يدرك هذه الواقعة، يتساءل لماذا لم ينشر صاحب المنزل أعماله ويغيّر العالم، ويغيّر نظرتنا للعالم والكون والزمن؟ ما الداعي الذي جعله يبقى ساكنًا ويرفض منح هذا العطاء الفذّ ويساهم في استباق مائة سنة مما نحن عليه الآن؟ نصّ الرسالة يحلّ لنا هذا اللغز، هو نصّ يبرّر فيه صاحب المنزل امتناعه عن نشر اكتشافه التاريخي العبقري، يبرّر لصديقه المجهول.. على أنني لن أنقل للقارئ ما جاء في الرسالة كلها مكتفيًا بالمقطع الذي يفسّر القضية لما تحتويه من تطويل في قضايا علمية مختلفة.

يقول صاحب المنزل في نصّ الرسالة:

أنا أدرك أنّ موقفي يبدو غريبًا، بل مزعجًا يقضّ مضجعك ويسبّب لك غضبًا حتى. أحترم مشاعرك وحبّك الإنساني للبشرية ورغبتك الصادقة في مساعدتها، غير أنّ لي أسبابًا شخصية تمنعني، أنت لا تدرك أنّ هذا الاكتشاف بعظمته لا يمثّل لي إلا مزيدًا من الخزي والعار داخل قلبي، إنّ شخصية الفيزيائي داخلي تتصارع مع شخصية الضمير، وقد قرّرتُ منح الانتصار لشخصية الضمير، سأشرح لك يا صديقي محترمًا هذا الزخم من الانفعالات التي تعاينها، أفهمك كن متأكدًا، لكن حاول أن تفهمني أيضًا.

سيبدو سخيفًا بل صبيانيًا سببُ منعي ظهور اكتشافي، لكنه في نظري عميقٌ عمقًا يتجاوز نظرية النسبية التي وصلت إليها، وها أنا آتي نظيفًا مباشرًا من دون تمهّل أو تمايل مضبّب. إنّ المانع في نهايته يتلخّص في كلمة واحدة هي: كذبة..

لقد كذبت كذبة على شخصٍ أنا مدين له بحياتي، ليس ذلك أيَّ شخص أقول لك، بل له تأثير هائل على روحي كما له الفضل فيما وصلت إليه من ذكاء وعلم، أنا أعلم أنّ كلامي يبدو غامض الملامح، سأحاول التبيان ما استطعت، هي الكذبة التي جعلتني أتمزق تمزقًا رهيبًا في نفسيتي، وصار ثقيلًا عليّ ثقل الجبال والسماوات مجتمعة أن أعود فأبرّر كذبتي أو أن أعترف بها مصلحًا الوضع. لا تأخذ كلامي على محمل السوء، إنّني شخصية متواضعة، متى ما فقدتُ اتزاني أو اخطأت في سياق ما، أعود فأعتذر عمّا بدر مني، لستُ ذلك الذي يتباهى وهو موقن في قرارة نفسه أنّه بعيد جدًا عن الصواب والحقيقة. التواضع كما الاعتداد الحقيقيّ بالنفس، سِمة الحكماء. إلا أنّ لي نقطة ضعف لم أفلح في التخلّص منها حتى الآن، وهي التي أجبرتني أن أستر كذبتي دون الاعتراف بها.

