الفن بديلًا للحياة: هل يستمر العـالم بدون هذا العزاء؟

كم مرة كان يومنا قاسيًا، وفكرنا في حاجتنا إلى فيلم أو أغنية، أو ربما لوحة، كي نفرغ فيها يأسنا، ونعيد بناء ذواتنا من جديد، أو وجدنا أنفسنا مأخوذين بشخصية خيالية، في هذه الرواية أو ذاك الفيلم!

ربما ود الواحد منا في كثير من المرات لو استطاع عبور حدود النص الأدبي أو الكادر السينمائي؛ ليكون إلى جانب هذا أحد أبطال عمل فني محبب، لمشاركته لحظات فرحه وألمه، وتلمس حقيقته على نحو أقرب. بهذه الطريقة نحن نشعر أن هذا البطل قريب من واقعنا بصورة ما، وأنّ انتصاراته ونكاته وضحكاته، وحتى هزائمه، هي انعكاسٌ لحيواتنا الخاصة، ونتمنى لو يصير عالمنا فيما بعد استكمالًا لحياة هذا البطل؛ لأنه حقق في تلك المساحة المتخيلة ما وقفنا نحن أمامه عاجزين عن تحقيقه في الواقع، لقد بات هذا البطل وسيلتنا السحرية للنجاة.

الفن

إنّ هذا التساؤل المقلِق حول ضرورة الفن في الحياة قد يشبه إلى حد كبير موقف الفنان الفرنسي متعدد المواهب، جان كوكتو، الذي عبّر عن حيرته إزاء الشعر، والفن عمومًا، بنبرة تنهيدية حين قال: «الشعر ضروري.. وآه لو أعرف لأي سبب».. فهل يمكن الاستغناء عن الفن يومًا ما؟

الفن كبديل ضروري عن الحياة:

يطرح الرسام الهولندي بييت موندريان، رأيه بشأن العلاقة بين الفن والحياة في اعتبار أنّ الفن يمكن أنْ يختفي، عندما تصل الحياة إلى أعلى درجة من التوازن، حين لا يجد الفن لنفسه موطئ قدم فيها. وفقًا لموندريان، يمكن اعتبار الفن بناءً على هذا الطرح بديلًا للحياة، كوسيلة لتعويض النقص فيها، وبالتالي تحقيق التوازن بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، لأن غاية الفن الأساسية هي تعويض النقص الدائم في الحياة.

إعلان

ولأن القصور الدائم هو أمر لازم لوجود الحياة، باعتبارها معركة في السعي نحو تحقيق ما هو أفضل، وهو ما يذهب إليه كارل بوبر، الذي يعتبر أنّ هذا النقص تحديدًا هو ما يدفع الكائن الحي نحو الاستمرار في طلب تحقيق حالة أفضل، وبالتالي استمرار حياته، فإنه من المعقول تمامًا استبعاد وجود عالم بلا فن، إذا سلمنا بدوام القصور فيه.

فهذا القصور الدائم في الحياة الذي يسعى الفن إلى سده، لا يمكن أن ينتهي، إلا بانتهاء الحياة ذاتها، لأن كمال الحياة يعني بالضرورة فناءها؛ فبقاء الفن يعتبر مؤشرًا ملازمًا لاستمرار الحياة بطريقة أو بأخرى، سواء كان الفن هو الذي يدفعها نحو الاستمرار، بتقديم التعزية للبشر، أو أنّ الحياة بأوجاعها هي التي تحفز وجوده بهذا النقص الأصيل فيها.

الفن كديانة:

يسأل الناقد الفني البريطاني، كلايف بل، في كتابه عن الفن، سؤالًا ربما يبدو تقليديًا عما يمكن أنْ يسديه الفن إلى المجتمع، لكنه يجيب عنه إجابة شاعرية، مفادها أنه يضيف إلى المجتمع روحًا، بل ربما يطلق سراحه؛ لأنه يحتاج الخلاص.

