العنف ضد المرأة: أمٌّ معنَّفة أطفال مقهورون
قد لا يجول في خاطر أحد أنَّ الأثر النّفسي الذي يتركه العنف المنزلي على الأطفال قد يبدأ من مراحل الطّفولة المبكرة جدًّا، ويستمر حتى مراحل متقدمة من العمر. ويمكننا أن نكون أكثر دقةً إذا ما تحدثنا عن انعكاس صورة الأمّ المُعنَّفة على شخصية أطفالها.
من مرحلة الطفل الرّضيع وحتى مرحلة ما بعد البلوغ.. لطالما كان الأطفال أكثر من مجرد كائنات على هامش الحياة في منزلٍ قائم على فوهة بركانٍ يُسمى “العنف الأسري”.
الطفلُ الرَّضيع يلتقط إشارات التوتر.. والعنف المنزلي:
حتى إن لم يكن جزءًا من المشهد، فالطفل الرضيع يكاد يكون جهاز استقبال لكل ملامح الغضب والعنف المنزلي. فإن الطفل الذي يكبر في بيئة يشوبها الغضب والتوتر يكون أكثر حساسية للنبرات الغاضبة، وإن ذلك يترك أثره على النمو العاطفي والاجتماعي للطفل.
وقد يكون من المفاجئ للبعض أن يعرف أنّ رضيع الأم المكتئبة يظهر انفعالات حزن أكثر من تلك التي يظهرها الطفل العادي.
كما أنَّ أعراض العنف التي يتلقى الرضيع إشاراتها تتخَزَّنُ لديه، وتصير دليله للتعامل في مواقف مختلفة.
أثر العنف ضد الأم على الطفل فيزيولوجيًّا:
ترتبط المنبهات الخارجية بردود أفعال فيزيولوجية، فمثيرات التوتر تؤدي إلى زيادة إفراز الكورتيزول، وإن ارتفاع نسبة الكورتيزول لدى الأطفال ولو بشكل طفيف من شأنه أن يؤدي إلى عدم استقرار نمو العظام. هذا عدا عن الآثار الأخرى التي من الممكن أن تشمل البدانة وتحديدًا في القسم العلوي من الجسم، وترقق الجلد، وظهور حب الشباب، وضعف النمو وغيرها من الأعراض التي قد تتفاقم إذا ما ازداد تراكم الكورتيزول في الجسم مما قد يؤدي إلى الإصابة بـمتلازمة كوشينغ.
“وترتبط مستويات الكورتيزول أيضًا بأنماط الأمان، حيث يختلف مستوى الكورتيزول بوضع الأمان. فبالمقارنة بين الأطفال الذين يتعرضون لمواقف غير آمنة يمكن ملاحظة أنَّ الهرمون يرتفع عندهم مقارنة بالأطفال الآمنين، وأخيرًا يرتبط مستوى الكورتيزول على مدار اليوم بوحدة الرّعاية، فإذا كان الطفل يتلقى رعاية رديئة الجودة يزداد هرمون الكورتيزول على مدار اليوم، بينما ينخفض مستواه على مدار اليوم لدى الأطفال ذوي الرعاية عالية الجودة.”*
أمراض البالغين قد ترجع أسبابها إلى مراحل مبكرة من الطفولة:
إنَّ تعرض الأمهات للعنف أثناء فترة الحمل يؤدي إلى إنجاب أطفالٍ معرّضين -بعد فترة البلوغ- للإصابة بالإلتهابات ثلاث مرات أكثر من الذين ولدوا لأمهات لم يتعرضن للعنف. هذه الإلتهابات تؤثر بشكل مباشر على الصحة الجسدية، وترفع احتمالية الإصابة بالإكتئاب.
من أخطر آثار تكرار تعرض الأطفال لتجارب سلبية في مرحلة الطفولة (ACEs) هو الإصابة بحالة من التوتر المعروف بـالتوتر السّام Toxic Stress، والذي يمكن أن يؤدي بدوره إلى أمراض جسدية خطيرة قد لا تظهر حتى مرحلة ما بعد البلوغ، ومنها:
تأخر نمو الدماغ.
ضعف الجهاز المناعي.
ارتفاع ضغط الدم.
أمراض القلب والأوعية الدموية.
مرض السكري.
خلل في نظام الاستقلاب (الأيض).
الذين تعرضوا للمحن بشكل كبير دون وجود بالغين يقدمون العناية أو المساعدة اللازمة لهم هم عُرضةً مرتين أكثر لخطر أمراض القلب والسرطان، كما أنهم عُرضة للموت المُبَكِّر.
تأثير العنف الأسري على الصحة النفسية للأطفال:
الأطفال الذين عانوا من وجودهم في جوٍّ يشوبه التوتر والعنف وعدم الاستقرار، وخاضوا أو شهدوا تجارب سلبية تجاوزت بعددها الأربع تجارب، فإنّهم:
• أكثر عرضة بأربع مرات للمعاناة من الاكتئاب.
• أكـثر عـرضة بثمان مرات للإدمان على الكحول.
• أكثر عرضة بعشرين مرة للإدمان على المخدرات.
على الرغم من أن جميع الأطفال يظهرون علامات الحزن من وقت لآخر، إلا أن بعض الأطفال الرّضّع أكثر حزنًا من غيرهم، حيث يتعرض الرضّع من الأمهات المكتئبات لخطر خاص. إذ يُظهر هؤلاء الرّضّع سلوكًا اجتماعيًّا مكتسبًا، ليس فقط عند التفاعل مع أمهاتهم، ولكن أيضًا عند التفاعل مع شخص غريب تمامًا.
قد يكون الطفل قد اكتسب انفعالاته هذه بعدة طرق:
• الجينات المشتركة.