إنّني من بين الكثيرين، عيّنة من المجتمع، لا تعيش لذاتها بل تعيش لأجل شخصٍ آخر، أعيش من أجل إنسانٍ ثاني، فذاتي تكمن داخله، هو يمثّلها، فإذا كان سعيدًا عشت لذة السعادة، وإن كان مصابًا بالإحباط فقدت الحياة رونقها في نظري، لست أتكلّم عن حالة من العشق الهيامي بين رجل وامرأة، أو بين حبّ نقيّ خالد بين أم وابنها، هي حالة تختلف عن ذلك جميعه، فهذا الإنسان الذي أعيش من أجله ليس عشيقة وليس أمًّا، إنّه إنسان أنا مدين له. إنسان أنا مدين له بشيء عظيم لولاه لكنت في أسفل السافلين، يكمن بيان هذه الحالة في أن تكون ذاتُ المرء قابعةً وساكنةً في ذات الشخص المَدين له، مثلما كوزيت مدينة لجان فالجان في رواية البؤساء. وكوني مدين لهذا الإنسان يجعلني تحت قهرٍ عظيم من شعوري بلزوم ردّ الاعتبار، ردّ الجميل، حقيقيّ أنّ الإنسان السويّ لا يستسلم لمثل هذه المشاعر، غير أنّ أكبر من يعاني منها هم أصحاب الضمائر اليقظة، أصحاب الضمير المرهف الحساسية الذي يمثّل القيمة والفضيلة في أجمل تجلياتها، وعلى قدر الرهافة، على قدر الحساسية، يكمن ألم وأمل عظيمان؛ الأول منهما يسير بمحاذاة الثاني سيرًا متوازيًا لا ينقطع ولا يفترق البتة، هذا هو الجوهر الذي لا احتمالية في تفسيره فيزيائيًا ولا ماديًّا، هو شيء تفسيره الإنسان الحقيقي الذي يتجسّد في فكرة، في قيمة وفضيلة مطلقة، في عالم نورانيّ. 
تخيّل هذا الإنسان بهذا الضمير الذي لا يجد ذاتَه إلا عند الشخص المدين له، ثم تخيّل كذبة ولو من حجمٍ متوسّط، بل من حجم صغير، أقول لك تخيّل كذبة بحجمٍ ضئيل على هذا الإنسان العظيم، أنت ستحكم أنه بضآلة الكذبة وبرحابة نفس ذاك الشخص سوف تُحَلّ القضية، وهنا أجد أنّك خرجت عن القصد تمامًا، هو ممكنٌ برحابة النفس وممكن بضآلة الكذبة، لكنّ هذا اعتبار خارجيّ، هو يستطيع أن يغفر لي، لكنّ السؤال الحقيقي هو: هل أستطيع أن أغفر أنا لنفسي؟
القياس الحقيقيّ لا يتعيّن ببساطة السلوك، بل يتعيّن بمن المقصود من السلوك، فتحيّة عاديّة مع أحد المارة تكون تهذيبًا، لكنها إهانة في حقّ مَلِك من الملوك أو حبيب من الأحبة، و مجرّد تصوّر اكتشاف هذا الإنسان لكذبتي عليه سيدمّرني ولو اعتبرها مزحة.. أقول لك سيدمّرني ولا عجب إن نال مني انهيار عصبي أودى بحياتي إلى التراب. ولنفترض للحظة أنه تمّ الكشف عن نظريتي والمصادقة عليها، ونلت جائزة نوبل، وتغير العالم تغيرًا جذريًا في تصوّرنا له، وسيقولون حتى أنّ التاريخ الإنساني تعرّض لثلاثة هزّات فكرية، هزة كوبرنيكوس وهزة نظرية النسبية ثمّ هزة داروين، وستضع الطبقة المثقفة تمثالًا لي أمام أحد المتاحف.. نعم، نعم، كله يبدو جميلًا ورائعًا ويبثّ السعادة الغامرة، لكن لِلحظة واحدة وثانية فقط ينهار كل ذلك حينما تلتقي عيناي بعيني ذاك الإنسان، نظراته تذكّرني بكذبتي، يقول لي في صمتِه بحروف مسموعة غير منطوقة: أنت قزم صغير تعيش داخل جثة ضخمة لها عقل عبقري.
هل تعرف ما هو القزم الصغير؟ هو حقيقتي الإنسانية التي تعيش بين منكبَي، حقيقتي الإنسانية الكاذبة الخادعة المشوهة، هكذا تظهر في صورة قزم صغير عند البشر الطاهرين، عند الأرواح الشفافة. حقًا لا أطيق تلك الفضيحة ولا قدرة لي على مقاومتها أو التعايش معها، إنها منذ الآن تخِزني وخزًا ثاقبًا، ولا تُسِئ فهمي فتظنّ أنني أخاف من الجمهور، من المجتمع، كن على يقين أنني لا أؤمن بالمجتمع، ولا أعرف له عليّ تأثيرًا البتة، الفضيحة التي أتكلم عنها هي فضيحتي مع ذاك الإنسان فقط، أنا وهو لا آخرون سوانا، لا يهمّني العالم، فليذهب للجحيم، ما يؤرقني ويصيبني بالإحباط وكره الحياة هو كذبتي على ذلك الشخص فقط، كأننا في الكون سوانا لا أحد معنا. وأن تنعتني بالجبن لعدم مجابهتي إياه والاعتراف، أنا جبان إذن، أجبن جبان حتى واأسفاه، سينشقّ قلبي ويصاب دماغي بنوبة صَرَع قبل أن أتمكن من متابعة بصره يرمقني بنظرات حادة، التصوّر وحده يفاقم من حالتي المرضية، وأنت تعلم أنه لم يبقَ لي وقت طويل في هذا العالم، ولأني أكتب هذه الرسالة لك أبرّر فيها، فإني أستفيد بك أن تنقل الرسالة إليه بعد أن تتمّ عملية دفني. أدرك صعوبة المسألة بالنسبة إليك، فقط لا تنسَ أنك وعدتني بأن تمتنع عن نشر أيٍّ من مخطوطات الأعمال التي قمت بإنجازها.
يضحكني قلقك حقيقة، تعتقد يا مسكين أنّ البشرية بهذا الاكتشاف سوف تحصل على قفزة نوعية في نضجها المعرفي، قد يكون.. ربما، لكن إذا كنا تعلّمنا شيئًا من التاريخ فهو أنّ الأفكار لها أجنحة، تطير الأفكار بأجنحتها من شخص لآخر ويذاع صيتها في أرجاء المعمورة وتنضج البشرية في وقتها، لا تتخلف عنه، كما لا تتخلف نبتة صغيرة عن موسم براعمها، هكذا يتضح أنّ امتناعي عن نشر أعمالي لن يُقابَل إلا بنتيجة واحدة هي أنّ نفس الأعمال سوف يتم اكتشافها من طرف شخص أو مجموعة أشخاص آخرين، هم يقومون بإهدائها إلى البشرية في حينها، في وقت لقاحها لا قبله، فلا تجزع و لا يضطرب قلبك الجميل.

لا شكّ أنك ترتاب في نوع هذه الكذبة التي سببت كل هذه الفتنة، لذلك أعود فأذكرك أنّ المسألة تتعلق أقصى ما تتعلق بمن المكذوب عليه لا بحجم الكذبة حقيقة، على أنّها كذبة في نظري قادرة على محق شخصية بأكملها.

هكذا بقيت أعمالي في الرفوف لم تغادرها لتبصر الضوء بين العلن.

إعلان

اترك تعليقا