وانطلاقًا من هذه الرؤية يمكن اعتبار الفن مسيحًا مخلصًا، للمجتمع وللفرد في آن، لكنْ في الوقت الذي يعد فيه المسيح الحقيقي بمملكة سماوية، ليست من هذا العالم، فإنّ الفن يمكن أن يفتح أبواب مملكته السحرية الواسعة في غرفة المرء. وبينما تقف مملكة المسيح المؤجَّلة موقفًا سلبيًا تجاه ألم البشرية المصلوبة- خلال لحظتها الراهنة على الأقل- فإن الفن يستثمر هذا الألم، ليضيف إلى العالم خبرة أو متعة، أو حَتّة منفعةٍ لم تكن موجودة من قبل.

لهذا قد ينظر المرء إلى الفن باعتباره عنصرًا يكافئ ما للدين من قوة روحية، وهذا النظرة ربما جاءت نتيجةً للفراغ الروحي الذي يجده إنسان العصر الحديث في نفسه، جرّاء الكثافة المقلِقة للمستجدّات الطارئة في عالمه، مما يجعله دائمًا في موضع الاغتراب الذي يتجدد باستمرار طالما تجددت دماء العالم.

وما يرجّح كفة الفن في هذا الإطار، هو أنه وليد عصره- كل عصر- ، لهذا قد يجد المرء لديه ضالته في التعامل مع كل الأشياء المطروحة والتي تنمو بشكل متسارع، واختبارها على نحو معمَّق وعصري، بل قد يساهم الفن نفسه في إثارتها لدى كثير من الأحيان، باعتباره ما يمكن وصفه بالفلسفة المحسوسة. ويؤكد «بل» هذه الفكرة بقوله: «الفن تعبير عن، ووسيلة إلى، حالات ذهنية، لا تقلّ قداسة عن أية حالة ذهنية يمكن للبشر أن يختبروها.. وإذا صحّ أن هذا العصر بات على وعي بحاجته الروحيّة ويتوق إلى إشباعها، فيبدو من المعقول أنْ يلتمسوا في الفن ما يريدون».

الفن كعزاء للبشرية:

من ناحية أخرى، حتى لو استمر النقص في الحياة دون وجود الفن، كي يسد هذا النقص، لأي من الأسباب- وهو أمر قد يبدو مستبعدًا وفقًا لما طرح سابقًا- ربما بسبب عدم حاجة العالم الرأسمالي للفن أو للفنانين على سبيل المثال، فإنّ الحياة حينها لن تكون محتملة، إنْ لم يكن للمجتمع ككل، فلأفراده. وهو ما يؤكده قول الكاتب البريطاني جورج برنارد شو: «بدون الفن ستجعل قساوة العالم الحياة غير محتملة»، فالفن كما يقدم فرصة اختبار خبرات معرفية جديدة، فإنه يفرض نفسه كملهاة مُعزِّية عن واقع الحياة.

ولعلّ الكوميديا خير دليل على هذا العزاء الذي يمكن أنْ يمثله الفن للفرد، فهذا النوع من الفن يقدم حكاية معقدة، عادة ما تنتهي بحل هذا التعقيد، معلنةً عن انتصار الإنسان، لهذا يمكن اعتبارها احتفالًا فنيًا بالحياة، لأن نهايتها السعيدة تؤكد طاقة الإنسان وانتصار إنسانيته. الفن بهذا المعنى، يُلهي الإنسان عن أسئلة الحياة المعقدة، ويأخذه بعيدًا نحو عالم متخيل، ربما قد يجد فيه سعادته المنشودة، وهو ما يشير إليه المخرج وودي آلين حين يذهب إلى أن الكثير من الواقع قد يكون صعبًا للتحمّل، لهذا يجب دائمًا أن يدفع المرء هذا الواقع جانبًا، حتى يستمر في الحياة، وهو ما قد يتكفل به الفن على نحو جيد.

المراجع:
-إرنست فيشر، ضرورة الفن، ترجمة أسعد حليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
-كارل بوبر، بحثًا عن عالم أفضل، ترجمة أحمد مستجير، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999.
-كلايف بل، الفن، ترجمة عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، 2013.
-محمد عناني، فن الكوميديا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد عبدالجليل

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

تدقيق علمي: نهال أسامة

اترك تعليقا