• من خلال آثار انخفاض فرص التفاعل الإيجابي في المنزل.
• تقليد سلوك الأم.
• من خلال تأثير اكتئاب الأم على الطفل…
فالأمهات هنَّ من ينشئن أنماط التعابير الانفعالية عند الرضّع.”
كما أنّ للعنف الأسري تأثيرًا خطيرًا جدًّا على النمو لدى الأطفال، بما في ذلك مشكلات التعلم، وكذلك تطوّر مشكلات الصحة النفسية.
التأثيرات الاجتماعية:
إن العنف ضد الأم من شأنه أن يؤثر سلبًا على الرابطة بين الأم وطفلها.
فالعنف الموجّه ضد المرأة الأم من شأنه أن يترك أثره بشكل جلي على شخصيتها من خلال مظاهر عدة، قد يكون منها عدم ثقتها بنفسها، أو نظرة طفلها لها على أنها شخص غير جدير بالاحترام.
قد يكبر الأطفال وهم يكبتون مشاعر الغضب نحو أمهم لاستمرارها في علاقة مع كائنٍ مُعنِّف، وقد يصل بهم الأمر إلى تشكيكهم بعاطفتها تجاههم.
إنّ أمرًا كهذا لا بدّ أن يجعل من علاقة الأطفال بأمهم علاقة غير طبيعية، وبالتالي قد يلقي بظلاله على مستقبلهم الاجتماعي والعاطفي، فقد يؤدي إلى:
• الأميّة الوجدانية لدى الاطفال، والتي تعرف بأنها الخلل في الآداء الوظيفي العاطفي لدى الفرد، أي أن يكون عاجزًا عن فهم مشاعره، وتحديدها، أو التعامل معها، والتعبير عنها. كذلك الأمر بالنسبة لتعامله مع مشاعر الآخرين، فيكون غير قادر على احتواء عواطف الغير، وتقبلها، أو حتى بذل أدنى مستوى من العاطفة نحو الآخرين بما في ذلك مشاعر التعاطف أو الشفقة.
• مظاهر الأمية الوجدانية عديدة، وعلى رأسها ارتفاع معدل الجرائم بأنواعها، وزيادة معدلات تعاطي المخدرات، والتعود على استخدام المواد المؤثرة عقليًّا، وكذلك زيادة معدلات الفشل الدراسي…”*
• عدم الكفاءة الاجتماعية.
• انخفاض سمات التعاون وروح المرح لدى الطفل.
• عدم اتسام الأطفال بالمرونة أو الفضول المطلوب لتنمية مهارات الاستكشاف وحل المشكلات.
• أما في المجتمع المدرسي فإن الأطفال الذين عاينوا العنف ضد أمهاتهم سيكونون أقل فاعلية في تفاعلهم مع المعلمين والأقران في المدرسة.
• وكذلك فإنهم قد يعانون من انخفاض مستويات التحفيز المعرفي.
أمٌّ معنَّفة.. طفلٌ يتبنّى الموقف:
إن العنف الموجه ضد الأم من شأنه أن يقود الأطفال إلى تطوير معتقدات سلبية عن أنفسهم منها إحساسهم بعدم الثقة بالنفس، وشعورهم الدائم بأنهم ليسوا أهلًا للحب. كما قد يؤدي إلى تبني الأطفال بعض الأفكار المرتبطة بتبرير العنف “أنا رجل.. فأنا المسؤول.” “أمر الله أن اٌقوِّم اعوجاج هذه الأسرة.. ” وأخيرًا الإيمان الدائم بأن المرأة أقل شأنًا.
أمّا الفتيات فمن المعتقدات التي قد تتكوَّن لديهن نتيجة نشأتهن في كنف أمٍّ مُعنَّفة: أنّهنّ خُلقن لتأدية دور الضحية. كما أنهن قد يفقدن الأمل بوجود رجال لا يؤمنون بلغة العنف، ولا يستخدمونها. وقد يبرِّرن العنف على أنه جزء من طبيعة الرجال، فيكبرن وسقف أحلامهن وطيء لا يرتفع.. ويركُنَّ لنموذج أوحد “زوجٌ مُعنِّفٌ.. وأمٌّ مستكينة.” لكن لأمر أكبر من كونه نمط علاقة بين زوجين.
إنّ الطّفل الذي ينشأ في بيئة تعنيف يصنَّف على أنه تهديد حقيقي على أي محيط يحتك به بدءًا من الصف المدرسي انتهاءً بالمجتمع ككل.
كل ما قد ذكرناه يكاد يكون غيضًا من فيض، فإذا ما كنا نؤمن بأن العنف بكل أشكاله خطرٌ لا يمكن أن يُستهان به، فإن العنف ضد المرأة، وضد الأم بشكل خاص هو خطرٌ عظيم من شأنه أن يزلزل أهم ركن من أركان التربية، وأن ينتج للمجتمع جيلًا مهزوزًا ومُنهكًا جسديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.
المصادر:
الارتقاء الانفعالي والاجتماعي لطفل الروضة – علاء الدين كفافي؛ مايسة أحمد النيال؛ سهير محمد سالم.
علم نفس النمو– رافع الزغول؛ خلدون الدبابي؛ عبد السلام عبد الرحمن؛ سوزان مطالقة.
https://parentingscience.com/can-babies-tell-when-parents-are-fighting/
https://developingchild.harvard.edu/science/key-concepts/toxic-stress/
https://www.womenshealth.gov/relationships-and-safety/domestic-violence/effects-domestic-violence-children
https://www.canada.ca/en/public-health/services/health-promotion/stop-family-violence/prevention-resource-centre/women/little-eyes-little-ears-violence-against-a-mother-shapes-children-they-grow.html